الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الموت الجميل على تخوم أوكرانيا

بشير عبد الفتاح *

إلى أبعد من حرص موسكو على كبح جماح التوجهات الأطلسية لغالبية دول الفضاء السوفييتي السابق، مقابل التعاضد الغربي لتحجيم الوصاية البوتينية على دول شرق أوروبا، يمضى التصعيد المتبادل بين موسكو والغرب، على وقع الأزمة الأوكرانية المحتدمة.

ما عاد بوتين يخفى مآربه للتبشير بنظام عالمي متعدد الأقطاب، بدلاً من ذلك الأحادي القطبية، الذى أشهره الأمريكيون قبل ثلاثة عقود مضت، بينما لم يتورع عن المجاهرة برفضه، خلال خطابه الشهير أمام مؤتمر الأمن الأوروبي بميونيخ عام 2007. ولعل الرئيس الروسي يصبو إلى استعادة مكانة بلاده الكونية كقطب عالمي يناطح الولايات المتحدة، ويطوى صفحة هيمنتها المنفردة على نظام دولي، دشنه الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الأب على أنقاض الاتحاد السوفييتي المتهاوي فى ديسمبر1991، فيما اعتبره بوتين أضخم مأساة إنسانية، وأسوأ كارثة جيوسياسية فى القرن العشرين. بدوره، أكد وزير الخارجية الروسي، لافروف، أن المعاهدة الأمنية التي تطرحها بلاده، تمثل رؤية واقعية لضمان أمن أوروبا على المدى الطويل، وطريقة مثلى للتعايش السلمى البناء بين روسيا والغرب.

من وجهة نظر واشنطن والناتو، يشكل الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا، تقويضاً لدعائم نظام دولي، أنتج اتفاق بودابست عام 1995، الذى تخلت بموجبه أوكرانيا عن ترسانتها النووية، مقابل استعادة سيادتها واستقلالها الآمن. ومن ثم، يتحسب الغرب، بحذر وترقب، لمساعي بوتين الهادفة لاستعادة السيطرة الروسية على الدول السوفييتية السابقة، توطئة لإحياء الاتحاد السوفييتي البائد. فقبل قليل، حذر وزير الخارجية الفرنسي لودريان، موسكو من التخطيط لعقد مؤتمر «يالطا ــ2»، بغية إعادة تقسيم دوائر النفوذ بين موسكو والغرب، على غرار «يالطا ــ1»، الذى رسم حدود أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية.

بموازاة ذلك، انبرت واشنطن فى تقوية أواصر التحالف الأورو-أطلسي لمجابهة روسيا والصين، مع تقليص وتيرة التقارب الروسي الأوروبي، وإجهاض محاولات موسكو لتوسيع الفجوة بين مكونات المنظومة الغربية. فلطالما راهن بوتين على تردد بعض الحلفاء الأوروبيين فى الانخراط ضمن جولة تاسعة ومتنوعة من الإجراءات العقابية القاسية ضد روسيا، لاسيما تعطيل ترخيص خط أنابيب «نورد ستريم 2»، الذى سيضاعف صادرات الغاز الروسية إلى أوروبا عبر بحر البلطيق. إذ تتخوف عواصم أوروبية عديدة من الأصداء الموجعة التى قد تستتبعها تلك العقوبات المقترحة على اقتصاداتها. حيث تشكل روسيا أحد أهم الشركاء التجاريين للقارة العجوز، كما تزودها بقرابة نصف احتياجاتها من الغاز والنفط، بما يتيح لبوتين سلاحا جيوسياسيا بالغ الخطورة.

انطلاقا من سوابق تاريخية، تأبى روسيا إلا انتزاع موافقة أمريكية مكتوبة على ضماناتها الأمنية. فإبان انهيار الاتحاد السوفييتي، حنثت واشنطن بتعهدها عدم التغلغل الجيواستراتيجي فى الفضاء السوفييتي البائد، أو تهديد أمن روسيا ومصالحها القومية. حيث مضى حلف الناتو فى سياسة التوسع شرقا، ليضم 14 دولة سوفييتية سابقة. وفى قمته ببوخارست عام 2008، تبنّى قرارًا بقبول عضوية أوكرانيا وجورجيا، دونما تحديد موعد زمنى لذلك. وبناء عليه، اقترحت موسكو على الغرب معاهدة لخفض التصعيد بالأزمة الأوكرانية. تتضمن تخلى الناتو عن ضم أعضاء جدد، مثل أوكرانيا وجورجيا وفنلندا، والسويد للناتو، وتقييد تموضع قواته فى جمهوريات سوفييتية سابقة، بالإضافة إلى سحب منظوماته التسليحية الاستراتيجية، فضلا عن خمسة آلاف جندي بعتادهم من بولندا ودول البلطيق ورومانيا وبلغاريا. علاوة على اتخاذ التدابير المنوطة بعودة الوضع الاستراتيجي الذى كان قائمًا قبل العام 1997، فى الدول التي التحقت بالحلف الأطلسي لاحقاً.

تزامنا مع امتناع 14 دولة سوفييتية سابقة، عن فض ارتباطها الاستراتيجي مع الناتو، وإنهاء الوجود العسكري الأمريكي على أراضيها، أعرب أمين عام الحلف الأطلسي عن رفض أعضائه الثلاثين للمقترح الروسي الذى يتوخى إقامة نظام أمنى جديد فى أوروبا. أما واشنطن، التي تحفظت عليه كتابة، فقد حسبته تقييدا لحرية التحركات الجيوسياسية للناتو، وانتقاصا من سيادة دول شرق أوروبا، ومصادرة لحقوقها السيادية فى رسم سياستها الخارجية. كما اعتبرته إدارة بايدن تهديدا لما تبقى من صدقية وموثوقية التزاماتها إزاء حلفائها وأصدقائها حول العالم، بعد الانسحاب المُفجع من أفغانستان. ومن ثم، شرعت فى تكثيف التموضع العسكري بشرق أوروبا، بذريعة تعزيز قوة الردع الأوروبية، وحماية الجبهة الشرقية للناتو. بما يكرس التبعية الاستراتيجية الأوروبية لواشنطن، ويئد أية مبادرات بشأن تفعيل الذراع العسكرية للاتحاد الأوروبي.

برأي وزير الخارجية الفرنسي لودريان، يظن بوتين أن احتواء الأزمة الأوكرانية الحالية، إنما يتأتى من سبيلين: أولهما، استعادة «مبدأ بريجنيف» لعام 1968، الذى قلص سيادة دول الكتلة الاشتراكية لصالح إمكانية التدخل العسكري الروسي بها، لتقويض أي تغيير يهدد أمن موسكو ومصالحها. وثانيهما، إبرام اتفاق «يالطاــ2»، بما يكفل إخلاء شرق أوروبا من الوجود العسكري الأمريكي والأطلسي، ويتيح تجميد سياسة «الباب المفتوح» الأطلسية لاستقطاب الدول السوفييتية السابقة، مع وضع موازين قوى جديدة تُشير إلى النفوذ الروسي فى أوروبا والفضاء السوفييتي.

ربما يستند بوتين فى تصوره، على تمرير الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت، «اتفاق يالطاــ1»، فى مثل هذه الأيام من عام 1945، ليخول ستالين، الذى يعتبره بوتين أعظم حكام روسيا فى القرن الماضي، إذ تخطى بالإمبراطورية حدود آل رومانوف، وأوجد روسيا النووية، وجعلها قوة عظمى، ضم دول البلطيق، وتوسيع الحدود الغربية لبولندا. حيث عمد روزفلت مكافأة السوفييت على دحرهم اليابان وألمانيا إبان الحرب الكونية الثانية، بجيش فاق عدده وعتاده جيوش الحلفاء مجتمعة، وتجاوزت خسائره المادية والبشرية، خلالها، نصف إجمالي خسائرهم. كذلك، ابتغى روزفلت، حينئذ، استجداء الدعم السوفييتي لمساعيه الرامية إلى إنشاء منظمة الأمم المتحدة فى أبريل من ذات العام.

أما اليوم، فيتوق، بايدن، إلى إجهاض أي تحالف استراتيجي مرتقب بين موسكو وبكين، وعرقلة أية شراكة جيوسياسية أورو-آسيوية ممكنة، كما يتوسل ضغوطا تمارسها موسكو على طهران، لحمل الأخيرة على العودة للاتفاق النووي لعام 2015، بغير مماطلة، ومن دون شروط تعجيزية. فى المقابل، يتوسم بوتين فى بايدن، مراعاة مخاوف موسكو الاستراتيجية المشروعة، من خلال موافقة كتابية على ضماناتها الأمنية، مع العدول عن عرقلة تشغيل خط أنابيب «نورد ستريم ــ2»، أو تقويض الدور الروسي الحيوي فى أمن الطاقة الأوروبي. غير أن مرامي بوتين اصطدمت برفض أمريكي، ينبعث من مخاوف غربية، تلمس فى الطرح الروسي المريب، نزوعا مغرضا لتأسيس توازن قوى جديد، لا يروق للتحالف الأورو-أطلسي، الذى يتملكه قلق عارم من الطموحات الإمبراطورية الجامحة للرئيس الروسي، المتطلع إلى عالم متعدد الأقطاب، تتغير فى كنفه قواعد اللعبة بين موسكو والغرب.

لم يخلُ الموقف الأمريكي حيال الأزمة الأوكرانية من رسائل ملحة لبكين، التي تشاطر موسكو تحركا دؤوباً لطى صفحة الهيمنة الأمريكية المنفردة على العالم. ففى دعم مبطن لموسكو، أكد وزير الخارجية الصيني لنظيره الأمريكي، أن تسوية الأزمة الأوكرانية تكمن فى العودة إلى اتفاقية مينسك لعام 2014، مشددا على أن ضمان الأمن الإقليمي المستدام والمتوازن، لن يتأتى من خلال تعزيز وتوسيع التكتلات العسكرية، مطالبا بضرورة أخذ المخاوف الأمنية الروسية على محمل الجد. بالتزامن، كان الطيران الحربى الصيني يباشر ثاني أضخم توغلاته الاستراتيجية بمنطقة «تمييز الهوية لأغراض الدفاع الجوي التايوانية»، «أديز»، والمتداخلة مع مثيلتها الصينية، مستخدمة فى ذلك 24 مقاتلة من طراز «جاي ــ16»، و10 أخريات من طراز «جاي ــ 10»، إضافة إلى قاذفة «إتش- 6» ذات التجهيزات النووية. وهو التغلغل الذى تزامن، هذه المرة، مع مناورات بحرية أمريكية ــ يابانية ببحر الفلبين، بمشاركة عشر سفن حربية أمريكية، بينها حاملتا الطائرات «يو إس إس كارل فينسن»، «يو إس إس أبراهام لينكلن».

برغم التصعيد المتبادل، تلوح رغبة أطراف الأزمة الأوكرانية فى تجنب الانزلاق إلى صدامات عسكرية غير مبررة استراتيجيا، فى لحظة تاريخية بالغة الحساسية من صيرورة النظام الدولي. فعبر حسابات استراتيجية دقيقة، لا تتجاهل الارتباك الاقتصادي، كما لا تغفل أمن الطاقة، وأمن الغذاء العالميين، يتراءى للجميع أن الوقت ليس مواتيا لإدراك «موت جميل» على تخوم أوكرانيا. ففى رد منه على اتهام، تشى جيفارا، لموسكو بالتهرب من مواجهة واشنطن عسكريا إبان الأزمة الكوبية عام 1962، استلهم، أنستاس ميكويان، نائب خروتشوف، حينها، مقولة، نابليون الشهيرة: «أي ميتة جميلة؟!»، التي أوردها، تولستوي، فى روايته «الحرب والسلام». فحينئذ قال ميكويان لجيفارا: «هذا ليس الوقت المناسب للموت الجميل».

* كاتب أكاديمي وباحث مصري

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.