الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

جزائر ما بعد الحراك- غد أفضل رغم التحديات

عبد الحميد صيام *

تغيرت الجزائر كثيرا بعد آخر زيارة قمت بها عام 2013. كانت الجزائر تعتقد أنها في مأمن من الحراكات الشعبية التي اجتاحت الوطن العربي انطلاقا من تونس، فيما أطلق عليها مصطلح الربيع العربي. وكانت سعيدة أن الانتفاضات الشعبية قفزت عنها بعد ما شاهدت ما كان يجري في ليبيا واليمن وسوريا. كانت ذكريات العشرية السوداء ما زالت عالقة في أذهان الجيل، الذي ذاق مرارتها وويلاتها. وكان اليأس قد تجذر في النفوس، بعد أن شاهد أن المؤسسة العسكرية تصر على إعادة ترشيح الرئيس السابق بوتفليقة للمرة الخامسة، وهو المصاب في بدنه وقدراته الذهنية.

وفي ظل رئيس غير قادر على حسم الأمور، تكونت طبقة طفيلية نشأت حوله واستغلت خيرات البلاد باسمه، فأثرت بطريقة فاحشة وهرّبت ملايين الدولارات وعطلت التنمية الرشيدة، وانتشرت في ظل تلك الأوضاع حالات من الإحباط والسلبية واللامبالاة واليأس، تجسدت في العنف الداخلي ومحاولات الهجرة والبحث عن فرص جديدة خارج البلاد. كل ذلك تغير بعد الحراك الذي انطلق يوم 22 فبراير 2019 وما نتج عنه من ثورة شبابية راقية، تركت بصماتها على الدولة والمجتمع والسلوك العام، والتوجه نحو تنمية رشيدة قد تأخذ وقتا قبل أن تشمل كل أرجاء هذا البلد القاري أكبر دول افريقيا مساحة.

أثر الحراك:

في زيارتي هذه لاحظت أن الحياة في الجزائر تغيرت للأفضل، خاصة ما يتعلق بالسلوك العام، فالجزائري معروف بحدته وعصبيته الزائدة في حسم أي خلاف. كانت مقرات الدرك الوطني تكاد لا تتسع لأصحاب القضايا، وغرف الطوارئ تستقبل المصابين يوميا بالعشرات، كل ذلك أصبح من الماضي. الآن تجد الأمن والأمان في الشوارع، فلا تسمع صراخا ولا ترى مشاجرة ولا يتعرض أحد للاعتداء. الفتيات، محجبات وسافرات، يسرن بكل ثقة، دون أن يتعرض لهن أحد لا لفظا ولا قولا. يجلس الناس في المقاهي يتحدثون بهدوء ويحتسون قهوتهم، دون أن تسمع مجادلة أو صراخا كما كان الحال من قبل، حتى حوادث السيارات انخفضت، وعدد الحالات أمام دوائر الشرطة لا تقارن بما كان الحال عليه قبل الحراك. انطلقت ملايين الحناجر من شباب الجزائر تطالب بالتغيير السلمي لتحقيق الكرامة وفرص العمل وإنهاء الفساد والانتقال إلى الدولة المدنية الديمقراطية. استمر الحراك لأكثر من عام، قبل أن توقفه جائحة كورونا، دون أي حادث عنف أو تخريب أو اعتداء أو فوضى، ولا أطلقوا شعارات تسيء لأحد، بل بقيت الهتافات والمسيرات والاحتجاجات كلها إيجابية.

كان الشباب يحملون في اليوم التالي مكانسهم فينظفون الشوارع، ويعيدون لساحة البريد رونقها وللزخم الجماهيري روعته. لم يرفعوا إلا علم الجزائر وعلم فلسطين المتجذر في أعماق كل جزائري وجزائرية. وكان من أجمل الشعارات التي رفعها الشباب يافطة تقول «نتركها لكم لكن أرسلونا لفلسطين». كانت النساء تزغرد والحناجر تدوي «حرية وديمقراطية». وللعلم فلم يهتف الجزائريون للكرامة لأنهم لم يفقدوها أصلا، كما فقدها إخوة لهم في أكثر من بلد عربي، يرزح تحت حكم الطغاة. فالجزائري يضحي بروحه ولا يتخلى عن كرامته. كان رجال الأمن والشرطة يردون على تحية الجماهير بتحية أحسن منها، فلم يدفعوا أحدا ولم يعتدوا ولم يصرخوا ولم يستخدموا أي مظهر من مظاهر العنف. لقد تلقت قوات الجيش والأمن شعار «خاوة خاوة» وتصرفوا على أساس أن هذا السيل العارم من الجماهير، إنما هم إخوة واخوات لهم، وعليهم توفير الحماية لهم وحفظ النظام كي لا يصاب أحد بأذى. بهذا استطاع الحراك أن يبعد عنه إمكانية التدخلات الأجنبية، التي تسعى لتدمير الثورات وحرفها عن مسارها والعمل على تنصيب طاغية مرتبط بقوى خارجية.

هل حقق الحراك أهدافه؟

لا خلاف على أن الحراك حقق أشياء كثيرة لكنه لم يحقق الهدف الشامل والنهائي وهو إقامة الدولة المدنية الديمقراطية التعددية المسؤولة أمام جماهيرها، والبعيدة عن الفساد، التي تساوي بين المواطنين وتحترم جميع حقوقهم في ظل سيادة القانون، لكن في الوقت نفسه، يشعر كل من تحدثت معهم، من وزير الخارجية إلى سائق التاكسي، بأن الحراك حقق الكثير. فقد أغلق الباب أمام ترشيح بوتفليقة لدورة خامسة تسيء للرجل والوطن. عدد كبير من مافيات الفساد وضعوا خلف القبضان، لكن بالتأكيد ليس كلهم فبعض الفاسدين، لاذوا بالفرار. ولا شك بأن هناك اتساعا في هامش الديمقراطية والحريات العامة والانفتاح الإعلامي. كما أن انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون يعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح فهو لم يأت من المؤسسة العسكرية، حتى إن كانت راضية عنه. من جهة أخرى فرض جيل الشباب الذي صنع الحراك السلمي رؤيته على المؤسسة الحاكمة، ولم يعد أحد يستطيع أن يهمش 60% من الشعب الجزائري، الذين تقل أعمارهم عن الثلاثين عاما. والأهم من هذا أن الشعب الجزائري الآن موحد في مطالبه ورؤيته وحبه لوطنه، وعلى استعداد لأن يعود للشارع إذا أحسّ بأنه حراكه الكبير انتهى إلى لا شيء.

الوطن مستهدف:

حديث معظم الناس في الجزائر، إن لم يكن كلهم، هو أن الجزائر مستهدفة لمواقفها المبدئية في دعم حركات التحرر والوقوف ضد التطبيع الصهيوني وضد منح إسرائيل عضوية مراقب في الاتحاد الافريقي. استهداف الجزائر من قبل فرنسا وإسرائيل ليس خطابا إنشائيا، بل حقيقة واضحة. حتى إسبانيا التي تحاول أن تأخذ موقفا وسطا، اضطرت للتراجع والاصطفاف مع العديد من دول أوروبا والولايات المتحدة في موضوع الصحراء الغربية. والجزائر الآن تعتقد أكثر من أي وقت مضى أن الأمم المتحدة عاجزة عن تسوية الصراع في الصحراء الغربية، على أساس القرارات الدولية التي اتخذت عند وقف إطلاق النار عام 1991 والتي بموجبها أنشئت بعثة أممية لمراقبة استفتاء تقرير المصير للشعب الصحراوي. لكن تغيرا جذريا في المنتظم الدولي بدأ منذ عام 2007 بضغط فرنسي أمريكي ليقتصر الأمر على مبادرة مغربية، لحكم ذاتي لا يأخذ بعين الاعتبار خطة التسوية الأصلية القائمة على حق تقرير المصير. المغرب، من جهته، يشعر بأنه عدّل موازين القوى لصالحه، ويشعر بأنه قادر على فرض رؤيته للتسوية. بالمقابل شهد الموقف الجزائري تصعيدا بقطع العلاقات مع المغرب ووقف تدفق الغاز عبر الأراضي المغربية، وتعزيز قدراته التسليحية ودعمه قرار جبهة البوليساريو بالانسحاب من اتفاقية وقف إطلاق النار لعام 1991 واستئناف القتال، وهو ما يعيد المسألة إلى المربع الأول عند بداية الصراع عام 1975.

الجزائر تشعر بنوع من الثقة أن الجماهير العربية تقف خلفها بغض النظر عن مواقف الحكومات. وليس صدفة أن رد الجزائر على زيارة وزير الحرب الإسرائيلي للمغرب لتوقيع الاتفاقية الأمنية العسكرية الاستخباراتية كان بدعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس واستقباله كرئيس دولة، وما يتبع ذلك من مراسم التشريف وتقديم مساعدات مالية بقيمة مئة مليون دولار وزيادة البعثات الطلابية للفلسطينيين لتصل إلى 300 بعثة، والعمل على رأب الصدع الفلسطيني من خلال دعوة شاملة لجميع الفصائل إلى الجزائر لمحاولة الخروج من أزمة الانشقاق. هذه المواقف تعزز ثقة الشعب الجزائري بقيادته، التي تصف نفسها بـ «المدينية» الجديدة نسبة للراحل هواري بومدين الذي ما زال يسكن في قلوب الجزائريين.

بلد غني وواسع وشعب حي جله من الشباب يرسم مستقبله بثقة كبيرة بعد أن تجاوز سنوات الجمر والفوضى والفساد، يعيد توزيع الثروات على ولاياته الثماني والخمسين، يقف بصلابة لا تتزعزع مع قضايا الشعوب، ولا تخيفه التهديدات.

* باحث فلسطيني محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.