الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

طابع الفاشية

رنا قباني *

كان البقال يجلس على كرسيه المصنوع من خشب وقش مضفور، ورثه عن أبيه، مع محله المتواضع في أحدى حارات دمشق. بقي، رغم الزمن الذي غير أكثر الناس، من هؤلاء البائعين الذين يخافون ربهم، ويكيلون بالمكيال الحلال. كان مزاجه محبطاً يومها، يفكر كيف أصبحت السلع الغذائية الأساسية التي بالكاد يمكنه شراءها، قد زاد سعرها أكثر من عشرة أضعاف، فأصبحت خارج نيل الغالبية العظمى من زبائنه القدامى.

فجأة، دخل عليه هيكل عظمي، وقد سلبت منه كل ملامح الإنسان الحي، يرتدي «غيار بريتيل» داخليا وبنطال «بيجاما» مقطعاً وعليه آثار سنين من البراز والبول. كان الشخص حافي القدمين، ولونه لون الأموات، الذين لا يتم دفنهم بسرعة كافية تليق بأرواحهم المسكينة. بكلمة واحدة، كان الرجل سجينا أطلق سراحه في «عفو» بشار الأسد الطنان الرنان، والفارغ من أي معنى إنساني أو سياسي، في ذلك اليوم نفسه.

«لست بشحاذ» قال بصوت منخفض للبائع. «لا أريد منك إلا أن تقول لي أين أنا؟ حُبست 20 سنة، وكنت أعمل بورشة نجارة في دوما، ولا أعرف حتى هذا اليوم ما كان ذنبي لأسجن. نقلونا من فرع مخابرات إلى فرع مخابرات، ونحن معصوبو العينين ومقيدو الأيدي والأرجل، فلم أعد أستوعب أي شيء من كثرة الضرب على رؤوسنا. لقد أطلقوا سراحي هذا الصباح، بلكمة «بسطار» على ظهري. هكذا ودعني الملازم، بعد ما سب شبابي، ليرميني هكذا في الطريق، كما تراني أمامك».

جلب البقال المفجوع بهذا المنظر «شحاطة» من البلاستيك، وبعث أجيره لكي يأتي ببنطال وقميص من داره في آخر الحارة. كانت هناك آنسة عانس في المحل، اعتادت ان تشتري حاجاتها من هذا البائع منذ طفولتها. كان والدها طيب السمعة قد توظف بوزارة التعليم فور الاستقلال، فاستطاع وقتها- مثله مثل غيره- أن يعيش بكرامة هو وعائلته (التي كانت تُعتبر من عائلات الطبقة الوسطى، تلك الطبقة التي انقرضت بمفرمة حزب البعث) من معاشه الشهري ولا أكثر. أما معاشه التقاعدي، الذي ورثته أبنته بعد وفاته لأنها لم يكن لها معيل، فكان يعادل 40 دولاراً في الشهر- لا يكفي لإطعام قطة شارع كمشة من «الشَخَتْ» بشكل يومي.

ومع ذلك، ذهبت هذه المخلوقة فوراً لتشتري للسجين «سندويتشات» من بائع الشاورما، وهي التي لم تذق طعمها بنفسها منذ سنوات. كانت تستر جوعها بالزيت والزعتر وبقطعة من البندورة، مع عِرّقْ من الطرخون البلدي أحياناً.

عادت تحمل الطعام وقارورة بلاستيكية من الماء، و«بروة» صابون غار قدمها لها بواب الجامع. وصابون الغار، الذي رافق حياتنا اليومية نحن السوريين، أصبح أندر من الألماس «الفلمنك» بعد تدمير مدينة حلب بالطائرات الروسية والمال الإيراني والبُغض الأسدي، وبعد محو أسواقها الأثرية من الوجود، التي لم يكن لها مثيل في العالم. هذه الآنسة، التي أعطت السجين ما يمكنه تنظيف جسده النحيل به قليلاً على الأقل؛ كانت تعاني من مرض «التوحد» إلى جانب وجع الوحدة. فكان الناس يضحكون على ملابسها الغريبة، كجراب «السوكيت» و«كندرة» ذات «الشواطة» الطفولية. شعرها الشائب كان مصففاً بشكل بدائي، إذ كانت تقصه بنفسها في البيت. وجع هذا السجين كان وقعه عليها كالصاعقة.

فقبل 12 سنة، جاء عنصر من فرع المخابرات ليدق جرس بابها، وليصطحبها حالاً إلى التحقيق. بالصدفة، كانت يومها منهمكة بقراءة ‘كافكا’، الذي وجدت أعماله الكاملة في مكتبة والدها الضخمة، التي كانت كنزها في الحياة، والشفاء من العزلة. وحين دخلت السيارة وهما في طريقهما إلى الفرع، عانت من نوبة صرع قوية، نتيجة خوفها من المجهول. لم يبالِ العنصر، وتركها تنتظر مدة أربع ساعات مستلقية على الأرض الوسخة.

ثم أخيراً، عاد ليدخلها إلى مكتب رئيسه.

«يا آنسة سلافة» قال لها هذا البليد. «من هم معارفك؟» ردت بسذاجة أنها تعرف الجيران، وأن ليس لديها أصدقاء، لأن صديقة صفها الابتدائي قد هاجرت إلى فرنسا واستقرت هناك منذ سنوات طويلة. «وهل تكتبين لها رسائل، يا ترى؟» «نعم. أكتب لها رسائل. وأحاول أن أنتقي لها طابعاً جميلاً لأضعه على الظرف». فسألها ماذا كتبتِ لها في آخر رسالة؟ قالت أنها نسيت التفاصيل.

«سأذكِرَكِ إذاً» قال الوحش، وأخرج من درج مكتبه الضخم، ظرفاً أزرق رقيقاً، وأنتزع منه ورقة زرقاء، ثم قال:

«كتبتِ هذه الكلمات بعد أن أتى جاك شيراك لزيارة السيد الرئيس في عام 2002. قلتِ لصديقتك أنكِ فرحتِ بهذه الزيارة، لان الماء والكهرباء لم ينقطعا أثناءها، والأرصفة العوجاء سيئة البناء (التي كنتِ قد كسرتِ رجلكِ حين وقعتِ نتيجتها منذ أشهر) قد صلحتها البلدية وأخيراً».

ثم قال، وهو يحدق بوجه هذه المرأة الهشة التي ربما كانت بعمر جدته، أنها من صنف الدواب لا شك، لأنها لا تدرك جريمة ما فعلت. أولاً، شوهت سمعة البلد في الخارج. ثانياً، نشرت إشاعات مغرضة لا تفيد إلا العدو الصهيوني. ثالثاً، عملت مجدة على تدمير الاقتصاد السوري، لأنها بكلماتها الكاذبة عن النعيم الأسدي، مست بالمشاريع التي تريد استقطاب السياح إلى الوطن.

أما الجريمة التي يجب أن تحبس عليها لمدة عشر سنوات، كما ينص «قانون حزب البعث» فهي الانتقاص من هيبة الدولة.

ثم أخذ حقيبة يدها منها وفتحها، ثم ضحك كالشيطان حين وجد فيها مبلغاً لا يكفي لشراء باكيت سجائر واحد.

«روحي من خلقتي، يا، بس اشلحي الساعة يلي لابستيها أول، واتركيها على المكتب».

* كاتبة سورية

المصدر: القدس العربي في 26 – حزيران/ يوليو – 2014

التعليقات مغلقة.