الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

اغتصـاب سوريا

رنا قباني *

في عام 1965، وأنا في السابعة من عمري، انتقلت عائلة إلى البناية المواجهة لبنايتنا واستأجرت الطابق الأرضي فيها وسكنته. أهل الحي لم يعرفوا شيئاً عن جيرانهم الجدد، سوى أنهم كانوا من خارج دمشق ومن البعثيين- تلك الفئة السوسيولوجية الجديدة على أذهاننا وقتها، والتي لم تقنعنا آنذاك، ولا إلى يومنا هذا، وبعد مرور 51 سنة لاستيلائها على الحكم عبر الدبابة- وأنه ما كان لها منهج سياسي سوى الانتقام الغبي البشع.

سرعان ما لاحظ الحي أن شقتهم، رغم صغرها، كان يسكنها عدد من الرجال تجاوز العشرين نفراً، وإمرأة وحيدة كانت الأخت والعمة العانس، تقضي وقتها وهي تراقب الشارع من شباكها، مرتدية قميص نوم ذي لون «بيج»، يشبه ذاك الذي ارتدته اليزابيث تايلور في فيلم «بترفيلد 8»، ويا للفرق بين المنظرين!

شارع ابو ذر الغفاري وقتها كان يسكنه مواطنون جاؤوا من كل احياء دمشق القديمة، ومن كل مناطق سوريا، والكثير منهم أيضاً أتوا من بلاد التراجيديات التاريخية: من فلسطين، وأنطاكيا، وأرمينيا، وكردستان، وألبانيا، والشيشان، وداغستان؛ ومن اليونان، والقرم، وبلدات صغيرة نائية في أعالي جبال البحر الأسود، محتها بالكامل سيوف الروس، بعد انتفاضات المسلمين واليهود ضدّ جبروت موسكو، وسبحان مبدل الأحوال!

كانت اللغة المشتركة بين كل هؤلاء (إن لم يجيدوا مبادئ العربية أو لغتنا الدارجة العجيبة بعض الشيء) هي اللغة العثمانية التي أصبحت، وبسرعة البرق، لغة منقرضة إلا عند اللاجئين من جيراننا، مسيحيين كانوا أم مسلمين أم يهوداً.

كان الحي يستقبل السكان الجدد ببراغماتية لا يمكن نسيانها، ليساعدهم على الاندماج السريع في حياة جديدة وصلوا إليها بعد المشقات والمتاعب الهائلة. فالنجار أبو عصام مثلا، رحمه الله، أصر أن يُعلمْ زوج الجارة الأرناؤوطية فن حفر الخشب، وابنها كيف يخلط الـ«برداخ»، لكي يتقاسموا لقمة عيشه المتواضعة، إذ أنهم وصلوا إلى شارعنا وشامنا الشريف وهم معدومو الحال. السيدات البورجوازيات سرعان ما قررن مساعدة الأرملة الرشيقة من بنات أنطاكيا المسيحيات، فتشاركن في شراء آلة خياطة ومجلات «بوردا» لها، لكي تبتكر لهن فساتين الموضة التي كانت تتغير في دمشق أسرع من تغيرها في باريس، مربط خيلنا وخيالنا الجمالي أيضاً. الشاب الأرمني الذي عُرف بإتقانه الرياضيات، رغم تأنيثه للمذكر وتذكيره للمؤنث، جاء إلى بيت جدتي لكي يحاول تعليمي أسرار الجبر، التي بقيت إلى هذا اليوم مجرد أسرار في ذهني، ربما من كثرة خوفي من أن يكون فعلاً على صواب، فأكون أنا الصبي، وابن خالتي البنت! وكان فشله في تعليم تلميذته غير النجيبة أحد الأسباب التي جعلته يغير مجرى حياته، ليصبح أنجح صائغ في شارع البرلمان.

أما العائلة البعثية تلك، فكانت مترفعة عن جيرانها، لا تشاركهم همومهم اليومية أبداً، لأنها كانت تَبيض الوزراء بين أسبوع وآخر، مثلما كانت مدجنة أبو تميم تبيض الدجاج، رغم الفرق في جودة الإنتاج بين المؤسستين. وذات يوم، كنت ذاهبة إلى بيت خالة أمي، احسان الغزي، فرأيت أن جارنا البعثي كان يقطع شارع بغداد بسرعة متهورة، وهو ابن الأربعين. ثم لاحظت، رغم صغر سني، أن وجهه كان أحمر مثل الدم، وسحاب بنطاله كان مفتوحاً. وبعد دقائق، حين وصلت إلى الرصيف المقابل، حاول أن يمسك بيدي ليجرني إلى منطقة معزولة وراء مدرسة الـ«لاييك»، وهو يدفعني أمامه بجنون المجرم.

وبقوة قادر، استطعت أن أفلت منه وصراخي سبقني إلى داري، وعدت بسرعة إلى بيت جدتي وأنا ألهث من الخوف. هل كان لديها عصا سحرية، سمحت لها أن تلم رجال حارتنا خلال ثوان؟ لا أدري أبداً. ولكنني وقفت على البلكون، كما أمرتني أن أفعل، وكما أصرت بلهجة غير لهجتها المعتادة، لكي أرى بأم عيني كيف أمسكوا بذلك البعثي الحقير والمريض، الذي تصور أنه مَلكَ الكون وكل ما فيه، ولكنه رغم الغطرسة تعرّض لضرب من الكهربائي وبائع الذرة والمنجد والخباز والحلاق. ضرب لن ينساه في حياته، رغم أخيه الوزير ورغم اخته الآنسة اليزابيث تايلور، التي لم تعد تجرؤ أن تراقبنا من النافذة، فأغلقتها فوراً بعد أن دخل الأخ البطل مكسر الأضلاع إلى بيتهم المشؤوم، ولم يرض طبيب أو مجبّر أن يزوره، فعاد إلى بلدته بسيارة تابعة للحزب، ولم يُدنس حينا بعدها.

حين أسمع اليوم قصص الاغتصاب المتعمد من قبل وحوش مخابرات بشار الأسد لسجيناتنا الحرائر، وكيف يقتلن بعد اغتصابهن الجماعي أمام رجالهن أو آبائهن أو أولادهن في سجون الجحيم، بإدخال الجرذان إلى ارحامهن الدامية. حين أقرأ أن أعداد المغتصبات السوريات فاقت بكثير 38 ألف فتاة وامرأة، وأن نصف سكان سوريا هَجَروا بيوتهم لا خوفاً على ديارهم المستورة التي دمرها الطيران الحربي الأسدي أصلاً، بل على أعراضهم، أتذكر مجزرة حماه. أتذكر كيف استمعنا لسيرة الرعب الممنهج، حين بلغتنا تفاصيل قيام وحوش سرايا الدفاع باغتصاب الفتيات بالمئات، في الجوامع والبيوت والمصانع والسجون، لكي تُركع المدينة كلياً.

وأتذكر تجربتي البسيطة أنا، وسوريتي التي كانت، والتي شاهدت نخوتها دفاعاً عن ابنتها البريئة، قبل أن تُمحى البراءة من ضمائر المنحبكجية والشبيحة، ويتعرض شعبي، رجالاً ونساءً وأطفالاً، لكل هذا الذل، ولمدة تجاوزت الخمسين سنة من الآن.

* كاتبة سورية

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.