الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

«أبو مصطفى»

رنا قباني *

الخوف يشوه الأعصاب والملامح. تحت المجاهر الحديثة، يمكننا الآن رؤية مدى تأثير هذا الشعور القبيح على الدماغ، إنسانياً كان أم حيوانياً، الذي لا تتركه أبداً أول بصمة من بصماته المريعة. الخوف لا يؤسس إلا بلاداً فاسدة وفاسقة. كمرض الجذام، يأكل جسد وأطراف المجتمع وكل قطعة من وجهه المشرق.

هل هناك عربي من جيلي عاش بدون أن يُحكم بالخوف؟ خوف من أن يُكتب به تقرير بقلم من اعتقده صديقاً. خوف من أن يختفي لأنه عبّر عن رأي، حتى لو كان رأيه بريئاً أو حتى بليداً. خوف من أن يُفصل من وظيفته بدون تعويض، بعد عمر من الخدمة، لأنه لم يركع لصعلوك مخابراتي نال رتبته لمجرد أنه يتقن الأمية والوحشية، أو يمت بصلة قرابة للمافيا الحاكمة. خوف من أن تُؤخذ منه ممتلكاته التي نالها بعرق جبينه، لأن المسؤول الفلاني قد أعجبه بيته، أو استهوته سيارته، أو طاب له محله، أو اشتهى زوجته أو ابنته. 

في عام 1973، كنت خارجة من مدرسة دار السلام (أو «الفرانسيسكان» كما كانت تُعرف قبل التأميم البعثي للمؤسسة التربوية التي ألغت، ولأجيال، تعليم اللغات الاجنبية، لأنها اعتبرتها لغة «المستعمر») مع صديقاتي، نتحدث عن فحص الجغرافيا الذي كنا قد قدمناه منذ ساعة عن جزيرة كوبا ومحصول السكر النباتي فيها. وقفت واحدة منا لتشتري الجانرك مع رزمة من الملح الصخري من بائع متجول في أول طلعة شارع أبو رمانة في دمشق. كانت الفتاة شقراء خجولة اسمها ‘كاميليا’، مسيحية من مذهب الروم الأرثوذكس. لم ننتبه، ونحن نمشي مشية الفتيات المتمتعات بيوم كان الطقس فيه بديعاً، أن سيارة ميرسيدس سوداء لا تشبه السيارات الأخرى، قد وقفت أمام ‘كاميليا’، وهي تعد نقودها لتدفع ثمن الخوخ الأخضر الحامض. خرج من السيارة عدد من الأوباش، حاولوا غصبها على الذهاب في «مشوار» مع قائدهم زير النساء، أحد أقرباء حافظ الأسد.

ولكن ’’أبو مصطفى‘‘، الذى رأى المشهد من محله الصغير لبيع الغاز، انتبه فوراً، وخرج على «المرافقة» الخسيسة تلك، حاملاً بيده أداة معدنية طويلة، كان يستعملها ليُركِب ويفك قوارير الغاز المطبخي النيلية اللون، والتي كانت تستعمل في كل بيوتنا. وقتها، لم تكن قد مضت ثلاث سنوات على النظام الأسدي، فكانت سوريتنا ما زالت مليئة بأناس لا يخفن إلا الله عز وجل. وعندما صرخ ’’أبو مصطفى‘‘ بوجه حثالة ذلك المسؤول (الذي كان في بدايات تاريخه الإجرامي في وقتها)، هربت السيارة بسرعة البرق بمن فيها. وشربت ‘كاميليا’، التي كانت ترتعش كالورقة من هذه الحادثة، قليلاً من الماء من «طاسة الرعبة» القديمة التي كانت دائماً موجودة وراء أبوابنا، محفورة بآيات من القرآن الكريم، لكي تبّعد الخوف عن الشارب، كما كان يُعتقد آنذاك. فالخوف كان له حجمه الطبيعي في حياتنا، ولم يكن قد أصبح ذلك الشبح الشبيح السافل المرتزق المجرم، الذي استطاع، بعد 41 سنة، أن يُهجر نصف أهل سوريا عن بيوتهم المدمرة أو عن بلادهم كلياً، وجعل منهم سكان الخيام والمعدمين في الأرض، التي شكلوا حضارتها على مر60 قرناً على الأقل!

بعد أذان صلاة العصر، وقبل أن يقفل محله المتواضع ليعود إلى داره في حي المهاجرين الفقير، عادت السيارة نفسها لترغم ’’أبو مصطفى‘‘ على الذهاب في مشوارها، لتقوده إلى مصير لا يزال حتى هذه اللحظة مجهولاً. أدركنا كلنا، والدرس كان لمدينتنا، أن شهامته ونخوته وشجاعته وقعت باهظة الثمن عليه وعلى عائلته، وعلى كاميليا وأهلها وصديقاتها. فقد اختفى الرجل، وخُتم محله بالشمع الأحمر، وأُخرِجَت الفتاة المتفوقة بالرياضيات من المدرسة، وفي ظرف أسابيع هاجرت مع أهلها الى كندا، وتزوجت من أول من طلبها. كان زوجها مهندساً مهاجراً أيضاً، ترك سوريا وراءه لأن المشاريع الهندسية كانت قد بدأت توزع على حسابات سريالية، تتناسب مع حجم موالاة المهندس للنظام، لا لمهارته التقنية أو مفهومه لفن العمارة واحتياجات المواطن السكنية المتغيرة. عرفتُ بعد سنين طويلة، أن هذه الفتاة التي كانت تحب دمشق وربيعها الأبدي مثلنا كلنا، أصرت أن تزيد على اسم “جوزيف”، ابنها البكر، اسم ’’أبو مصطفى‘‘، خلال لحظة التعميد في كنيسة من الكنائس الكندية، لكي تشهر ولاءها لذكرى ذلك الدمشقي المسلم الذي اختفى أثره من على وجه الأرض حين دافع عن شرفها، ولم يختفِ يوماً من ذاكرتنا الجماعية.

هاجر عن سوريا خيرة أدمغتها، وأصبحوا من أنجح الأطباء والعلماء والباحثين والمهندسين والعاملين في مجالات الكمبيوتر والفن والموسيقى والغناء والشعر والتمثيل والسينما والكتابة والصحافة والفن الفوتوغرافي في العالم، وأصحاب مطاعم ومعامل تنتج الحلويات وكل ما بقي لنا من ذاكرة المائدة السورية العامرة. والجاليات السورية المهاجرة، يهودية كانت أم مسيحية أم مسلمة، لم تنسَ جذورها، ولن تنسى مسؤوليتها، في إعادة إعمار وطننا حين تزول عنه هذه الفترة الوجيزة من تاريخنا الطويل. سيتكاتف كل سوري حر ليبني وطناً يليق بحضارةٍ هي ملك كل سكان الارض، لا مزرعة لآل الأسد والمخلوف وشاليش ونجيب وغيرهم، وأعوانهم من المماليك السنة والشيعة، الذين اغتصبوا نساءنا ودمروا بيوتنا وبتروا أعضاء أطفالنا، ولكنهم لم يهزموا الحلم المستقبلي القادم.

*  كاتبة سورية

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.