منى فرح *
لا يمكن المبالغة في تقدير الصدمة مما يجري في أوكرانيا. فبعد تراكم واضح، استمر لأشهر، وفي تحدٍ واضح لتحذيرات لا نهاية لها من الغرب، بدأ تنفيذ أسوأ سيناريو كان يمكن تخيله. فلاديمير بوتين نفّذ قراره، والعالم الآن ينتظر رد بايدن “لأن انفلات دوامة التصعيد مسؤولية جسيمة يتحملها هو”، بحسب المؤرخ العسكري “أندرو سالمون” في هذا التقرير.
لم يبدأ القتال في أوكرانيا فحسب، بل أن كل الدلائل الأولية تشير إلى أن القتال بدأ على نطاق واسع، وأوسع مما كان متوقعاً؛ فالأمر بالتأكيد ليس ولن يكون عملية محدودة للاستيلاء على دونباس.
وقد ثبت أن كل تلك التحليلات التي لا حصر لها، والتي نُشرت في أكثر من مكان وعلى مدار أيام وأسابيع؛ بما في ذلك من قبل كاتب هذا المقال (https://asiatimes.com/2022/01/the-case-against-a-russia-invasion-of-ukraine/)؛ أنها خاطئة. إذن، ما الذي دفع ويقود هذا الوضع الراهن والخطير للغاية؟
من المرجح أن الزعيم الروسي قد تشجع بدافع مجموعة من التجارب السابقة، بينها نجاح مشاريعه السابقة في المجال العسكري، وأبرزها الطريقة التي أنهى فيها الحرب في الشيشان، والهجوم الإنتقامي الذي شنّه على جورجيا، ومن ثم ضم شبه جزيرة القرم، والرعاية المباشرة التي يوليها للجمهوريات الانفصالية في دونباس، وانخراطه في الحرب السورية من دون أن يتكبد خسائر تُذكر هناك.
لقد نجا بوتين من كل الارتدادات وردود الفعل السلبية التي كانت مرتقبة ومتوقعة جراء كل ما سبق؛ سواء كان إرهاباً شيشانياً أو عقوبات غربية؛ وذلك من دون أن تهتز سلطته.
قد يكون عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف “الناتو” بعد؛ وافتقارها إلى الحُلفاء، قد وهبا بوتين ما يكفي من قوة دفع لاستعراض عضلاته العسكرية. وبالطبع، فإن جيشه “وحش” مختلف تماماً عن تلك القوة غير المنظمة التي ورثها عن سلفه بوريس يلتسين. جيش بوتين يبدو أداة قوية للغاية، إن لم يكن ضد حلف شمال الأطلسي، فبالتأكيد ضد دولة نائية مثل أوكرانيا.
علاوة على ذلك، ففي حين حققت روسيا بنجاحات عسكرية عديدة في الآونة الأخيرة، يشعر فريق بوتين بالراحة جراء إخفاقات الولايات المتحدة الأخيرة في ممارستها قوتها الصارمة.
لقد تعرضت أميركا لإهانة وإذلال في الصومال. تقلصت فرصها وإرادتها لتحقيق انتصار حقيقي في العراق. مؤخراً، أدى الإنسحاب من أفغانستان؛ الذي صمّمه رئيس أميركي ونفذه آخر؛ إلى إغلاق الأبواب أمام تدخل غربي دام 20 عاماً وفتح الأبواب أمام انتصار شبه فوري لحركة طالبان.
بل وأيضاً ربما يكون بوتين قد أضفى طابعاً شخصياً (كاريزما) على سياسته ويشعر بالراحة تجاه ضعف بايدن، و”هرجة” بوريس جونسون، ولكون إيمانويل ماكرون عديم الجدوى، ولأن أنجيلا ميركل لم تعد موجودة على الساحة السياسية.
وقد تكون الأمور أسوأ مما يوحي به تقارب العوامل أعلاه.
تشريح الأهداف:
إن التحركات الاستباقية التي تقوم بها روسيا؛ الضربات الصاروخية الدقيقة، والهجمات السيبرانية الضخمة عبر أوكرانيا؛ تبدو مصممة لتدمير البنية التحتية العسكرية والداعمة، أي “نزع السلاح” الذي تحدث عنه بوتين.
إذا نجح هذا التكتيك، كما يبدو مرجحاً، فذلك سوف يمنح روسيا التفوق الجوي الفوري، ويمكّنها من شنّ غارات جوية على نطاق واسع فوق أوكرانيا.
حتى لحظة كتابة هذا التقرير، وسط فوضى الحرب، لم تكن تفاصيل الهجوم البري واضحة بعد.
كان الهدف المتوقع على نطاق واسع هو منطقة دونباس الشرقية، وقد يظل هذا هو الهدف بالفعل.
ومع ذلك، هناك بالفعل تقارير عن عمليات بحرية، ما قد يشير إلى تحرك أكبر للاستيلاء على ممر على طول ساحل “آفوز” الذي يربط شبه جزيرة القرم ودونباس وروسيا. ففي نهاية الأمر، تشير العديد من التحليلات إلى أن قدرة شبه جزيرة القرم على الصمود والبقاء، وهي المنطقة المنعزلة عن اليابسة المجاورة لها، أمرٌ مشكوكٌ على المدى الطويل.
هل يمكن أن تتوسع العملية التي بدأت فجر الخميس، وتصبح أكثر عنفاً، وتسفر عن غزو واحتلال مدن رئيسية وإقامة حوكمة دمية في جميع أنحاء أوكرانيا؟ أم أنها مجرد “غزو من المدرسة القديمة”؟
أياً كان الأمر، السؤال الإشكالي هو: كيف ستقاوم أوكرانيا؟ إنها محاصرة من ثلاث جهات، ومغلوب على أمرها وعديمة الخبرة.
هل سيفعل الأوكرانيون ما فعله الفنلنديون في عام 1939 ويقاتلون مثل الجحيم، ما تسبب في خسائر فادحة قبل التوصل إلى وقف لإطلاق النار عن طريق التفاوض؟ هل سيوقف جيشهم النظامي القتال التقليدي وينتقل إلى تكتيكات حرب العصابات، مما يؤدي إلى نزيف الشباب الروسي؟ أم أن المقاومة الوطنية سوف تنهار؟
أيا كانت الاستجابة، وبغض النظر عن الرد المرتقب، فإن هذا وضع رهيب بالنسبة لأي دولة، ناهيك عن دولة تقع على حدود أوروبا المزدهرة حيث الطبقة المتوسطة هي المسيطرة.
روسيا تخلع القفازات:
السؤال الأكبر الآن هو ماذا سيفعل الغرب بعد ذلك. هذا هو التحدي الأكبر الذي وضعته روسيا أمامها منذ أنهت الحرب الباردة بتذمر.
من الردود المرتقبة أن تنشأ حرب هجينة غير حركية: مالية، تجارية، هجمات سيبرانية وإلكترونية، وحرب الطاقة؛ وربما فتح معبر للأسلحة إلى أوكرانيا لدعم المقاومة.
لكن كيف ستتعامل أوروبا إذا انقطع الغاز الروسي؟ هل ستكون دول حلف “الناتو” الشرقية على استعداد للمجازفة بأن تكون قنوات تسلح أو ملاذات للمقاتلين الأوكرانيين؟
ولا يسع المرء إلا أن يأمل في أن تتعامل دول “الناتو” في أوروبا الشرقية؛ التي يتمتع بعضها بسجل ضعيف في سياسات الهجرة التي انتهجتها خلال السنوات الأخيرة، ولديها خلافات مع الاتحاد الأوروبي بشأن هذه المسألة بالذات، مع تدفق المزيد من اللاجئين كل يوم ومن كل صوب.
من الواضح أن بوتين قد قرر أن الأمر يستحق المخاطرة باقتصاده على مذبح الأمن. تشير بعض التحليلات إلى أن روسيا ستكون قادرة على مقاومة حتى أقسى عقوبات “اللعبة” لمدة عام.. وبحلول نهاية تلك الفترة، ربما تكون روسيا قد دخلت في ركود حاد.
ولكن على المنوال نفسه، يمكن أن تصبح أوكرانيا دولة متقلصة إلى حد كبير، أو عبارة عن قمر صناعي لروسيا مع دمية في مركز القيادة، وظيفته إبقاء الغرب على بعد ذراع من قلب روسيا.. أو ببساطة قد تصبح مجرد أرض قاحلة.
لقد اتخذ بوتين قراره ونفذ مخططه. والعالم الآن ينتظر رد بايدن.
وبالنظر إلى ما هو موجود على المحك الآن، وبالنظر إلى خطر وقوع صدام أوسع وانفلات “دوامة التصعيد” التي إن بدأت فلن ينفع معها أي قوة كبح، يبقى القول إن ما جرى ويجري مسؤولية جسيمة يتحملها رئيس الولايات المتحدة الأميركية.
(-) النص بالإنكليزية على موقع صحيفة “آسيا تايمز“:
(https://asiatimes.com/2022/02/putin-lurches-from-cold-rationality-to-incendiary-gamble/)
ــــــــــــــــــ
* صحافية لبنانية
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.