معن البياري *
اختار الروائي اللبناني، الفريد حقـاً، ربيع جابر، اسماً لملحمته، “بيروت مدينة العالم”، (دار الآداب، المركز الثقافي العربي، 2003). ولا أظنّه أراد مديحاً، وإنما إحالةً إلى ما كانت بيروت توصَف به، إبّان وقائع روايته هذه (المتخيّلة والتاريخية في آن)، نهايات القرن التاسع عشر، وقبيل الحرب العالمية الأولى. وفي مقاطع من هذه الرواية التي تزيد على ألف وثلاثمائة صفحة (ثلاثة أجزاء)، أصابت الكوليرا بيروت. والنور انعكس “على زجاجٍ في العمارات عند الميناء، فبدت العماراتُ كأنها تشتعل بالنار”. أما النار التي اشتعلت في العمارات حوالي ميناء بيروت، وقدّامه، وأخرياتٍ قريبةٍ منه وبعيدة عنه، مساء الثلاثاء الماضي، فليست مجازاً بفعل نورٍ كان يسقط عليها، بل بفعل انفجارٍ مهول، جاء ليزيد في فداحة الفضيحة التي يُحدثها فاسدون لصوصٌ حاكمون، كأنهم منذورون لتخريب لبنان ونهب أهله. انفجارٍ جعلنا نتثقّف بشأن نترات الأمونيوم، ونتعرّف إلى أصول تخزينها، بعد أن ظلّت بيروت تثقّفنا بأبجديات المعرفة بالعالم وحداثاته، وتعرّفنا بالحرّية في قول ما نتلعثم في قوله. ولأنها بيروت، وليست أرضاً أخرى في الجغرافيات العربية، ولأن المشرق لم يكن ليصير على ما صار عليه لولا ميناؤها، على ما كتب عارفون، ولأنها مدينةٌ عبر قومية منذ لحظة نشأتها الأولى، وشرقيةٌ وغربية في آن، كما كتب سمير قصير، في مؤلفه الباهظ الأهمية، “تاريخ بيروت ..” (صدرت ترجمته العربية من الفرنسية عن دار النهار، بيروت، 2007)، لأنها كذلك، ولألف سببٍ وسببٍ، كان من عاديّ الأمور أن تُطوَّق بيروت بكل عناقيد الحب والجلال والغبطة في قصائد ونصوصٍ ولوحاتٍ وإبداعاتٍ بلا عدد، وبما أشعّته فيروز عنها من غناءٍ نستعيده، في هذه الأيام، ليحمينا من قهرٍ أكثر، ومن ملحٍ يحزّ حناجرنا، ونحن نشاهد بيروت التي فينا تموت، وقد أعمل فيها السرّاق وسماسرة الدم والأمونيوم ما نرى.
تُراها ضجرت بيروت مما خلعه عليها الشعراء والمغنّون والمؤرّخون، ولم تعد تريد أن تكون خيمتَنا الأخيرة، على ما قالت جملة محمود درويش عنها. كتب ممدوح عدوان، في قصيدةٍ له، إنها لِحافُنا. وأظنها خلعت، منذ زمن، هذا اللحاف عنها وعنّا، كما أن أعطاباً في روحها، أثقلتها أربعة عقود مضت (على الأقل أم على الأكثر؟)، لا تجعلها باقيةً خيمةً. ثم كيف لخيمةٍ أن يخزَّن فيها الأمونيوم؟ كأن بيروت، بالانفجار الذي سبق ذكرى هيروشيما بيومين، تعلن لصنّاع الشعر والرواية والمسرح أنها لم تعد تطيق تلك “الوظيفيّة” التي اختاروها لها. كأنها تسألهم أن يُعفوها مما يريدونَها أن تكون، مما في مخيّلاتهم عنها. تريد أن ترتاح، أن تعبُر من أرشيفها ذاك إلى أن تصير بالغة العادية، بلا مجازاتٍ أو استعارات، وقد فعلتْها ولم تعد مدينة المصارف والصحافة والفنادق. رآها معين بسيسو مرَةً مدينة بعيدة، وكتب إنها “وراء حائطٍ تحيا/ وراء حائطٍ تموت”. وحيطانٌ عاليةٌ انكتبت عليها مدائح غزيرة لبيروت، يروق لنا، ونحن في سرير النوستالجيا، في غضون محنة بيروتنا التي غادرتنا، أن نسطّر عليها استعاراتٍ أكثر وأكثر، نُرهق فيها “مدينة العالم” أكثر وأكثر، فيما هي تنسحبُ من مخيلات الحالمين، وقرائح الزجالين (وثرثرات الدجّالين أيضاً؟) وتفعيلات الشعراء، وتنزل إلى الأرض بما في هذه الأرض من أمونيوم، ومن نصّابين، ومن وزراء ورؤساء حكومات ونواب وممانعين.
أن تغادر بيروت المجازات يعني أن ينالَها بعض الهجاء. وذاك خطيبُ روما قبل الميلاد، شيشرون، قال إن المدن المينائية تشترك في ضربٍ من الفساد والانحلال الأخلاقي. ورأى مؤرّخ عتيقٌ، قبل قرن ونيّف، أن بيروت ميناء شرقي، ولقيطة مهجّنة. وسأل أدونيس مرّة إن كانت بيروت مدينةً حقاً، أو اسماً تاريخياً. وجعلت غادة السمّان بطلة قصتها “لا بحر في بيروت” فتاةً دمشقيةً تتخيّل بيروت مدينة الجمال والحب والحرية، ثم لمّا قدمت إليها لم ترَ هذا، وصارت تشكّ في أن البحر حقيقي في المدينة ذات الأزهار الاصطناعية، والملطّخة بالأصباغ. … ولو نقرأ نصوص الشباب والشابات اللبنانيين الراهنين، عن بيروت التي بين ظهرانيهم. لقبضْنا على مقادير غزيرةٍ عندهم عن شحوب المدينة، وفائضٍ من الرداءات فيها. يكتبون عن هذا، وكثيرٍ مثله، ويشخّصونه في المسرح والسينما.
لا تتوسّل سطوري هذه تسويةً بين مديحٍ لبيروت وهجاءٍ لها. لا، إنما هو متخيلٌ آخر لبيروت المُتعبة، المنصرفة، والتي يميتُها حاكمون فيها فاسدون. هو متخيّلٌ لها في لحظةٍ تنزل فيها من علوٍّ كانت تقيم فيه، لأنها نجمتُنا الأخيرة، إلى حيث الأمونيوم.. هل من فظاعةٍ أشنع من هذا؟
* كاتب وصحفي أردني
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.