
جميل مطر *
تعودت أن أمر مرور الكرام على البيانات الرسمية التي عادة ما تصدر عقب أو قبيل اجتماعات رؤساء الدول وغيرهم من كبار السياسيين. أتوقع أن تتغير علاقتي بهذه البيانات، وبدقة أوفر لمست طلائع هذا التغير منذ لحظة تسرب لي خلالها الفهم بأن الأزمة الأوكرانية تحمل فى بعض ثناياها تطورات قد يتجاوز واحد منها أو أكثر الشكل المعتاد فى أزمات أوروبا والنزاعات بين الدول الكبرى لتمس بشكل مباشر مستقبل تفاعلات وتوازنات النظام الدولي الراهن، هذا النظام الذى اتخذ شكل وفعاليات القطبية الأحادية منذ أطلق الرئيس بوش قواته فى اتجاه أفغانستان والعراق عند مطلع القرن الحالي. عشنا بالفعل منذ ذلك الحين مرحلة هيمنة أمريكية تكاد تكون مطلقة، ازداد خلالها تعودنا على اجتماعات ومؤتمرات قمة تصدر عنها خطابات سياسية لا تشرح وفى الغالب لا تكشف أو تعبر بصدق ووضوح عن مضمون الحدث أو التطور موضوع الاجتماع، إلى أن جاء يوم من أيام الأزمة الأوكرانية وهى تتصاعد اجتمع فيه رئيس روسيا والصين فى بكين، يوم الاحتفال بتدشين أوليمبياد بكين للألعاب الشتوية، وأصدرا عقب اجتماعهما بيانا حمل دلالات عن واقع غير عادى ومستقبل أوشك على البزوغ. البيان فى صلبه ودلالاته خريطة طريق صريحة وجريئة.
اجتهدت، أنا وآخرون، على امتداد السنوات الأخيرة وهى السنوات التي شهدت الصعود المتسارع للصين والعودة القوية من جانب روسيا لممارسة سباق تسلح فى ظروف صعبة والانحدار المتدرج ولكن الملموس لمصادر القوة الأمريكية، اجتهدنا فى جمع شواهد وأدلة تشير إلى أن الوضع القائم، أي وضع الأحادية القطبية، لم يعد مناسبا لكل الأطراف فى ظروف سريعة التغير. كنا فى انتظار حدث أو تطور يقوم بدور المفجر الذى يرتب بدوره عملية الانتقال المتسارعة نحو شكل جديد للنظام الدولي. أخذنا فى الاعتبار الاختلافات الرئيسية بين الدول الثلاث الكبرى تجاه معدل الانتقال المناسب وعمقه وتوقيته والأوضاع الداخلية فى كل منها ومستوى تعبئة وحشد الإمكانات اللازمة لتحقيق الانتقال أو مسايرته أو لجمه. كنا على دراية كافية بأن الصين مثلا لا تتعجل الانتقال وروسيا تتعجله وأمريكا ترتب لوقف الانتقال إن استطاعت إلى ذلك الهدف سبيلا. كنا أيضا على ثقة معقولة بأنه قد يكون فى صالح طرف على الأقل نشوب أزمة حادة كمفجر لما يمكن أن يحدث فى مستقبل الأيام.
* * *
نشبت الأزمة حول أوكرانيا، ولا مبالغة فى القول إنها تبنت على الفور وظيفة المفجر المنتظر من وجهة نظر طرفين على الأقل هما روسيا والولايات المتحدة، وتردد أن لم يكن تريث الصين كطرف ثالث. كنا، كمتابعين ومحللين، أمام معضلة تواجهنا فى العادة كلما حاولنا التثبت من جودة تحليلاتنا وخلاصات ما توصلنا إليه بالملاحظة والمقارنة والتقدير بالعودة إلى لهجة المسئولين التحريضية ووثائقهم الرسمية. لم يكن الأمر صعبا بالنسبة لمواقف الولايات المتحدة وآراء المسئولين وسياساتها الفعلية على أرض الواقع وفى علاقاتها بأحلافها وأصدقائها. لم يكن صعبا لأن أمريكا دأبت خلال وقت غير قصير سابق على الأزمة على شن أنواع من ممارسات تجيدها بفعل تجاربها الطويلة فى الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتى فى القرن الماضي. شنت بالفعل حملة ضد الصين بدأتها خلال عهد الرئيس دونالد ترامب وبإرادة مبيتة من جانبه وجانب تيار قوى فى الحزب الجمهوري. أضاف الرئيس الأمريكي إلى أهميتها حملة كراهية ضد الصين أعقبها أنشطة عنصرية مورست ضد الأمريكيين من أصول آسيوية. لم يكن محل شك قرار الإدارة الأمريكية الدخول فى حرب باردة شديدة ضد الصين، تارة بذريعة مسألة داخلية تتعلق بالنظام السياسي فى هونج كونج وتارة بذريعة مسألة داخلية أخرى أقدم وأطول عمرا تتعلق بأحوال الأقلية المسلمة التي سكنت وتسكن مقاطعة سنكيانج، وتارة بذريعة مسألة داخلية ثالثة وهى النية المعلنة منذ أكثر من سبعين عاما من جانب الحكومة والحزب والأغلبية الساحقة من شعب الصين لاستعادة جزيرة تايوان للوطن الأم.
لم تتوقف الحملة ضد الصين عندما وصل الديمقراطيون برئاسة السيد جو بايدن إلى الحكم فى واشنطن، استمرت ولكن نشبت فى الوقت نفسه حرب باردة عنيدة ومكثفة ضد حكومة الرئيس فلاديمير بوتين فى روسيا. غطت هذه الحرب على الحملة الأمريكية ضد الصين أو هكذا بدا لنا الأمر فى بدايته، بينما يؤكد واقع الحال أن الصين لم تستجب للحملة التي تشنها واشنطن عليها بالحدة نفسها أو التركيز نفسه، وإن تأكدت من أن إرادة الحرب الباردة فى واشنطن طاغية ولن تفلت الصين منها. جاء الدليل بالقرار الأمريكي المتطرف والقاضي بعدم الاشتراك رسميا على أي مستوى فى أنشطة الأوليمبياد الشتوي بينما كانت الصين تتطلع إلى احتفال يليق بالصين الجديدة كما يحب الحزب الشيوعي الحاكم أن يراها ويريها للعالم. كانت المقاطعة الغربية مؤلمة ومخيبة لآمال منظمي الأوليمبياد فى وقت متزامن مع عودة جائحة الكورونا للانتشار الواسع فى الصين.
لم ترد الصين على أمريكا بإجراءات مقاطعة من أي نوع ولكنها أقدمت على اتخاذ قرار لعله أقوى وأبعد أثرا من أي عقوبات كان يمكن أن تقرر بكين فرضها رداً على التصعيد المتتالي فى المواقف والسياسات الأمريكية ضدها. لا شك أن بكين تدرك أهمية أن تدار المرحلة بحكمة وبعيدا عن انفعالات السباق نحو القمة. على الجانب الروسي كانت أوكرانيا اللحظة المناسبة لموسكو لتبدأ عندها مسيرة استعادة بعض المكانة التي كانت لها عندما كانت عاصمة للقطب الثانى فى نظام ثنائي القطبية، الهدف هذه المرة أن تكون روسيا قطبا فى منظومة قيادة ثلاثية أو متعددة الأطراف. أما الصين فلا ترى اللحظة الأوكرانية حيوية على طريق الصعود نحو القمة وربما لا ترى فى أي أزمة تنشب الآن ضرورة حيوية فى مسيرة الصعود. إنما ترى المرحلة القادمة شاقة للغاية وتحتاج إلى تجديد شامل فى أسباب الشرعية والصدقية اللازمة لقرارات مصيرية سوف يتخذها الرئيس الصيني قبل نهاية هذا العام، هذه الأسباب سوف يوفرها المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي الصيني المقرر انعقاده فى الخريف القادم.
* * *
أعود إلى ما بدأت به وهو الأهمية التي يمكن أن يضفيها البيان السياسي الصادر عقب اجتماع الرئيسين الصيني والروسي فى بكين على الجهود المبذولة لاستشراف مستقبل العلاقات الدولية. يقول البيان فى إحدى فقراته العديدة ما معناه أن الديمقراطية قيمة إنسانية عالمية وليست ميزة يتمتع بها عدد محدود من الدول، ومسئولية تنميتها وحمايتها تقع مشتركة على عاتق المجتمع الدولي بأسره. يقول أيضا أن أي أمة يمكنها أن تختار الأشكال والطرق التي بواسطتها تنفذ الديمقراطية بما يتفق وحالتها وطبيعة نظامها السياسي والاجتماعي وخلفياتها التاريخية وتقاليدها وخصوصياتها الثقافية.
يستطرد البيان قائلا ما معناه إن محاولة دول بعينها فرض وصايتها على الحكم على نظم الحكم فى دول أخرى ما هو إلا نوع من الهيمنة يشكل تهديدا خطيرا للسلم العالمي والاستقرار. وفى فقرات أخرى يعرض قواعد عمل ليسترشد بها قادة الدول الطامحة لأداء دور فى قيادة العالم، وأشكال التعاون المتوقعة فى نظام دولي متعدد الأقطاب وأنواع المشاركة من جانب الدول القائدة مع الأمم المتحدة ومجلس الأمن لتحقيق السلم ومنع الهيمنة.
أتصور أن أمورا كثيرة بالغة الأهمية سوف تشغل بال أهل الحل والعقد فى الشهور والسنوات القادمة، أزعم أن بينها هذا البيان الذى سوف يحظى باهتمام علماء العلاقات الدولية والمتخصصين والعاملين على استشراف المستقبل باعتباره أقرب شيء ممكن إلى أن يصبح وثيقة أيديولوجية تفسر أسس وطبيعة نظام دولي جارٍ تأسيسه. أتوقع أن يخضع البيان لكثير من الفحص والدراسة من جانب منظري الحكم والسياسة فى دول العالم النامي وبخاصة هؤلاء الباحثين عن مواقع لبلدانهم فى خرائط السياسة الدولية فى المستقبل. أعرف أن اهتماما مماثلا وقع فى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين وكانت نتيجته ظهور أفكار ومؤسسات الحياد الإيجابي وعدم الانحياز كتيار أدى دوراً إيجابياً لصالح الأمن والسلم الدوليين. المثير فى هذا التشبيه هو أن الخيارين المطروحين حاليا سواء من جانب المعسكر الليبرالي والمعسكر الآخر الذى تعلن عنه وثيقة بكين خياران لا يفسحان المجال لخيار ثالث ممكن أن يظهر ويتحقق حاضراً أو مستقبلاً.
* كاتب ومحلل سياسي
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.