الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

السياسة الدولية منذ القرن العشرين.. كيف غيرت قناة السويس قيادة المعسكر الغربي؟

عبد الناصر

أحمد عبدربه *

فى الوقت الذى اشتعلت فيه الثورة المجرية ضد السيطرة السوفيتية والتردد الأمريكي الواضح فى نصرتها خوفاً من أي احتكاك مباشر مع الاتحاد السوفيتي، كانت أزمة دولية جديدة قد اندلعت فى الشرق الأوسط حينما قامت قوات عسكرية إسرائيلية وبريطانية وفرنسية بشن هجوم ثلاثي مشترك على قناة السويس وقطاع غزة وجنوب سيناء!

بدأت الأزمة الشهيرة بعد إعلان مصر فى يوليو ١٩٥٦ تأميم قناة السويس باعتبارها شركة مساهمة مصرية، وبالتالي إنهاء حصص الملكية الفرنسية والبريطانية التي بدأت مع افتتاح القناة رسميا فى عهد الخديوي اسماعيل! وهو القرار الجريء الذى اتخذه الرئيس عبدالناصر بعد رفض الولايات المتحدة تمويل بناء السد، وبعد إدراك عبدالناصر أن بريطانيا تنوى تهميش دوره ودور مصر بعد أن أنشأت حلف بغداد وضمت المملكة الهاشمية العراقية إلى الحلف العسكري الذى ضم أيضا تركيا وباكستان وإيران فى محاولة لاحتواء المد الشيوعي فى الشرق الأوسط! أدرك عبدالناصر أن ثمة إعداد جديد لمسرح الشرق الأوسط لإبراز قيادة نورى السعيد رئيس وزراء العراق لقيادة العالم العربي والإطاحة بعبدالناصر!

كانت العلاقات المصرية الأمريكية فى تلك الفترة متميزة- قبل أزمة تمويل السد- وكانت هناك اتصالات مباشرة بين عبدالناصر والإدارة الأمريكية، مما حفز الولايات المتحدة للإعداد لحلف شرق أوسطى دفاعي ينافس حلف بغداد يضم مصر وينطلق من القاهرة لمواجهة المد الشيوعي أيضاً!

كانت المنافسة على قيادة المعسكر الغربي واضحة بين الولايات المتحدة وبريطانيا، فالأخيرة كانت مازالت تتمتع بسمعتها الدولية التي أسستها على مدار العقود التي سبقت الحرب العالمية الثانية كإمبراطورية توسعية لا تغيب عنها الشمس تقود حلف مستعمراتها من جنوب آسيا وحتى أمريكا الشمالية مرورا بالشرق الأوسط وأفريقيا، بينما ومنذ بداية عهد الرئيس أيزنهاور، الذى خلف ترومان فى رئاسة الولايات المتحدة، فإن الرؤية فى البيت الأبيض كانت مختلفة، فبريطانيا بدأت تخسر مستعمراتها، كما أنها ومنذ نهاية الحرب الثانية بدأت تتعرض للكثير من الأزمات الاقتصادية، فكانت الفرصة سانحة للأمريكان لقيادة المعسكر الغربي بدلا من بريطانيا!

                                                                                      *          *           *

لكن كيف تحولت هذه القيادة نحو الولايات المتحدة؟

كلمة السر كانت العدوان الثلاثي على مصر! فرغم التوتر الذى انتاب العلاقات المصرية- الأمريكية قبل اندلاع العدوان وخصوصاً مع الرفض المصري لفكرة حلف المتوسط الدفاعي، وبعد أن ثبت خطأ وجهة نظر الأمريكان فى أن خوف ناصر من الشيوعية يتفوق على خوفه من الصهيونية، وكذلك بعد أزمة تمويل السد، إلا أنه وبمجرد قيام قوات العدوان الثلاثي بمهاجمة مصر، فإن موقف الولايات المتحدة كان حازما بشكل أدهش الكثير من المحللين!

صحيح أن الولايات المتحدة استاءت من مصر بعد رفض عبدالناصر جهود الوساطة الدولية بقيادة أستراليا لحل الأزمة وتعويض ملاك أسهم القناة فى فرنسا وبريطانيا وإعادة حركة الملاحة إلى القناة! وصحيح أن الولايات المتحدة هي من قادت تحالفا دوليا ضم ٢٢ دولة من مستخدمي القناة فى محاولة لفرض عقوبات على مصر والضغط عليها للتراجع عن موقفها، بل وصحيح أيضا أن الولايات المتحدة عبر دبلوماسيتها فى لندن حضرت عدة مباحثات بخصوص احتمال وجود حل عسكري لإجبار عبدالناصر على التراجع عن موقفه، إلا أن عاملين ساهما فى تغيير موقف أيزنهاور كليا من العدوان الثلاثي بين أغسطس ١٩٥٦ وأكتوبر ــ نوفمبر من العام ذاته. أما العامل الأول، فقد كانت المباحثات الإسرائيلية الفرنسية الدفاعية المشتركة والتي خططت للعدوان منذ أغسطس دون استشارة الأمريكان، بل وحتى دون رضا بريطانيا، وهو ما كان يعنى بالنسبة للولايات المتحدة أن مثل هذا التقارب بين الدولتين قد يؤثر على سياسات حلف الناتو الدفاعية ويدفع الولايات المتحدة نفسها للتورط فى تدخل عسكري فى الشرق الأوسط كانت لا ترغب فيه لأن الرهان فى واشنطن على انضمام العرب لحلف دفاعي شرق أوسطى ضد الاتحاد السوفيتي بقيادة أمريكية كان لا يزال قائما من ناحية، من ناحية ثانية فإن اندلاع الثورة المجرية وقيام الاتحاد السوفيتي بالتدخل العسكري هناك وتهديده لفرنسا وبريطانيا بالتدخل العسكري إلى جانب مصر أيضا حال عدم سحب قواتها من قناة السويس جعل الإدارة الأمريكية تدرك أنه لو نفذ السوفييت تهديدهم فإنها ستجد نفسها مضطرة للدخول فى صراع مسلح إلى جوار الفرنسيين والبريطانيين بحكم معاهدة الناتو!

ومن هنا فكانت البداية بتهديد أيزنهاور بفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل إن لم تسحب قواتها من سيناء، وهو التهديد الذى تحول من كونه لفظياً إلى مقترح رسمي قدمه الرئيس الأمريكي إلى الكونجرس، ولكن تم رفضه! لم يستسلم أيزنهاور، بل وفى حركة مفاجئة قام بالحديث إلى الشعب الأمريكي عبر الراديو طالباً تأييدهم، لأن أمريكا إما أن يكون لها صوت الآن، أو لا يكون أبداً كما قال!

ورغم فشل الرئيس الأمريكي فى فرض العقوبات على إسرائيل، فإنه لجأ رسمياً إلى مجلس الأمن، وقدم اقتراحاً رسمياً يقتضى بضرورة تبنى مجلس الأمن لقرار يقتضى بمغادرة قوات الاحتلال الثلاثي فوراً لمصر وإعادة حركة الملاحة إلى قناة السويس، ولكن محاولته فشلت للمرة الثانية بعد استخدام بريطانيا وفرنسا لحق النقض (الفيتو)! وقد تأكد أيزنهاور بعدم جدوى اللجوء إلى المجلس ثانياً وخاصة بعد أن قامت بريطانيا وفرنسا باستخدام حق النقض مجدداً ضد مشروع مماثل قدمه الاتحاد السوفيتي!

هذه المرة طورت الإدارة الأمريكية من استراتيجيتها لإجبار إسرائيل وبريطانيا وفرنسا على الانسحاب، عبر أداتين، الأولى هي اللجوء للجمعية العامة للأمم المتحدة لتجنب استخدام حق النقض، والثانية عبر استخدام أدوات الضغط الاقتصادي!

أما عن الأداة الأولى، فقد كثفت الإدارة الأمريكية من محادثاتها مع الدول الأعضاء فى الجمعية العامة لتأييد الاقتراح الأمريكي السابق وبالفعل استجابت الجمعية العامة للاقتراح الأمريكي وتم تشكيل قوات طوارئ دولية بجهود دبلوماسية للأمين العام للأمم المتحدة وكذلك وزير الخارجية الكندي مايك بيرسون الذى حصل لاحقا على جائزة نوبل للسلام بفعل هذه الجهود.

أما عن الأداة الثانية، فقد هدد أيزنهاور بريطانيا مباشرة ببيع الحصة الأمريكية من الاحتياطي النقدي للإسترليني، وهو الأمر الذى لو كان قد تم لتعرضت بريطانيا إلى المزيد من الأزمات الاقتصادية، وقد أدى استخدام الأداتين بالفعل لتحقيق أهداف البيت الأبيض فانسحبت إسرائيل وبريطانيا وفرنسا تباعاً وكسب أيزنهاور معركته فى النهاية!

                                                                                     *          *           *

لكن كيف أثرت هذه الأزمة على شكل العلاقات الدولية؟ يمكن رصد أربعة تغييرات مهمة فى شكل السياسة الدولية والإقليمية بعد انتهاء العدوان الثلاثي وهى على النحو التالي:

أولاً: تم التأكيد على مبدأ تجنب المواجهات العسكرية المباشرة بين قيادة المعسكر الغربي والشرقي تجنبا لقيام حرب عالمية ثانية، وهو المبدأ الذى تم احترامه حتى نهاية الحرب الباردة، وعوضا عن ذلك استخدم المعسكران الحروب بالوكالة لتحقيق أهدافهما فى الدفاع عن نفوذهما الدولي.

ثانياً: انتهت رسميا زعامة بريطانيا للمعسكر الغربي وتم تأكيد القيادة الأمريكية للمعسكر حتى نهاية الحرب الباردة، وتحولت بريطانيا تدريجيا إلى قوة إقليمية لا دولية وهى المكانة التي استمتعت بها لقرون فى العلاقات الدولية، فأصبحت واشنطن لا لندن، أمريكا الشمالية لا أوروبا، هي قبلة الدبلوماسية الغربية، بل والعالمية منذ تلك اللحظة.

ثالثاً: تم التأكيد على مبدأ استقلال الدول التي قبعت تحت الاحتلال لعقود قبل الحرب العالمية الثانية، حيث يرى المحللون أنه لو كانت فشلت جهود أيزنهاور لإجبار فرنسا وبريطانيا على الانسحاب من مصر لتراجعت فرنسا وبريطانيا عن استكمال الانسحاب من مستعمراتها فى آسيا وأفريقيا، أو فى أحسن الأحوال، لتباطأت عملية الاستقلال الوطنى هذه!

رابعاً: دشن عبدالناصر مرحلة جديدة فى العلاقات الدولية والإقليمية باعتباره ليس فقط قائداً للتحرر وقومياً عربياً، ولكن باعتباره قائداً ومثالاً للتحرر لدول العالم الثالث وحركة عدم الانحياز وخصوصاً وأن فشل العدوان الثلاثي لم يكن فقط فشلاً عسكرياً لبريطانياً وفرنساً، ولكنه كان أيضاً انتصاراً سياسياً لعبدالناصر بعد أن أيدت الولايات المتحدة صراحة وتبعتها الأمم المتحدة لحق مصر فى ملكية الممر الملاحي الأهم فى العالم وهو الوضع الدولي والإقليمي المميز الذى تمتع به عبدالناصر حتى حرب ١٩٦٧.

…………………………………………

ملحوظة: اعتمد هذا المقال فى بعض فقراته على ورقة بحثية قدمها “مايكل بسيس” بعنوان «تأطير أزمة قناة السويس ١٩٥٦ ضمن المشروع الاقتصادي الأمريكي» إلى المؤتمر السنوي التاسع لمنظمة دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا والذى عقد فى واشنطن فى تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠١٦.

…………………………………………

* مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة وأستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.