الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عبد اللطيف المكي: “راشد الغنوشي سعى إلى إرساء سلطة الفرد الواحد داخل النهضة”

سارة قريرة *  

عبد اللطيف المكي من قياديي حركة النهضة، اختار الاستقالة من الحزب في سبتمبر/أيلول 2021 مع 112 من رفاقه. وقد أصبح وزير الصحة السابق (2020) من أكثر الوجوه المستقيلة حضورا في الإعلام، وهو يستعد مع ثلّة من أبناء الحركة السابقين لبعث حزب جديد.

تحفظات وانتقادات عبد اللطيف المكي تجاه قيادة النهضة، ولا سيما رئيسها راشد الغنوشي، ليست حديثة العهد(https://orientxxi.info/magazine/article4960). صحيح أن خطابه كان أشد في هذا الحوار، لكنه يبدو في المقابل راضيا عن إدراة النهضة للبلاد غداة ثورة 2011، عندما كانت تمسك بزمام الحكم. والحال أن تلك الفترة تميزت بخطابات الكراهية، وأعمال العنف، واستقبال مسؤولين في الحركة لدعاة سلفيين، ما كان يوحي بتسامح السلطة مع هذه الممارسات. كما اتُهمت النهضة بتسفير مئات المقاتلين التونسيين إلى سوريا.

حلّ الحزب ثانيا في انتخابات 2014 التشريعية، واختار تشكيل أغلبية حاكمة مع “نداء تونس”( https://orientxxi.info/magazine/article2716) للرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، رُغم أن هذا الحزب الذي كان يفتقر لهوية سياسية واضحة والذي كان يعدّ في صفوفه عددا من أبناء النظام السابق واليسار، كان قد رأى النور على أساس التصدي للإسلاميين. وقد ساندت حركة النهضة ما سمّي بـ“قانون المصالحة” والذي أعفى مسؤولين سابقين في النظام السابق متهمين في قضايا اختلاس أموال من المحاسبة.

في 2019، فازت النهضة مرة أخرى بالانتخابات التشريعية، لكنها فقدت 62% من أولئك الذين انتخبوها سنة 2011. وبعد فشلها في تشكيل حكومة، قامت في قلب الجائحة بإسقاط حكومة إلياس الفخفاخ والتي كان عبد اللطيف المكي وزيرا للصحة فيها. تحالفت الحركة مع حزب “قلب تونس” لرجل الأعمال نبيل القروي المتهم بتبييض الأموال، ومع ائتلاف الكرامة المحافظ جدا، لتشكّل أغلبية برلمانية. لكن الغضب الشعبي(https://orientxxi.info/magazine/article4938) ضد الحزب الإسلامي بلغ ذروته في 25 يوليو/تموز ليتفجّر خلال مظاهرات، قرّر إثرها رئيس الجمهورية قيس سعيّد القيام بانقلاب.

أوريان 21: لماذا اخترت أن تغادر حركة النهضة في سبتمبر/أيلول 2021؟ قد يلوم عليك البعض هذا القرار في الوقت الذي يعيش فيه الحزب أسوأ أيامه ويحتاج إلى قياداته.

عبد اللطيف المكي: قرار الخروج من النهضة كان بديلا عن قرار الإصلاح من الداخل، وبالتالي كان واردا منذ ما بعد مؤتمر 2016(https://orientxxi.info/magazine/article1364)، عندما قوبلت إرادة التغيير برفض رئيس الحركة آنذاك، وباعتبار الاختلاف داخل النهضة أساسا هو حول سياساتها الوطنية، سواء كانت السياسات العامة، فيما سُمي بالوفاق [مع “نداء تونس”]، أو في مواضيع أخرى مثل فلسفة تشكيل الحكومات والرؤية للقوى السياسية الأخرى، أو فيما يخص السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية. ولكن لم يجد جهدنا أي تجاوب رغم النتائج التي كانت تؤكد صواب وجهة نظرنا.

مثلا في موضوع الوفاق، كان من الضروري أن يكون له مضمون اقتصادي واجتماعي وحوكمي، فيما يخص مقاومة الفساد وتركيز الهيئات الدستورية. فتلك الفترة كانت محدِّدة جدا، في علاقة الشعب بالدولة وفي مصير الثورة. كان جيدا أن نشتغل مع حزب فيه مكوّنات متأتية من النظام السابق، وفيه بعض الحساسيات السياسية الأخرى، ولكن ما كان يجب أن يكون ذلك في حد ذاته الغاية الكبرى. الغاية الكبرى حقا هي كيف نعمل معه لترجمة ما ورد في الدستور من حقوق اجتماعية وحوكمة رشيدة ومن تركيز المؤسسات الدستورية. لذا كنا نقول: نحن مع الوفاق، ولكن مع إدارة مختلفة له، أي أن تكون إدارة جماعية، بفريق من النهضة وفريق من النداء، وأن يُبنى ذلك فوق أرضية الثورة ببرنامج اقتصادي واجتماعي. وإلا، فلتغادر النهضة ولتذهب إلى المعارضة. فقد كنا ضد المشاركة الشكلية التي تحمّلنا المسؤولية السياسية دون أن يكون لدينا تأثير في سياسات الدولة. ولو أنه تم في تلك المرحلة الاهتمام بالملف الاقتصادي والاجتماعي وإجراء إصلاحات، لما كان الغضب بهذا الحدّ لدى جماهير الشعب، والتي كان جزء منها حتى وقت قريب يصوّت للحركة.

اختلافنا إذا كان حول السياسات الوطنية، ثم انتقل إلى المؤسسات [أي مؤسسات الحزب]، إذ أردنا إدخال تعديلات عليها عن طريق الانتخاب لصالح الذين يقولون بالخط الاجتماعي للثورة، والذين ينادون بالإصلاحات. ولكن الأستاذ [راشد الغنوشي] تصدّى لكلّ هذا بكل ما أوتي من قوة، وله رؤية في القيادة باسم الزعامة يبرّر بها انفراده بالقرار من وراء ظهر المؤسسات.

بعد 25 يوليو/تموز، والذي نعتبره حدثا أثبت وجهة نظرنا بأن قيادة النهضة -وأفرّق جيدا بينها وبين النهضة التي أعرفها- كانت تسير في الاتجاه الخطأ، طلبنا من الأستاذ راشد إما أن يتخلّى [عن منصبه] ويسمح بقيادة جديدة للنهضة تجدّد سياسة الحركة، وتتحدث مع المعارضة لإخراج البلاد من وضع الانقلاب، و/أو تقديم المؤتمر ليصبح مؤتمرا انتخابيا، يأتي بقيادة جديدة للإصلاح. لكنه رفض هذا وذاك، وأراد أن نبقى مجرد أفراد لا تأثير لهم على السياسات، فيما نحن نتحمل أمام الرأي العام، وعن طريق الإعلام، وأمام إخواننا وأخواتنا المناضلين، مسؤولية سياسات النهضة وخياراتها، في حين أنه ليس لدينا أي تأثير فيها. قرّر راشد الغنوشي الاستمرار في نفس النمط القيادي الذي أعتبره يمثّل نقطة ضعف في مواجهة الانقلاب. ولذلك انسحبنا في وقت وطني وليس في وقت حزبي، يقتضي الجرأة والشجاعة. كان علينا أن نستخلص الدرس، وكان على الفريق الذي ساهم في وصول البلاد إلى تلك الأوضاع (25 يوليو/تموز وما سبقه) أن يتحمل المسؤولية. وأقول “ساهم” لأن البقية كذلك لهم أخطاؤهم. الرئيس له أخطاؤه، فقد كان يوظّف كل شيء لصالح مشروعه، وكذلك بعض الأحزاب مثل الحزب الدستوري الحرّ(1) الذي قام بكل ما أوتي من قوة وضمن استراتيجية دقيقة بتشويه البرلمان، الخ. وما كان للرئيس قيس سعيد أن ينجح في انقلابه لولا أخطاء الأحزاب السياسية.

أوريان 21: تحدثت عن الخلاف منذ قرار الوفاق مع حزب “نداء تونس”. هل يعني ذلك أنه قبل 2014 لم تكن لديك اختلافات كبيرة مع اختيارات الحركة بما في ذلك في عهد الترويكا(2)؟ حديثي هنا ليس فقط على السياسات التي انتُهجت، بل كذلك حول ما اعتُبر تسيّبا وغضا للطرف إيزاء حركات متطرفة، والتواطؤ مع الإرهاب، أو التساهل مع مجموعات مثل أنصار الشريعة، وروابط حماية الثورة.. وعدم ردع الخطابات المحرّضة على العنف. وقد تفاقم الوضع ليؤدي إلى اعتصام باردو في 2013 بعد الاغتيالين السياسيين.

عبد اللطيف المكي: كانت هناك خلافات محتملة. كنت أستشعر أنه يوجد روافد في النهضة، فهناك رافد اجتماعي ديمقراطي حقيقي، وهو الذي جاء من الحركة الطلابية والنقابية والحقوقية. أما الرافد الثاني، فهو للأسف يؤمن بالمشيخية في العمل السياسي، وقد لا يكون لديه مشاكل مع الخيارات الليبيرالية. وعليه اقترحت منذ 2011 أن ننقسم إلى حزبين. قُبلت الفكرة في البداية قبل التراجع عنها. بقينا إذن في حزب واحد مع ظننا أنه باعتماد المؤسسات وإعطائها قيمة كاملة، سنتمكن من الوصول في كل مرة إلى الاختيارات الصحيحة. تمكنا فعلا من ذلك في البداية، خلال فترة الترويكا، عندما كانت الأغلبية لصالح مؤسسات الحزب في الداخل. لكن بعد ذلك، استطاع السيد راشد الغنوشي أن يسيطر في ظل حسن نية وحسن تصرف من القيادة السابقة.

ما وقع إذن في زمن الترويكا يعبّر عن رؤية المؤسسات (مجلس الشورى، المكتب التنفيذي…). كان النقاش حقيقيا وكان للتصويت قيمة. لكن بعد ذلك، اشتغل السيد راشد الغنوشي على إرساء سلطة الفرد الواحد، وكنا في كل مرة نسعى إلى الاعتراض والإصلاح والنصح. بلغت هذه المحاولات أوجها في المؤتمر العاشر [2016]، عندما رفض أي اقتراح بتطوير القانون الأساسي من أجل سياسات أكثر تعبيرا عن طبيعة الحركة. وهكذا، أصبحت الخلافات المحتملة حقيقية. حاولنا استيعابها بالتأكيد على المأسسة وعلى التداول، لكن للأسف، ضرب المؤسسات كان نتيجة لنظرية الزعامة، فالزعيم هو الذي يقود ويحدّد ويقرّر، ليصبح وجود المؤسسات لمجرّد العصف الذهني. كما رفض [الغنوشي] استخلاص الدرس بعد انقلاب 25 يوليو/تموز، كما هو في تقاليد كل الأحزاب.

بالنسبة لموضوع أنصار الشريعة التي صُنفت كحركة إرهابية، فهي كانت موجودة من عهد بن علي، والإرهاب ظاهرة إقليمية لا تزال موجودة إلى اليوم. عندما قامت الثورة، كان المئات من هؤلاء الإرهابيين موجودين في السجون. وعندما تسلمت النهضة الحكم في عهد الترويكا، وجدت واقعا جديدا خلقته الحكومة السابقة التي كان يترأسها السيد الباجي قايد السبسي(3) رحمه الله، إذ أطلق سراح هؤلاء المئات تحت ضغط قوى حقوقية وقانونية، على أساس أنهم لم يتمتعوا بمحاكمات عادلة، وبالتالي لا يجب استثناؤهم من العفو العام(4). وعندما بدأوا يتحرشون بالدولة، أخذت الحكومة الأمر محمل الجد وقامت في إطار احترام القانون والحقوق بتصنيفهم كمنظمة إرهابية، وشرعت في متابعتهم. طبعا، لا يمكن أن تنجح أي حكومة تماما في هذا المجال، حتى في أكبر البلدان الغربية. لكن في تونس، لا نجد فقط الإرهاب، بل كذلك توظيف الإرهاب. الأصل في المجتمعات أن تتضامن أمام الإرهاب وأن تسند الحكومة والأجهزة. لكن في تونس، توجد أحزاب وظّفت الإرهاب لضرب حركة النهضة ولضرب الثورة، فهذا يقول إن الثورة هي التي أتت بالإرهاب، والآخر يتهم النهضة بالتواطؤ معه، دون أن يقدم أحد أي دليل.

أوريان 21: انتقدت المنحى السلطوي وفكرة الزعامة التي كانت موجودة في الحركة والتي دفعت بكم إلى الانسحاب. كيف تفسّر بقاء راشد الغنوشي على رأس الحزب طوال هذه الفترة؟ هل فقط لأن جزءا من الحركة كان (ولا يزال) يسانده، أم هناك أسبابا أخرى حالت دون أي مساءلة لدوره؟

عبد اللطيف المكي: شخصيا، لست ضد الزعامة في المبدأ، شرط ألا تكون على حساب المؤسسات، وألا تكون قرارا صادرا عن جهة ما يقضي بأن فلان صار زعيما. الزعامة هي مرتبة أدبية تأتي نتيجة كدح وإنجازات واقتناع طبيعي للناس بأن ذلك الشخص متفوق وهو مرجع في الأخلاق السياسية ونكران الذات.

النهضة ليست حزبا عاديا، بل هي حزب نُسج خطوة خطوة طيلة ما لا يقل عن 50 سنة(5)، وبالتالي اختلطت فيه القناعة الفكرية بالسياسية والتنظيمية والعاطفية. هناك عاطفة كبيرة بين أبناء حركة النهضة وتجاه القيادات، وأحيانا تطغى العاطفة عندما يجب أن يكون الموقف عقلانيا بحتا. هذا ما يجعل في نفس الوقت النهضة متماسكة والمحاسبة لا تكون صارمة، ويكون هناك تسامح. رغم أن طبيعة النهضة تغيرت كثيرا نتيجة النقاشات التي تطورت، واليوم أغلبية الرأي العام النهضاوي مقتنع بضرورة الإصلاح وتجاوز المرحلة السابقة، ولكنهم يختلفون في الطريقة. فمنهم من انسحب، ومنهم من هو على وشك الانسحاب، ومنهم من لا يزال لديه أمل في أن ينعقد المؤتمر ويقع التغيير وتأتي قيادة جديدة بأفكار جديدة وبأسلوب أداء جديد.

أوريان 21: لقد تحدثت عن الرافد الاجتماعي في حركة النهضة وعن آخر أكثر ليبيرالية من الجانب الاقتصادي. هل هذا هو السبب الذي جعل النهضة غير قادرة على تقديم برنامج اقتصادي حقيقي، إذ هي تتوجه إلى جمهورين، أحدهما ينتمي إلى الطبقة الشعبية، والآخر يتكوّن من رجال أعمال؟ أم أن المسألة الاقتصادية لم تكن حقا إحدى أولوياتها؟

عبد اللطيف المكي: لقد قدمت النهضة برنامجا اقتصاديا واجتماعيا في انتخابات 2011(6)، وكذلك في 2014 و2019. المشكلة هو أن المناخات الوطنية كانت مصرة على الصراع الإيديولوجي وعلى تعطيل أي إنجاز. وهذا الخطأ لم تعطه الحركة الأهمية الكافية بأن تصرّ على أن مشاركتها في الحكم يجب أن تكون مقترنة بإقرار برنامج نشرع في إنجازه. ثم إن تهميش المسألة الاقتصادية والاجتماعية لم يكن فقط شأن النهضة، بل كذلك بالنسبة للنداء، وغياب هذا ترك الناس تضع نقطة استفهام عن الجدوى الاجتماعية والاقتصادية من الديمقراطية.

أوريان 21: زميلك سمير ديلو الذي استقال هو الآخر في سبتمبر/أيلول 2021 من الحزب كان قد تحدّث في إحدى الإذاعات التونسية عن انتهاء الإسلام السياسي في تونس، هل تشاطره الرأي؟

عبد اللطيف المكي: أنا لا أعترف بتسمية “الإسلام السياسي” ولا “الإسلاموية”. اسمها حركة النهضة. مفهوم “الإسلام السياسي” اختُلق من طرف جهات أجنبية لمهاجمة الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية. كل ما في الأمر هو أننا نريد أن نقرن مسألة التنمية بالثقافة الوطنية -أو ما يُسمى بالهوية- والحرية. هذا هو الثالوث الذي نناضل من أجله. لا يمكن لهذه الفكرة أن تنتهي، ولكن عليها أن تواكب العصر.

99 بالمائة من التونسيين ينتمون إلى الإسلام السياسي، إن جاز لنا أن نستعمل هذا المفهوم، وهذا ما تم التعبير عنه في توطئة الدستور التي تنص على هوية البلاد العربية الإسلامية والحداثية كذلك، وهذا أصبح ملزما للجميع. يجب أن ننتقل من الصراع الإيديولوجي إلى العمل، وإلى الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي، وهو السبب الرئيسي الذي قامت من أجله الثورة، وهذا ليس سببا هينا أو بسيطا.

أوريان 21: هل يعني هذا أن الحزب الذي تشتغلون على إنشائه سيبتعد عن هذا الجانب الإيديولوجي؟ وهل ستحافظون على تجذر واضح المعالم في البعد الاقتصادي؟

عبد اللطيف المكي: بالتأكيد، سنضع ما يكفي من المفاهيم والأدوات التي تجعلنا نغادر منطقة الصراعات الإيديولوجية. فالإيديولوجيا في تونس كادت تتحول إلى إله يُعبد، في حين أنها أداة فكرية اخترعها الإنسان لكي يستعين بها على تحليل الواقع. الذي بيننا وبين الأحزاب الأخرى هو تنمية هذه البلاد من جميع النواحي. يمكن أن تُناقش الإيديولوجيات بصورة أفقية في الندوات الفكرية والأطروحات والنشرات المختصة. أما شأن الأحزاب كأداة عمل سياسي منظم، فهو تقديم برامج تتلاءم مع رؤى فكرية وسياسية لتُطوّر واقع الناس.

بالنسبة للجانب الاقتصادي، فالبلاد الوحيدة التي لا تزال تؤمن برفض المبادرة الخاصة هي كوريا الشمالية. من جانب آخر، حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، معقل الليبيرالية، عندما يفوز الديمقراطيون، فهم يسعون إلى تحقيق بعض المكاسب الاجتماعية، مثلما حدث مع برنامج “أوباما كار” للتغطية الاجتماعية. فالعالم اليوم اقترب من بعضه البعض في فلسفته الاقتصادية، ولكن لكي تستطيع الدولة لعب دور اجتماعي وضمان حقوق المواطنين، لا بد أن يكون هناك رأس مال وطني قادر على إنتاج الثروة بما يشغّل الناس ويوفّر لهم مورد رزق. نحن إذن نؤمن بالمبادرة الخاصة، ولكن كذلك بالدور الاجتماعي للدولة.

أوريان 21: ألا ترى أن الهوية أو الثقافة الإسلامية التي تُعد مرجعا بالنسبة لحركة النهضة، تحمل بعدا أخلاقيا قد يتعارض مع ممارسة السياسة التي تُبنى على المرونة والتسوية، وقد تصل إلى عدم الوفاء بالوعود؟

عبد اللطيف المكي: لا بالعكس، فالسياسة الجيدة هي السياسة التي تراعي الأخلاقيات السياسية. الأخلاق في السياسة هي قوة. أنا أتذكر كتاب “الديمقراطية في أمريكا” الذي يعتبر فيه الكاتب ألكسيس دي توكفيل أن أحد نقاط قوة السياسة الأمريكية هي احترامها للمبادئ الأخلاقية. هذا هو السبب الذي يجعل الرئيس الأمريكي أو أي مسؤول سياسي يستقيل إذا تبين أنه كذب. لكن للأسف، في بلداننا العربية، من يكذب يبقى في مكانه.

أوريان 21: أود الرجوع بك قليلا إلى تجربتك في حكومة إلياس الفخفاخ (فبراير/شباط-سبتمبر/أيلول 2020) كوزير للصحة. ما هو تقييمك لتجربة هذه الحكومة ولإسقاطها الذي سعت إليه حركة النهضة؟

عبد اللطيف المكي: كان التحالف السياسي الذي شهدته حكومة الفخفاخ هو نقطة قوتها، وكانت جميع الشخصيات المشاركة فيها تتمتع بسمعة وبتجربة جيدة. وعليه فإن سقوطها كان خسارة للبلاد، خاصة في ذلك التوقيت، ولو بقيت لأنجزت. كان الإشكال حول الملف الذي أثير حول رئيس الحكومة، فمن ناحية مبدئية، لا يمكن الصمت على وجود ملف تضارب مصالح، ومن الناحية الواقعية كان هناك خطر كبير على سقوطها. ولو أن الحكمة حضرت، لأمكن تجنب سقوطها، ولعُيّن وزير لإدارة الحكومة حتى تبرز حقيقة هذا الملف. وعندئذ، يمكن أن يعود، أو إذا ثبتت تهمته يغادر ونكون قد وصلنا إلى مرحلة زمنية يسهل لنا فيها إعادة تشكيل حكومة بنفس التحالف السياسي.

أوريان 21: هل تعتقد أن الفريق الذي استقال من النهضة والذي أنت جزء منه يجب أن يقوم بنقد ذاتي أمام الملأ حتى يكون حزبكم الجديد قادرا على استقطاب قاعدة سياسية؟

عبد اللطيف المكي: لسنا لدينا مشكلة مع النقد الذاتي، ونعتبره آلية من آليات التطوير. قد تأتي فرصة قريبة مع أحد مراكز الدراسات نقدّم فيها وجهة نظرنا، فتكون شيئا من السردية، وشيئا من النقد الذاتي، وشيئا من رؤيتنا للمستقبل. لكن بشرط أن يقوم الجميع بنفس التمرين وألا ينزعج أي طرف من ممارسة النقد الذاتي، فلقد ساهم الجميع في تقديري في الوصول إلى ما وصلنا إليه اليوم.

هوامش:
(1). هو حزب “عبير موسى” الذي يشيد بكونه وريثاً لحزب زين العابدين بن علي.

(2). تحالف النهضة مع حزبي المؤتمر من أجل الجمهورية للرئيس السابق المنصف المرزوقي وحزب التكتل، غداة انتخابات المجلس التأسيسي في 2011.

(3). وزير أول في الفترة ما بين 27 فبراير/شباط – 24 ديسمبر/كانون الأول 2011.

(4). سمح مرسوم العفو العام الصادر في 19 فبراير/شباط 2011، والذي أعلن عنه الوزير الأول محمد الغنوشي في أعقاب الثورة، بالإفراج عن جميع السجناء السياسيين، بمن فيهم نشطاء حركة النهضة. ثم تم الإفراج في مارس/آذار 2011 على نحو عشرة سجناء حُكم عليهم بموجب قانون الإرهاب، ومن بينهم أبو عياض، زعيم جماعة أنصار الشريعة.

(5). تم إنشاء الحزب سنة 1981 تحت اسم “حركة الاتجاه الإسلامي”.

(6). أي خلال الحملة الانتخابية للمجلس التأسيسي

……………..

(-) يمكن مراجعة النص الكامل على موقع “أوريان 21”:

(https://orientxxi.info/magazine/article5280)

ـــــــــــــــــــــ

* صحافية تونسية، مترجمة مسؤولة عن الصفحات العربية لموقع أوريان 21

المصدر: أوريان 21

التعليقات مغلقة.