لا نظن أن أحداً من أبناء الأمة العربية الذين عاشوا في خمسينيات وستينيات القرن العشرين يمكن أن ينسى المشاهد الرائعة لأحداث أيام مجيدة متتابعة ومتوالية جرت وقائعها خلال شهر شباط/فبراير من عام 1958، من أول يوم إلى أخر يوم فيه، وهي مشاهد كونت ورسمت مُجتمعةً ومتداخلةً معاً، صورةً خالدة تنبض بالحياة، صورةً ما تزال معنا إلى الآن.. صورة تاريخية، ظهرت فيها وجوه عربية حاشدة بالآلاف لرجال ونساء، لشيوخ وأطفال، لشباب وشابات، وقد ملأت فيها هذه الجموع الصورة على اتساعها، بحيث شكلت الجموع خلفية الصورة كلها، وفي أحد جوانب الصورة يظهر جمال عبد الناصر وهو يُطل على الجماهير المحتشدة من شرفة قصر الضيافة في دمشق ملوحاً بذراعيه، وراح صوته يدوي في ساحة الجلاء ليصل إلى كل من في الساحة والى كل من في دمشق وهم بعشرات الآلاف، ولينتقل صوته المدوي عبر الأثير ليصل إلى آذان من هم في القرى والنجوع والمدن العربية وهم بالملايين الذين التفوا حول أجهزة الراديو وهم مشدوهين مبهورين، الكل.. يهتف باسمه، القريب في ساحة الجلاء الذي يراه ويسمعه، والبعيد هناك على امتداد الساحات العربية الذي يسمعه دون أن يراه؛ الصوت المدوي المُنطلق من شرفة قصر الضيافة بدمشق يصل إلى أقاصي الدنيا ويعلن للعالم أجمع: “ .. أيها المواطنون لقد قامت دولة كبرى في هذا الشرق، دولةٌ تحمي ولا تُهدد تصون ولا تُبدد، لقد قامت الجمهورية العربية المتحدة.. هذه الجمهورية ستكون سنداً لكل العرب .. ” ، وفي كل زوايا الصورة تظهر هتافات الجماهير العربية وهي تشق عنان السماء لتدوي في كل أرض عربية، اللهُ اكبر اللهُ اكبر، عاشت الوحدة، عاشت الجمهورية العربية المتحدة، عاش جمال عبد الناصر.
صورةٌ خالدة سوف تبقى على مر الزمن في ذاكرة ملايين العرب، صورةٌ لم يقم بتصويرها شخصٌ بمفرده، ولم يرسمها فنانٌ واحدٌ بريشته، إنها صورةٌ تكونت وتجمعت من مشاهد متتابعة ومتداخلة، ولم تكن تلك المشاهد هي وحدها صانعة الصورة، لكن هذه المشاهد كانت نتيجة حتمية لمجموعة عوامل وعناصر تضافرت كلها لتساهم في تشكيل وتكوين الصورة؛ إنها صورة ساهمت في تكوينها أجيالٌ مضت وأجيال حاضرةً فيها، صورة ساهمت في رسم معالمها أجيال عربية وراء أجيال ناضلت، وقدمت الآلاف من الشهداء على مدى القرون والسنوات سعياً من أجل الوحدة بل من أجل القوة، صورة فرضت في رسم ملامحها كل القوى والتيارات والأحزاب والشخصيات العربية التي آمنت بالوحدة.. صورة فرضت مضمونها ومحتواها جماهير الشعب العربي في سوريا وفي مصر، صورة وضع جمال عبد الناصر لمساتها الأخيرة وجعلها تنبض بالحياة، إنها.. صورةٌ خالدة بكل المقاييس .
إن المشاهد الرائعة للأحداث المجيدة التي جرت وقائعها على الأرض، كانت مشاهد متتالية ومتعاقبة، وهي مشاهد ما تزال حية إلى هذه اللحظة؛ بمعنى أنه ما زال ممكناً استرجاعها ومشاهدتها مسموعة ومرئية، وهي مشاهد لأحداث وقعت وجرت في شهر شباط/فبراير 1958؛ وهل يمكن لأحد أن ينسى شباط/فبراير من عام 1958 وأن ينسى مشاهده المجيدة مشهداً وراء مشهد؟.. وتتوالى المشاهد واحداً وراء الآخر لترسم الصورة الخالدة.. نذكر منها خمسة مشاهد، تدلل بما لا يدع مجالاً للشك على حجم الجريمة التي ارتكبها الانفصاليون ومن وقف خلفهم، بحق شعوبٍ عربية عاشت لحظاتٍ تاريخية كرست فرحتها بأمل شديد السطوع والوضوح:
وأول هذه المشاهد المجيدة التي كونت تلك الصورة الخالدة كان مشهد جمال عبد الناصر رئيس جمهورية مصر و«شكري القوتلي» رئيس جمهورية سوريا وهما يقفان جنباً إلى جنب يُخاطبان الجموع المصرية المحتشدة أمام مقر مجلس الوزراء في القاهرة بعد توقيعهما على اتفاق إعلان قيام الوحدة بين مصر وسوريا باسم الجمهورية العربية المتحدة . المناضل «شكري القوتلي» – الذي رفع العلم السوري في يوم جلاء القوات الفرنسية عن سوريا في 17 نيسان 1946 وأعلن حينذاك أنه لن يرتفع فوق العلم السوري إلا علم الوحدة العربية- يقول أمام هذه الجموع: “ .. إن هذا اليوم هو من أيام العمر، نعلنُ اليوم أن الوحدة قد قامت بين مصر وسوريا، لقد ولدت اليوم الجمهورية العربية المتحدة ..” وجمال عبد الناصر– الذي أكد في صلب دستور 1956 على انتماء مصر إلى أمتها العربية والذي استجاب لمطلب الشعب السوري بالوحدة مع مصر يقول: “ .. اليوم- أيها الإخوة المواطنون- بعد أن كانت القومية العربية هتافاً وشعارات، أصبحت حقيقة واقعة، اليوم اتحد الشعب العربي في سوريا مع الشعب العربي في مصر وتكونت الجمهورية العربية المتحدة؛ هذه الجمهورية المتحدة ستكون سنداً للعرب جميعاً، ستكون قوة للعرب جميعاً، ستعادى من يُعاديها وتسالم من يُسالمها .. ”، ويواصل عبد الناصر خطابه قائلاً: “ .. اليوم- أيها الإخوة المواطنون- اليوم يوم خالد في تاريخنا، ومرحلة حاسمة في تاريخنا، باسمكم جميعاً أتكلم إلى الأخ الأكبر أخي «شكري القوتلي»، وأقول له: إننا جميعاً نحييك، وإننا جميعاً نحيى جهادك، وإن الشعب العربي في كل مكان سيذكر على مر الزمن ما قمتَ به، وإن الجمهورية العربية المتحدة هي خير هدية نقدمها لك اليوم، وإعلان مولدها على أنها هي النتيجة الكبرى لجهادك في سبيل الوحدة العربية وفي سبيل القومية العربية.. والله يوفقنا جميعاً .. ” .
كان مشهداً رائعاً ومجيداً.. «شكري القوتلي» ومعه أبناء جيله الذين ناضلوا وعملوا من أجل تحقيق حلم الوحدة، يُسلم الراية في يومٍ خالد من أيام العمر إلى جمال عبد الناصر ومعه جيلٌ جديد يتقدم ليحمل راية الوحدة ويتابع المسيرة، جيلٌ ناضل وقدم تضحيات كبيرة وهائلة من أجل تقريب يوم الوحدة العربية ويُسلم الراية إلى جيلٍ جديد، جيلٌ يتقدم ليحمل العلم من جيلٍ سبقه، جيلٌ جديد واعدهُ القدر بأن يعيش ويرى نقطَ تحولٍ فاصلة في التاريخ العربي المعاصر، جيلٌ يعيش لحظات انتصار عظيم لم يصنعه وحده ولم يتحمل تضحياته بمفرده، جيلٌ جديد يعيش النتيجة المجيدة لتفاعل عوامل كثيرة سبقت، جيلٌ جديد قُدر له أن يشهد وأن يرى بل وأن يعيش مهرجان الشروق حين يحدث الانتقال العظيم ساعة الفجر من ظلام الليل إلى ضوء النهار، مشهدٌ جليل وعظيم، مشهدٌ جرت وقائعه في الأول من شباط/فبراير سنة 1958.. وتتوالى المشاهد الرائعة والمجيدة .
أما ثاني هذه المشاهد فقد جرت وقائعه في يوم الخامس من شباط/فبراير، وفي هذا المشهد نرى «شكري القوتلي» وهو يتحدث أمام مجلس النواب السوري في دمشق وبعد وقت قليل نرى جمال عبد الناصر وهو يتحدث أمام مجلس الأمة المصري في القاهرة.. «شكري القوتلي» و جمال عبد الناصر كلاهما معاً في يوم واحد وفي وقت واحد تقريباً يُقدمان إلى المجلسين وإلى الشعبين نصوص اتفاق الوحدة، والإعلان عن عرض الاتفاق واختيار أول رئيس لـ الجمهورية العربية المتحدة على استفتاء شعبي يجري في مصر وسوريا في يوم 21 شباط/فبراير، ويعلن «شكري القوتلي» أمام مجلس النواب السوري وعلى مسمع من الجموع الشعبية السورية التي أحاطت بمبنى المجلس وهي تهتف للوحدة العربية عن مبايعته لـ جمال عبد الناصر وترشيحه لمنصب رئاسة الجمهورية، قائلاً: “ .. إن هذا اليوم هو من أيام العمر .. ”؛ ويعلن المجلس فيما يشبه الإجماع موافقته على هذا الترشيح بعد موافقته على اتفاق الوحدة، وتمتلئ شوارع وساحات دمشق بالآلاف من الرجال والنساء، بالشيوخ والشباب والأطفال فرحاً وسعادة، وتحقق الحلم .
أيام معدودة ويجري الاستفتاء الشعبي لتولد دولة الوحدة بشكل رسمي وفعلي، ولم تنم دمشق ولا سوريا في تلك الليلة ولا في الليالي التي تلتها؛ كان مشهد دمشق قلب العروبة النابض رائعاً ومجيداً.. وفي نفس اليوم وبعد ساعة تقريباً التفّت الجماهير السورية من حول أجهزة الراديو في دمشق وفي كل مدينة سورية، وفي مدن مصر كلها، وفي عواصم ومدن وقرى عربية على امتداد الأرض العربية وهي تستمع إلى صوت جمال عبد الناصر وهو يدوي أمام أعضاء مجلس الأمة المصري وينتقل عبر الأثير إلى أفاق الدنيا؛ قدّم عبد الناصر في خطابه، الذي يُعتبر، بغير جدال، أهم وثيقة عربية حول الوحدة، شرحاً كاملاً للظروف التاريخية التي عاشتها الأمة العربية في سعيها من أجل الوحدة والظروف القريبة والبعيدة التي مهدت لقيام الوحدة بين مصر وسوريا، وكان هذا المشهد بديعاً ورائعاً .
ما قاله عبد الناصر في هذا الخطاب هامٌ إلى أبعد الحدود، وكان المشهدُ زاخراً وحافلاً، كانت كلماته عظيمة وهذا بعضٌ منها وليس كلها:
“ .. أيها المواطنون.. أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة: لقد سبق كل فجرٍ شهدنا مطلعهُ ليلٌ طويل؛ لقد سبقت فجر الاستقلال وفجر الحرية، وفجر العزة والكرامة، وفجر القوة، وفجر الأمل، ليالٍ طويلة امتدت مئات السنين في صراع مستمر مع ظلام الاستعمار والاستبداد والظلم والضعف؛ ليالٍ طويلة عاشتها أجيالٌ قبلنا، وقاست أهوالها وتحملت مصاعبها لكى تُقرّب منا اللحظات الرائعة للانتقال العظيم، وكذلك هذا الفجر الذى نشهد اللحظة مطلعه، إن الليل الذى سبق فجر الوحدة هو دون شك أطول ليالي كفاح أمتنا العربية؛ ذلك أن الأمل الذى يتحقق لنا اليوم هو أقدم آمالنا، إن تاريخ الوحدة في عمر أمتنا هو نفس عمر تاريخ أمتنا، لقد بدأ معها منذ بدأت، نشأ على نفس الأرض، وعاش نفس الحوادث، واندفع إلى نفس الأهداف، فلما استطاعت أمتنا أن ترسى قواعد وجودها في هذه المنطقة وتثبت دعائم هذه القواعد، كان مُؤكداً أن الوحدة قادمة وأن موعدها بات قريباً.. ”.
ويواصل عبد الناصر خطابه الهام بينما جماهير الأمة العربية تنصت وتستمع: “ .. أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة: لقد كان الكفاح من أجل الوحدة هو بنفسه الكفاح من أجل القوة، من أجل الحياة، ولقد كان التلازم بين القوة والوحدة أبرز معالم تاريخ أمتنا؛ فما من مرة تحققت الوحدة إلا تبعتها القوة، وما من مرة توفرت القوة إلا وكانت الوحدة نتيجة طبيعيةً لها.. وليس محض صدفة أن إشاعة الفرقة وإقامة الحدود والحواجز كان أول ما يفعله كل من يريد أن يتمكن في المنطقة ويسيطر عليها، وكذلك لم يكن محض صدفة أن محاولات الوحدة في المنطقة لم تتوقف منذ أربعة آلاف سنة طلباً للقوة بل طلباً- كما قلت- للحياة . أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة: كان معنى محادثاتنا في القاهرة، ووصول رائد الوحدة وبطلها ورافع علمها المجاهد شكري القوتلي إلى مصر مع وفد من رفاقه في الجهاد، كان معناه أن الأوان قد آن، وأن الساعة التي تطلّعَ إليها أجدادنا وعمل من أجلها آباؤنا قد دقت أجراسها، وأنه قد كُتب لجيلنا بعد ليل طويل أن يشهد مطلع صبحها.. كان معناه أن الذى تخيلوه في المُنى قد أصبح واقعاً، وأن الذى ذاقوا من أجله الموت قد أصبح هو الحياة نفسها.. كان معناه أن الذى نُصبت المشانق لتحول دونه قد أصبحت له وحدة قوة القانون وقدرته.. كان معناه أن الذى اصطنعت الفرقة بينه قد عاد إلى طبيعته التي أودعها الله فيه كلاً متجانساً متحداً.. كان معناه أن السلاسل تكسرت، أن السدود انهارت، أن الحواجز سقطت، وأن الشظايا المتناثرة والأجزاء المتفرقة توشك أن تعود إلى بعضها، بل إلى كلها.. كان معناه أن سوريا ومصر قد قررتا تحمل المسؤولية التاريخية التي تهيأتا لها بوصفهما بلدين عربيين خُلص زمام الأمر فيهما لأبنائهما، وتحققت لهما في أراضيهما سيادة حقيقية واستقلال كامل.. كان ذلك هو معنى محادثات القاهرة .
أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة: ولقد انتهت محادثاتنا إلى إعلان الوحدة رسمياً، وتوقيع هذا الإعلان في يوم السبت الأول من فبراير سنة 1958، وقد أودع هذا الإعلان التاريخي في مكتب مجلسكم، وكانت النتيجة الكبرى له هي توحيد مصر وسوريا في دولة واحدة؛ اسمها الجمهورية العربية المتحدة، ويكون لها علم واحد يُظلُ شعباً واحداً وجيشاً واحداً، في وحدة يتساوى فيها أبناؤها في الحقوق والواجبات.. ” . و يختتم خطابه التاريخي قائلاً: “ .. أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة: لقد بزغ أمل جديد على أفق هذا الشرق، إن دولة جديدة تنبعث في قلبه، لقد قامت دولة كبرى في هذا الشرق ليست دخيلة فيه ولا غاصبة، ليست عاّدِية عليه ولا مستعديه، دولة تحمى ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تقوي ولا تُضعف، توحد ولا تفرق، تسالم ولا تفرط، تشد أزر الصديق، ترد كيد العدو، لا تتحزب ولا تتعصب، لا تنحرف ولا تنحاز، تؤكد العدل، تدعم السلام، توفر الرخاء لها، لمن حولها، للبشر جميعاً، بقدر ما تتحمل وتطيق . أيها المواطنون أعضاء مجلس الأمة: وفقكم الله وبارك لكم وحدتكم، وحمى جمهوريتكم العربية المتحدة.. ”.
لم تنم الجماهير العربية في مصر وفي سوريا، لم تنم القاهرة ولم تنم دمشق.. بل إن الأرض العربية كلها لم تنم ليلتها ولا في الليالي التي أعقبتها، لقد اصبح يومُ الوحدة قريب وقريبٌ جداً . و ينزل الستار عن مشهد الخامس من شباط/فبراير 1958.
ويُرفع الستار عن المشهد الثالث الذي كون الصورة الخالدة، إنه مشهدٌ جليل، جموع مصرية وسورية تبدأ منذ الصباح الباكر في التوافد بالعشرات والمئات ثم التدافع بالآلاف ومئات الآلاف، على مراكز ودوائر الاستفتاء الشعبي المنتشرة في كل مكان من أرض سوريا ومصر تُدلي بأصواتها في صناديق الاقتراع لإبداء رأيها والإجابة على سؤالين محددين: أولهما: هل توافق على قيام الوحدة بين مصر وسوريا في دولة واحدة اسمها «الجمهورية العربية المتحدة»؟، وثانيهما: هل توافق على انتخاب جمال عبد الناصر لمنصب رئيس «الجمهورية العربية المتحدة»؟.
مشهدٌ مجيد شهده العالم كله، رأى ملايين السوريين والمصريين وهم يتوجهون إلى صناديق الاقتراع منذ الصباح الباكر وحتى ساعات المساء من يوم الحادي والعشرين من شباط/فبراير.. امتلأت شوارع وأحياء النجوع والقرى والمدن المصرية والسورية من القامشلي في أقصى شمال سوريا إلى أسوان والنوبة في أقصى جنوب مصر عن بكرة أبيها في زحفٍ قل نظيره في التاريخ العربي المعاصر، بل إن هذا الزحف إلى صناديق الاقتراع امتد إلى أبناء الجاليات السورية والمصرية الذين توجهوا إلى السفارات والمفوضيات والقنصليات المصرية والسورية في مختلف أنحاء العالم؛ من واشنطن إلى بكين إلى موسكو، من باريس إلى بون إلى لندن وغيرها من عواصم العالم؛ «شكري القوتلي» وقادة سورية وجمال عبد الناصر وقادة مصر، جميعهم توجهوا إلى مراكز الاقتراع .
إنه مشهدٌ لحدثٍ كبير وضخم، لقد أراد العرب وبالذات أبناء سوريا ومصر في هذا اليوم أن يصنعوا بإرادتهم الحرة تاريخاً جديداً للمنطقة العربية، أرادوا أن يكون هذا اليوم، يوم الاستفتاء، يوماً جديداً في تاريخ العرب.. وسهر الشعب في كل سوريا وفي كل مصر ومعهم شعوب أمتهم العربية طوال الليل وحتى الصباح في انتظار نتائج الاستفتاء كان الجميع رجالاً ونساء- وكانت المرأة العربية السورية والمصرية في الطليعة- الجميع أدى واجبه أمام صناديق الاقتراع وقال الشعب العربي السوري والمصري كلمته، وكان ملايين العرب في البلاد العربية الأخرى يتمنون في أن يشاركوا إخوتهم في سوريا ومصر في التصويت أمام صناديق اقتراع مماثلة لكن الحدود والحواجز المصطنعة لم تمكنهم من أداء دورهم تأييدا للحدث الضخم، كان مشهد الحادي والعشرين من شباط/فبراير مشهداً رائعاً ومجيداً… ويرتفع الستار عن المشهد الرابع في هذه الصورة الخالدة؛
مع ساعات الصباح الأولى من اليوم التالي 22 شباط/فبراير كان هناك مشهد عظيم ورائع، وزير الداخلية السوري يعلن من دمشق النتائج الرسمية للاستفتاء الذي جرى في سوريا وكانت النتائج باهرة؛ الشعب السوري يوافق بأغلبية ساحقة على قيام الوحدة وعلى انتخاب جمال عبد الناصر رئيساً لـ الجمهورية العربية المتحدة وتبدأ دمشق وغيرها من المدن السورية احتفالات ضخمة، سوريا كلها تهتف للوحدة ولـ الجمهورية العربية المتحدة ولـ جمال عبد الناصر.. وفي القاهرة يحتشد منذ الصباح أكثر من نصف مليون شاب من أبناء المدارس والجامعات في ميدان الجمهورية أكبر ميادين القاهرة وهم يستمعون إلى وزير الداخلية المصري وهو يعلن موافقة شبه أجماعية في الاستفتاء على قيام الجمهورية العربية المتحدة وانتخاب عبد الناصر رئيساً لها؛ ويضج الميدان بالهتاف لحظة أن أطل جمال عبد الناصر على جموع الشباب المحتشد في هذا الميدان، وقف القائد الثائر رئيس الجمهورية العربية المتحدة يُخاطب جموع الشباب قائلاً:
“ .. أيها المواطنون.. الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله الذي حقق الآمال.. الحمد لله الذي كان في عوننا دائماً ونحن نكافح من أجل الأهداف الكبرى التي نسعى إليها، والتي نعمل من أجلها.. الحمد لله الذي حقق آمال شعب سوريا وشعب مصر، ووحد بين قلوبهم، ووحد بين دولتهم.. الحمد لله فبعونه قامت اليوم الجمهورية العربية المتحدة .
في 26 يوليو 1956 عندما كنت أتحدث إليكم من الإسكندرية يوم تأميم القنال قلت لكم: إن المجلس النيابي في سوريا أصدر قراراً بالاتحاد مع مصر، وقلت في هذا اليوم إني باسم مصر أتجه إلى شعب سوريا وأقول له: مرحباً بكم أيها الإخوان، فنحن شعب واحد، وقلب واحد، ويد واحدة.. و في هذا اليوم حينما كنت أتحدث، كنت أنظر إلى المستقبل البعيد، ولم أكن أتخيل أو أتصور أن هذه النتيجة ستتحقق بهذه السرعة، ولكن بفضل إيمان الشعب العربي في سوريا ومصر، وبفضل إيمان الشعب العربي في الجمهورية المتحدة، قامت اليوم الجمهورية العربية المتحدة . أيها الشباب: إن أول عمل أقوم به بعد انتخابي رئيساً لـ الجمهورية العربية المتحدة، هو أن أتحدث إليكم أنتم شباب الجمهورية العربية المتحدة، أنتم أمل المستقبل، أنتم الأمل الذى تتجه إليه الأبصار وتتجه إليه الأنظار؛ حتى نستطيع أن نبنى ونعمل ونشيد ونسير قدماً لنحقق الأهداف التي طالما نادينا بها، الأهداف التي تنحصر في الحرية والسيادة والعزة والكرامة والاتحاد، اتحاد الوطن العربي؛ لتثبيت دعائم القومية العربية التي تجمع بين قلوب العرب جميعاً في جميع أرجاء الأمة العربية .
أيها المواطنون: أريد الآن أن أتحدث إلى إخواني في سوريا لأعبر لهم عن شعوري، شعوري صباح اليوم حينما عرفت النتيجة، لقد قلت عن شعب سوريا الكثير في كلماتي السابقة، ولكنى اليوم شعرت بالمحبة الحقيقية.. المحبة التي تصّدر من القلب، المحبة التي تصّدر عن إيمان، المحبة التي تُعبر عن الوحدة، المحبة التي تُعبر عن التضامن.
إني أقول لإخواني في سوريا: إنني أرجو من الله أن يساعدني حتى أستطيع أن أحقق أملهم، إنني أقول لكم جميعاً بعد أن نلت هذه الثقة الغالية التي تدل على الشعور العالي وعلى المحبة وعلى التضامن: إنني أرجو الله أن يعاونني لأعمل من أجل جميع شعب الجمهورية العربية المتحدة؛ لا إقليمية، لا طائفية، اتحاد وتضامن وعمل من أجل الجميع.. إن الثقة التي عبر عنها الشعب السوري الشقيق لها معنى كبير، لها معنى عظيم، وأرجو الله أيها المواطنون، أرجو الله- أيها الإخوة- أن يعاونني في تحمّل هذه الأمانة وفي حمل هذه الرسالة؛ حتى أستطيع أن أحقق الآمال التي تصبو إليها كل نفس في خلق هذه الجمهورية العربية المتحدة . اليوم- أيها المواطنون- أقول للعالم أجمع: إن العرب متضامنون دائماً، إن التضامن يجمع بين قلوبهم، وأقول لهؤلاء الذين أرادوا أن يُظهروا للعالم أن شعباً عربياً يحاول أن يرفع السلاح في وجه شعب عربي، أقول لهم: إن السلاح العربي لن يُرفع أبداً في وجه الشعب العربي، ولن يرفع شعب عربي بأي حال من الأحوال سلاحه في وجه الشعب العربي . وأنا- أيها المواطنون- أقول لكم ولكل العرب: إن جيش الجمهورية العربية المتحدة لن يَرفع السلاح في وجه أي عربي، ولكنه دائماً سيكون العون الأكيد للعرب جميعاً ضد العدو المشترك، إن هذه الجمهورية المتحدة ستكون دائماً سنداً للعرب، وإن هذه الجمهورية العربية المتحدة ستكون دائماً عوناً للعرب ضد الاستعمار وضد العدوان، وأرجو الله أن يوفقنا ويرعانا.. ” .
وكما في دمشق وسوريا، أيضاً في القاهرة وفي مصر كلها؛ احتفالاتٌ ضخمة وكبيرة، الشعب المصري يخرج فرحاً في الشوارع والساحات؛ الأضواء جعلت من ليالي القاهرة نهاراً ليصل الليل بالنهار، إنه مشهدٌ رائع لا يمكن أن ينساه أحد من الذين عاشوا تللك الأيام الخالدة، إنه مشهد رائع ليوم مجيد؛ لقد أصبح وما زال يوم الثاني والعشرين من شباط/فبراير من كل عام عيداً للوحدة العربية.
ويأتي مشهد خامس رائع ومجيد ليستكمل الصورة الخالدة وهو مشاهد متتالية لعدد من الأيام تداخلت كلها في مشهدٍ واحد، بداْ في دمشق في ذلك الصباح الباكر من يوم 24 شباط/فبراير ولأيام وليالي بعده .
إنه مشهد وقصة الساعات الأولى التي وصل فيها عبد الناصر ولأول مرة في حياته إلى دمشق؛ ففي السابعة صباحاً اقلعت من مطار “ألماظة” في القاهرة طائرة متجهة إلى دمشق، لعلها أول طائرة تحمل اسم «الجمهورية العربية المتحدة» وفي الساعة الثامنة تماماً بدأت الطائرة تعلو في الجو ثم بدأت تمرق وسط السحب في محاذاة شاطئ فلسطين وفي الثامنة والثلث كان جبل الشيخ المعمم بالثلوج يبدو عند الأفق، وكانت أول نفحة من سوريا؛ ويُطل جمال عبد الناصر من نافذة الطائرة يُلقى أول نظرة على الأرض التي انتخبته رئيساً لجمهوريتها دون أن تراه ودون أن يراها؛ وفي الساعة التاسعة إلا ربعاً كانت الطائرة تهبط في مطار «المزة» وبدت الطائرة للذين كانوا في المطار كأنها طائرة عادية كغيرها من عشرات الطائرات التي تهبط كل يوم في مطار «المزة»، ثم توقفت الطائرة تماماً أمام مبنى المطار وكان هناك جماعة من قادة الجيش السوري يتقدمهم اللواء «عفيف البزري» والزعيم «أمين النفوري» والقائم مقام «عبد المحسن أبو النور» الملحق العسكري المصري في دمشق، كانوا واقفين ينتظرون الطائرة وفي تصورهم أن القائد العام المشير «عبد الحكيم عامر» موجود بين ركابها؛ وفُتح باب الطائرة ولدهشتهم جميعاً ظهر على بابها، آخر شخص كانوا يتوقعون ظهوره في هذه الساعة من الصباح، وكان اللواء «البزري» أول من أفاق من الدهشة فقال: “يا خبر”! ثم بدأ الباقون جميعاً يتطلعون إلى الرئيس جمال عبد الناصر في ذهول وهم يرونه يهبط سلم الطائرة ويمد يده إليهم مصافحاً، ولم تكن هناك سيارات في الانتظار ولم تكن هناك ترتيبات للاستقبال، وركب الرئيس سيارة كانت في المطار، بينما اندفعت سيارة اللواء «البزري» تُفسح الطريق أمامها في الطريق الذى يؤدى من مطار «المزة» إلى عاصمة الأمويين الخالدة؛ وكان اندفاع سيارة اللواء «البزري» في الطريق هو الشيء الوحيد الذى لفت أنظار بعض السيارات المارة، فتطلع ركابها إلى الركب، ركبُ السيارات التي تجرى على الجانب الآخر من الطريق، ثم اكتشف ركاب هذه السيارات، الحقيقة مرةً واحدة، فاستداروا بسياراتهم وعادوا يحاولون اللحاق بموكب جمال عبد الناصر وهم ينادون باسمه؛ وبعد قليل كانت شوارع دمشق كلها تردد نفس الاسم، وفي تلك اللحظة كانت سيارة الرئيس جمال عبد الناصر قد وصلت إلى دار الرئيس «شكري القوتلي» .
كان الرئيس «شكري القوتلي» ما زال بالطابق العلوى بمنزله ولم يكن يعرف بأمر المفاجأة التي وصلت إلى دمشق في هذه اللحظات، وأُخطِر الرئيس «شكري القوتلي» بأن جمال عبد الناصر ينتظره في صالون بيته، وارتدى الرئيس «شكري القوتلي» ملابسه وهرع للقاء ضيفه؛ المفاجأة التي لم تكن متوقعة في هذا الصباح في دمشق.. وتعانق الرجلان .
وقال الرئيس «شكري القوتلي» لقد حدثتني نفسى بأنك قادم بعد أن سمعت في محطات الإذاعة تصريحاً نُسب للسيد «على صبري» يقول فيه، إن مشاورات تأليف الوزارة الاتحادية سوف تكون عقب وصول «شكري القوتلي» و الوزراء السوريين إلى مصر، ولما كان شيءٌ من ذلك لم يتقرر، فقد أدركتُ أن في الأمر شيئاً وأحسست بشعور غامض أن ذلك التصريح كان مجرد تمويه، وقد صدق ظني، ولكنني لم أكن أتوقع وصولك بهذه السرعة، كنت أتصور أنك قادم غداً أو بعد غد .
في تلك اللحظات كانت جموع الشعب التي سمعت النبأ بدأت تزحف على قصر الرئيس «شكري القوتلي» كأنها سيل ينحدر من قمم الجبال، وبدأت أصوات الجماهير تعلو حتى وصلت إلى أسماع الرئيسين حيث كانا واقفين في الصالون، وكانت الجماهير تهتف: ناصر، ناصر، ناصر، ناصر.. وخرج الرئيسان إلى شرفة البيت وتحدث الرئيس «شكري القوتلي» وبعده الرئيس عبد الناصر؛ ثم دخل الرئيسان إلى بيت الرئيس «شكري القوتلي» .
فمن منزل الرئيس «شكري القوتلي» يتحدث جمال عبد الناصر أمام الجماهير السورية قائلاً: “ .. كنتُ دائماً أتمنى في السنين الأخيرة أن أزور دمشق؛ لأنني كنت أشعر في كل وقت بأنها قلب العروبة النابض؛ ففيها تتفاعل القومية العربية، ومنها تتصاعد القومية العربية، وقلبها يخفق بالوحدة وتدعيم القومية العربية.. واليوم، وأنا أزور دمشق بعد تحقيق هذا الحدث الخالد في تاريخ العرب، الحدث الذى كافح من أجله الآباء والأجداد، هذا الحدث الذى تتمثل فيه قوة العرب وعزة العرب، وإذ حضرتُ اليوم إلى هذه المدينة العزيزة، إنما أقوم في نفس الوقت بتنفيذ النصيحة التي قالها الرئيس «شكري القوتلي» لي في القاهرة، وهي أن أحضر في الحال بعد ظهور نتيجة الانتخابات، هذه النتيجة التي أعتز بها، والتي أشعر بالمسؤولية الكبيرة التي تنجم عنها… لقد كان «شكري القوتلي» دائماً داعية للقومية العربية، لقد كان هو أول من تكلم معي في القومية العربية والوحدة العربية بعد نجاح الثورة مباشرة، واليوم أُخاطبكم من منزله، وأرى على وجهه بشائر الفرحة وبشائر النصر.
أيها المواطنون: إنني أشعر الآن، وأنا بينكم بأسعد لحظة من حياتي، فقد كنت دائماً أنظر إلى دمشق وإليكم وإلى سوريا وأترقب اليوم الذى أقابلكم فيه، والنهارده.. النهارده أزور سوريا قلب العروبة النابض، سوريا اللي حملت دائماً راية القومية العربية، سوريا اللي كانت دائماً تنادى بالقومية العربية، سوريا اللي كانت دائماً تتفاعل من عميق القلب مع العرب في كل مكان.
واليوم- أيها الإخوة المواطنون- حقق الله هذا الأمل وهذا الترقب وأنا ألتقى معكم في هذا اليوم الخالد، بعد أن تحققت الجمهورية العربية المتحدة.. اليوم، وقد حضرتُ إليكم من القاهرة أحمل إليكم تحيات إخوانكم في الإقليم الجنوبي، تحيات من القلوب، تحيات من النفوس، وأحمل إليكم أيضاً منهم الشعور بالمحبة، الشعور اللي كل واحد منكم يستطيع أن يعلمه من نتائج الاستفتاء، شعور محبة متبادلة بين الشعب في مصر والشعب في سوريا، تآخٍ وتآزر وتضامن في كل شيء؛ وهي دي الأسس لـ الجمهورية العربية المتحدة .
أيها المواطنون أقول لكم مرة أخرى: إن هذه اللحظات من لحظات العمر، وإن هذه الأيام من أيام التاريخ، وإن هذه المسؤولية التي ألقيت على عاتقكم مسئولية كبرى، وبعون الله وقوته سنعمل متحدين متكاتفين من أجل تحقيق أمل كل فرد منكم لبناء الجمهورية العربية المتحدة على أسس المثل العليا والعزة والكرامة والتآخي والمحبة.. اليوم- أيها الإخوة- وأنا أكلمكم من منزل أخي «شكري القوتلي»؛ الذى كان أول من دعانا إلى القومية العربية بعد أن قامت الثورة في مصر، وأول من بشر ودعا بالقومية العربية، اليوم أتوجه لأخي «شكري القوتلي» بالشكر والتقدير، وأقول له هذا باسم شعب مصر الذى وضعه أعلى منزلة، اليوم- يا إخواني- نسير قدماً إلى طريق العزة، وطريق النصر، وطريق الكرامة والعمل والبناء.. واللهُ يوفقنا.. ”.
ولما جاء الموعد الذى يجب أن ينتقل فيه الرئيس جمال عبد الناصر إلى قصر الضيافة، خرج إلى شوارع دمشق في سيارة مكشوفة؛ إن الحماس الذى شهدته شوارع دمشق لا يمكن أن يوصف، وأي محاولة لوصفه لن تستطيع أن تشير إلى الحقيقة؛ إن الطريق بين قصر ’القوتلي‘ وقصر الضيافة لا يتعدى مئات الأمتار، ولكن السيارة المكشوفة قطعته في أكثر من ساعة، ثم وصل الرئيس جمال عبد الناصر وسط بحر متدفق من الجماهير وبقي واقفاً في الشرفة أكثر من ربع ساعة يرد تحية شعب دمشق الذى احتشد في الميدان الكبير وملأت الجماهير جميع الشوارع المؤدية إلى قصر الضيافة .
وقال السيد الرئيس «شكري القوتلي» للرئيس جمال عبد الناصر: “ .. إن هذه الأمة في حماية شبابك وإيمانك وشجاعتك.. ”.
وقضى الرئيس جمال عبد الناصر كل ساعات ما بعد الظهر يخرج إلى شرفة القصر ويدخل منها، كلما كانت الجماهير تُلح عليه في أن يُطل عليها وكانت أصواتها كالرعد وهي تناديه: “طل علينا يا جمال“.
.. ويُطل عبد الناصر على الجماهير التي احتشدت في ساحة الجلاء ويرد تحيتهم رافعاً كلتا يديه ويتحدث إليهم أكثر من مرة في ذلك اليوم، والى ساعة متأخرة من الليل، كانت الجماهير تتدفق من أحياء دمشق تهتف باسمه، وتنادي عليه لكي يُطل عليها، وكان يطلب من الجماهير أن تنصرف لأن البرد يشتد مع وصول الليل، ولكن تجمعات الجماهير كانت تزداد، ومع منتصف الليل كان الميدان الفسيح أمام قصر الضيافة مازال ممتلئاً حتى آخره بالجماهير وهي تهتف من قلوبها: “طل علينا يا جمال“.
ومع ساعات صباح اليوم التالي كانت الجماهير تتدفق من أحياء دمشق تهتف باسمه وتنادي عليه لكي يطل عليها، وبدأت الحشود الضخمة رجالاً ونساءً تتوافد إلى ساحة الجلاء من كل سوريا، من كل قرية ومن كل مدينة في سوريا، من كل أرجاء الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة .
أيضاً بعد ساعات على وصوله إلى دمشق بدأت جماهير لبنان العربي هي الأخرى في التوافد إلى دمشق بالمئات وبالآلاف، كانوا يعّبرون الحدود السورية اللبنانية في سيارات وشاحنات، كلهم يريدون أن يروا عبد الناصر، وأن يعيشوا احتفالات سورية بالوحدة، جاء أبناء لبنان من بيروت ومن طرابلس ومن صيدا وصور والجبل جاؤُوا مسيحيون ومسلمون جمعهم إيمانهم بالوحدة العربية؛ وجاءت إلى دمشق وفودٌ من الأردن والعراق، وكانت جماهير حاشدة تضم مئات الآلاف من عرب الأردن والعراق قد حاولت عبور الحدود للوصول الى دمشق لكن سلطات البلدين حالت بينهم وبين عبور الحدود الى سوريا، وظهر جمال عبد الناصر في ذلك اليوم ولأيام تالية أخرى في شباط 1958 ليخاطب الجماهير المحتشدة في ساحة الجلاء .
وطوال ساعات ما بعد المساء والليل خاطب عبد الناصر الجماهير أكثر من مرة من شرفة قصر الضيافة، لتسمعه الجماهير المحتشدة في ساحة الجلاء وهو يقول في ساعات ما بعد ظهر ذلك اليوم:
“ .. أيها المواطنون: إنني في هذه الأيام أشعر بهذه المشاعر التي تعبرون عنها، وأشعر- كما تشعرون- أن دولتنا الجديدة «الجمهورية العربية المتحدة» التي قررها شعب الجمهورية العربية المتحدة؛ أشعر بحماس كما تشعرون، وأشعر أيضاً بالفرحة التي تشعرون بها، أشعر أيضاً بالأمل الكبير الذى كنا دائماً نحلم به؛ إن هذه الساعات التي قضيتها معكم هنا في دمشق قلب العروبة النابض، ورأيت فيها كيف تعلو راية القومية العربية، رأيت فيها الحماس والمشاعر، رأيت فيها القوة، رأيت فيها الشباب يتدفق وطنية ويتدفق بالعزم والإيمان، رأيت في هذه الساعات في دمشق ما كنت دائماً أتخيله وأنا بعيد عنكم، فأنا كنت أشعر بكم كما أراكم؛ لأننا كنا دائماً نشعر بأخوّتِكم ونشعر بمحبتكم، ونشعر بتضامنكم . وفي الحقيقة- أيها الإخوة المواطنون- إن الوحدة بين سوريا ومصر كانت دائماً حقيقة واقعة؛ أصبحت هذه الحقيقة قائمة منذ اتحدت الأهداف ومنذ اتحدت الأماني، ومنذ اتحدت الأماني في الاستقلال وفي الحرية، وفي الدفاع عن الاستقلال، وفي الدفاع عن الحرية . وإننا نحتفل اليوم- أيها الإخوة المواطنون- بالإعلان رسمياً عن هذه الوحدة؛ فقد كان شعب سوريا متحد مع مصر في أزمة القنال، وكان شعب مصر متحد معكم حينما كانت هناك أزمة التهديد التركي، وكان شعب سوريا وشعب مصر دائماً يشعرون أن كلاً منهم يؤازر الآخر ويقف بجانب أخيه . إننا اليوم- أيها الإخوة المواطنون- حينما نحتفل بهذه الوحدة، وحينما نحتفل بـ الجمهورية العربية المتحدة نحتفل بتثبيت هذه الأخوة وهذا الاتحاد بصفة رسمية، وأرجو الله أن يوفقنا دائماً ويؤلف بين القلوب ويوحد بينها، حتى نستطيع أن نحقق الآمال، وأن نشعر دائماً بالعزة والنصر، وأن نشعر دائماً بالفرحة والكرامة.. واللهُ يوفقكم.. ” .
وفي كلمة أخرى في صباح اليوم التالي يتحدث عبد الناصر أمام الجماهير التي زحفت من المدن السورية المختلفة:
“ .. أيها الإخوة المواطنون: أنا لم أُقدر أبداً أن أكون في دمشق في هذه الأيام، ولم يدُر بخلدي أبداً أن أكون رئيساً لـ الجمهورية العربية المتحدة، ولم أفكر في أن تتم الوحدة بهذه السرعة، كنت أقدر أن أمامنا سنوات؛ ولكن فجأة فرضتم إرادتكم هنا في دمشق وهناك في القاهرة، هنا في سوريا وهناك في مصر، فقام الاتحاد؛ هذا الاتحاد- أيها الإخوة المواطنون-هو نتيجة إرادتكم ونتيجة مشيئتكم، الشعب العربي في سوريا وفي مصر، وهو تعبير عن إرادة ومشيئة الشعب العربي في باقي الدول العربية، في كل دولةٍ من الدول العربية . لقد بدأ فجرٌ جديد يُشرق على ربوع هذه المنطقة من العالم؛ خرج الاستعمار إلى غير رجعة، خرج الاستبداد إلى غير رجعة؛ حينما دخل القائد الفرنسي إلى دمشق بعد الحرب العالمية الأولى، ذهب إلى قبر «صلاح الدين» وقال: ها قد عدنا يا صلاح الدين.. واليوم، نشعر جميعاً ألا عودة للاستعمار، ولا للسيطرة الأجنبية، فلا مكان في هذه الأرض، لا مكان في هذه الأرض إلا لكم، ولا حكم في هذه الجمهورية إلا لشعب الجمهورية، لقد حاول الاستعمار بكل وسيلة من الوسائل أن يقضى على الحيوية التي تنبض بها قلوبكم، ولكنكم انتصرتم.
أين هو الاستعمار الآن، الاستعمار الفرنسي والاستعمار البريطاني؟ لقد خرج الاستعمار الفرنسي من سوريا مدحوراً، وخرج الاستعمار البريطاني من مصر مدحوراً، وخرجت القوة الغاشمة حينما تكاتف الاستعمار الفرنسي مع الاستعمار البريطاني ليؤازر بعضهم البعض، ويُهاجموا بورسعيد، خرجوا وهم يجرون أذيال الخيبة والهزيمة والفشل.. ” .
ويخاطب عبد الناصر الجموع الضخمة التي جاءت من لبنان العربي حيث يقول:
“ .. أيها الإخوة المواطنون: .. إن لبنان العزيز هو الآن يمثل الجار على الساحل، الجمهورية العربية المتحدة هي دائماً العضد الأكبر والعون القوي للبنان وشعب لبنان ضد خطر إسرائيل، وضد التفرقة وإثارة الأحقاد وإثارة الكراهية، هذه الوحدة التي تجمع بين القلوب، قلوب العرب في كل مكان، قلوب العرب في الجمهورية العربية المتحدة وقلوب العرب في لبنان، هذه هي الوحدة التي نشعر بها، وإني أراها الآن تنطق من مشاعركم وتنبعث من قلوبكم؛ فلنعتمد على الله، ونطلب منه دائماً أن يعيننا ويهبنا النصر حتى نستطيع أن نحقق الأهداف.. وأشكركم من كل قلبي .
أيها الإخوة المواطنون: يسعدني أن ألتقى بكم دائماً، وقد رأيت في هذه الأيام القليلة الشعب العربي في لبنان على حقيقته، حقيقته التي تمثل الطيبة والمحبة والإخاء، هذه الوفود التي التقيت بها إنما كانت فرحتها هي فرحة الوفود التي التقيت بها في الشام.. في دمشق، وكانت مشاعرها هي نفس المشاعر التي رأيتها في القاهرة، وكان تعبيرها هو نفس التعبير الذى عبر عنه كلُ عربي التقيت به.. إنها الوحدة الكبرى؛ وحدة القلوب، إنها الوحدة العربية الحقيقة التي تجمع قلوب العرب في كل مكان، إنها السلاح القوى الذى نعتمد عليه اليوم.. لقد آن الأوان لأن نعلم الأسباب التي نتجت عنها مآسي حرب فلسطين، والأسباب التي وضعتنا تحت سيطرة الاستعمار والتحكم، إننا نعلم كل العلم أن الفُرقة كانت السبب الرئيسي، وإننا نعرف أن الاستعمار حينما أراد أن يسيطر علينا ويتحكم فينا؛ إنما يسعى إلى بث الفرقة والحقد والضغينة بين أبناء الوطن العربي الواحد.. ولكن العرب حينما تنبهوا إلى هذا، قاموا وهبوا كرجل واحد ليحاربوا الاستعمار، وحينما قام لبنان ليكافح الاستعمار الفرنسي وليتخلص من الاحتلال؛ كانت سوريا تقف معه في خط النار، وكانت مصر تنبض بها القلوب، وكنا في هذه الأوقات، ونحن نسمع أخبار كفاحكم وقتالكم، وثورة لبنان؛ نخرج إلى الشوارع حتى نعاون لبنان بكل ما نستطيع، وما كنا نستطيع في هذا الوقت إلا الهتاف والمظاهرات . هذه- أيها الإخوة- هي الوحدة الكبرى.. هذه- أيها الإخوة- هي الوحدة الكبرى . كنا في هذا الوقت طلبة في المدارس، وكنا في مدارسنا وقلوبنا معكم في كفاحكم، وكانت مصر في هذا الوقت لا تجد لها سبيلاً إلى أن تؤازركم بقوتها المادية، كانت تفعل ما تستطيع لتؤازركم بقوتها المعنوية، وكانت سوريا تؤازر بالقوة المعنوية وتؤازر بالقوة المادية باشتراكها معكم في القتال، وحينما قامت سوريا لتتحرر وتكافح ولتقاتل الاستعمار الفرنسي؛ وقف لبنان، وقف شعب لبنان ليقاتل؛ لأنه كان يعلم أن هذه المعركة هي معركة العرب جميعاً في كل مكان.. ”.
ويتحدث عبد الناصر عن شعب العراق العربي الذي أراد أن يعّبر الحدود ليصل إلى دمشق مهنئاً بقيام الجمهورية العربية المتحدة لكن حكام العراق أغلقوا الحدود وحالوا بينه وبين الوصول إلى دمشق، حيث يقول:
“ .. أيها الاخوة: لقد قال رئيس وزراء العراق عن الشعب العربي في سورية: إنه شعب يهتف، لا حول له ولا قوة! وإني أُشفق عليه من هذا المكان، وأقول له رداً على ذلك إني أرى شعب العراق وقد كُبل بالأغلال، ويواجه الحديد والنار، ولكنه هو القوة الوحيدة في العراق.. إن شعب العراق هو القوة الأساسية في العراق.
إن قوتنا- أيها الإخوة المواطنون- هي قوتكم لنجابه الاستعمار، ولنجابه أعوان الاستعمار، ونجابه الأساطيل؛ حينما بدأت الأساطيل والحرب، حرب الدول العظمى في بور سعيد، كنا نعتمد على الشعب العربي الذى يقول عنه مرجان- رئيس وزراء العراق- إنه شعب لا حول له ولا قوة.. إن هذه الشعوب التي يعتبرونها لا حول لها ولا قوة، هزمت الدول العظمى، وحولتها إلى دول من الدرجة الثانية، وإلى دول من الدرجة الثالثة؛ إن هذه الشعوب التي يقول عنها رئيس وزراء العراق: إنها شعوب تهتف ولا حول لها ولا قوة، هي التي انتصرت في بورسعيد، هي التي انتصرت ضد أعوان الاستعمار، هي التي انتصرت في معركة الأحلاف.. ”.
لقد كان هذا المشهد الذي جرت وقائعه ابتداءً من الساعة التاسعة إلا الربع من صباح 24 شباط/فبراير، أي منذ هبط جمال عبد الناصر في دمشق والايام والليالي التي تلت؛ كان رائعاً ومجيداً بل ومُهيباً، ولا نظن أنه قد تكرر في أي عاصمةٍ عربية.
هذه وقائع ومشاهدات لأهم مشهد في التاريخ العربي المعاصر، جرت أحداثه في دمشق، وليس قيل عن قال .
فما هو المعنى الحقيقي لاستقبال جمال عبد الناصر في دمشق؟، هذا الاستقبال الذى نقلته كل الصحف، ووكالات الأنباء والإذاعات، بكل تفاصيله، يكفي لأن يجعله وبكل بساطة }شيئاً لم يحدث من قبل{ .
معناه أن هذه الأمة كانت تبحث عن ” بطل ” فلما عثرت عليه، والتقت به وجهاً لوجه، تفجرت المشاعر المكبوتة في أعماقها منذ قرون طويلة من الزمان؛ إن استقبال جمال عبد الناصر في دمشق، لم يكن استقبال سياسي، أو قائد، أو زعيم، مهما كانت مساهمته في خدمة أمته؛ إنما كان استقبال جمال عبد الناصر أكثر من هذا، لم يكن مجرد سياسي أو قائد أو زعيم، ذلك الذى كانت مئات الألوف، يقفون في ساحة الجلاء منذ الصباح الباكر إلى ما بعد منتصف الليل، ينتظرون أن يخرج إليهم لخمس دقائق أو عشر، طوال فترة انتظارهم الطويل، ولم يكن مجرد سياسي أو قائد أو زعيم، ذلك الذى كانوا يُقبلون للسلام عليه، ثم يتطلعون إلى وجهه، ثم تتملكهم نوبة من البكاء!.. شيوخ القبائل يبكون؛ الرجال يصافحونه بيد، وباليد الأخرى يغطون وجوههم ليحجبوا عنه الدموع.. نساء وفتيات ما أن يقفن أمامه حتى يضيع منهن ما كن قد أعددنه ليَقلنَه له، ثم لا يجدّن ما يُسعفهن إلا البكاء وأيديهن ما زالت معلقة في يده .
إن الأمة العربية كانت تبحث عن بطل، فلما عثرت عليه كان ما كان.. لقد كان لهذه الأمة عزها ومجدها، ثم مرت عليها سنوات من الزمان، تكالبت عليها المحن والآلام؛ ولكن الأمة العريقة لم تنس ماضيها، ولم تسكت يوماً عن التغني بمفاخره، ولم يكن أمامها وسط ما أحاط بها من المحن والآلام إلا أن تحلم.. إن عصور الظلم والظلام التي مرت بها سلبتها الكثير، سلبتها الحرية أحياناً، وسلبتها لقمة العيش أحياناً أخرى، ولكن عصور الظلم والظلام التي مرت بها لم تستطع أن تسلبها أحلامها.. وكان حلمها أن يجيئ يوم، وأن يجيئ بطل .
ثم يدور الزمان دورة كاملة، ويعود العز والمجد، كما كانا في الماضي وأكثر مما كانا في الماضي! وعلى مر القرون التي مضت كانت الأمة العربية تتحرك، وكانت تنتفض، ثم لا تجد من يُمسك بيدها ويقودها وسط الأنواء والعواصف فتسكن أو تستكين ثم لا تجد مهرباً إلا حلمها “باليوم” و”بالبطل” . وفي دمشق لم يكن كل سجل جمال عبد الناصر من الأعمال في مشاعر الأمة العربية، مجرد أعمال سياسية أو انتصارات وطنية.. لم يكن الكفاح من أجل الاستقلال في مصر عملاً سياسياً أو انتصاراً وطنياً فحسب ولم يكن نداء عدم الانحياز، وتأكيده كخط واضح في المجال الدولي عملاً سياسياً أو انتصاراً وطنياً فحسب؛ ولم يكن العثور على السلاح، والدعوة إلى القومية العربية، وبلورة هذه الدعوة، ثم تأميم شركة قناة السويس ثم الانتصار على العدوان الثلاثي على مصر؛ لم تكن كلها أعمالاً سياسية، أو انتصارات وطنية فحسب، وإنما كانت هذه كلها في مشاعر الأمة العربية «إشارات».. إشارات معناها أن اليوم قد جاء، وأن ” البطل ” قد ظهر .
لقد سمع جمال عبد الناصر صيحةً من أحد الجنود، بينما كان يزور خط النار في سوريا، وهو يقف أمام بحيرة طبرية، ومستعمرات إسرائيل تبدو أمامه، وجبال الجليل تملأ الأفق؛ وصاح الجندي السوري: يا جمال الدين، هذه ” حطين “!.. و”حطين” هي معركة انتصار «صلاح الدين» الكبرى، وكانت على بعد خمسة كيلو مترات من جبال الجليل التي كانت تملأ الأفق أمام جمال عبد الناصر .
علينا أن نعترف بأن عبد الناصر في ذلك اليوم ولأيام لاحقة ذهب إلى منطقة الخطر، كانت سوريا في ذلك الوقت معزولة تتربص بها القوى المعادية التي كانت تحيط بها من الجنوب والشرق والشمال وكان الأسطول الاميركي السادس يتجول قرب سواحلها الغربية؛ كانت الدول والأنظمة معادية، لكن الشعوب وقفت وأيدت قيام «الجمهورية العربية المتحدة»، كان أكبر أمانيها قد بداْ يتحقق، بقيام الوحدة بين مصر وسوريا تغيرت المنطقة العربية كلها.. لقد تغيرت خريطة الشرق الأوسط حين تلاشت الحدود وذابت بين مصر وسوريا.
يتبع.. بـ (زيف ادعاءات البعث.. فلم تكن الوحدة هدفهم؛ بل السُلطة !)…
التعليقات مغلقة.