عزت الشيخ سعيد
جميع الأديان السماوية والأرضية، ودون استثناء، انقسمت إلى طوائف وشيع، وإلى مذاهب وجماعات، وكل يدعي الحق والأحقية في تمثل صوابية الدين كما تأسس أول مرة، وبغض النظر عن كون كل جماعة تمثل الأغلبية أو الأقلية.
غالبا الأقلية تدعي المظلومية، وترفعها شعاراً تاريخيا لها، وبالتالي تضيع فرص التفاهم والتلاقي ببن مجاميع الدين الواحد.
وعندما تحين أية فرصة للانقضاض على الآخر (وبغض النظر عن كونه من الأغلبية أو الأقلية) فإنه لا يوفرها، فتسيل الدماء، وتزهق الأرواح، وتضيع الحقوق، ويصبح مصير الناس ومستقبل الأجيال على محفة، قواعدها تخوين الآخر وتكفيره.
لا يوجد دين من الأديان السماوية والأرضية، لم يمارس أتباعه (بطوائفهم ومذاهبهم ومجموعاتهم) العنف سبيلا إلى الانتشار والتوسع، وتثبيت القواعد، والاحتفاظ بمقاعد السلطة والسلطان.
يثبت التاريخ أن جميع الحروب الدينية البينية (سواء حروب الأديان أو الطوائف) انتهت بهزيمة الجميع، مخلفة مآسي وجراحاً، استمرت طويلاً حتى تعافت المجتمعات منها، ويبدو أن لا أحد يرغب بتعلم الدرس، وكلٌ يسعى للمرور بذات التجربة، بكل كوارثها ومراراتها، ومع “هيغل” في مقولته: (أن كتاب التاريخ مفتوح ولكن الشعوب لا ترغب في تعلم دروسه)، ومن لا يتعلم من دروس التاريخ ، يتوجب عليه إعادة الأخطاء بكل ما تنتجه من كوارث وإخفاقات.
كان العنف أحد المميزات التي رافقت البشر منذ وجودهم على الأرض، بل وتزايد بشكل مضطرد مع مرور الأيام.
ففي المرحلة البدائية، والتي تم التوافق على تسميتها “بالمرحلة الذئبية” حيث يقتل الإنسان شبيهه ويلتهمه، إلى المرحلة الأكثر تطورا مرحلة تشكل المجموعات الأولى على شكل قرى وقبائل، جرت الحروب بين هذه التشكيلات دفاعا عن النفس والمكتسبات، أو غزوا للآخر المختلف لسلبه مواقع وممتلكاته.
ومع ظهور الأديان (سواءً الأرضية أو السماوية) تم منح هذه الحروب غطاءً قدسياً، بالدفاع عن الإله أو شريعته، وكلٌ يدعي أن إلهه معه .
من الحروب الأسرية في الصين والهند، إلى الحروب اليونانية والفارسية، إلى الحروب الصليبية، والتي ما تزال تلقي بظلالها علينا حتى اليوم.
وما تزال كتب التاريخ تذكر حروب الطوائف في أوربا، حرب المئة عام، وحرب الثلاثين عاماً، بين الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس، ويذكر التاريخ أن حرب الثلاثين عاماً قضت على ثلث الشعب الألماني.
وحتى في العصر الحديث، عصر التقدم والازدهار والاتصال والتواصل (القرن الحالي والقرن الذي سبقه) بقيت الحروب المقدسة، حروب الأديان والطوائف واستعداء الآخر المختلف ترافقنا.
فما تزال دماء وعذابات الإيغور في الصين، والروهينغيا في بورما، والكشميريين في الهند، واستهداف الأقليات المسلمة في قلب أوربا، في يوغسلافيا السابقة، وفي بعض دول أفريقيا، شاهدة على ما نقول.
لا يبدو الأمر أحسن حالاً في مشرقنا العربي (في العراق وسورية ولبنان واليمن) حيث انفجر الصراع الطائفي بشكل كارثي، وبفعل فاعل، فما من حادث أو حدث إلا وخلفه من يعمل عليه، وكان لإيران اليد الطولى في تفجيره.
ولا ننكر أن الشروط كانت متوفرة لحدوث ذلك الانفجار، فالأنظمة المتعاقبة على هذه البلدان، أبقت على الحالة الطائفية وجمدتها واستخدمتها، بما يخدم مشاريعها وبقائها في الحكم.
ولم تقم النخب العربية بكل تلاوينها، بالدور المناط بها أو المنتظر منها، في نقد يطال أسس الطائفية، ويفكك منظوماتها، ونذكر هنا بمقولة “كارل ماركس” (يجب البدء بكل نقد وأول نقد يجب البدء به هو نقد الدين) ولا يعني النقد الإلغاء ولا الحط من قيمة ما يخضع للنقد، بل يعني تفكيك المفاهيم والقيم، لمعرفة لماذا وصلت إلى ما وصلت إليه، والعودة إلى الحالة الأولى التي ولد بها، كدين يدعو إلى السلام والرحمة والتعاضد، وصولاً بالبشر إلى الأنسنة الموعودة.
لقد تحول الدين كل دين إلى طوائف وشيع ومذاهب، عبر مسيرته التاريخية، محملاً بشرائع متخالفة ومتنابذة ومتحاربة أيضاً.
وما لم يحصل النقد الموعود، سيبقى الصراع مفتوحاً بين الجميع وضد الجميع، ويدفع الجميع فواتير باهظة الأثمان الآن ومستقبلا، وكما كان في الماضي القريب أو البعيد.
نقد الدين، كان بداية التحول التاريخي الأول الذي حصل في أوربا عبر “مارتن لوثر” (والذي عرف بعصر الإصلاح الديني) في محاولة لإعادة الدين إلى فطرته الأولى، دين الفرد وليس الجماعة، واحترام الآخر المغاير، واحترام العقل وما ينتجه، باعتبار العقل خليفة الله في أرضه، ومدنية التعليم (جعله مدنياً لا دينيا) لأنه وعلى حد قول “مارتن لوثر”: عندما تزهر المدارس تزهر الحياة وتزدهر.
ورب قائل يقول متسائلاً، وهل منع الإصلاح الديني والبدء بنقد الدين من حروب الطوائف في أوربا؟.
وبكل تأكيد ستكون الإجابة: لا
ذلك هو التاريخ ودرس التاريخ، الذي استوعبته أوربا وشعوب أوربا، من أن الحروب الدينية ما من نتائج منها سوى الموت والخراب، فتوصلت إلى إنهاء الحروب الدينية على أرضها، عبر معاهدة “وستفاليا” عام 1648.
وأما الانفجار الطائفي الحاصل في مشرق العرب، فقد حصل قبل إنجاز الإصلاح الديني، وهذا ما يهدد باستمراره، وإن خفتَ وضعف تارةً أو يوماً، لربما يُطل في كل وقت، ملقياً بظلال الدوران في ذات الساقية التي لا تنتج سوى الموت والخراب.
التحولات التاريخية موضوع آخر سيكون لنا إطلالة عليه عبر هذا الموقع الجاد والهادف.
التعليقات مغلقة.