عبد الله السناوي *
فى أعقاب حرب تشرين الأول/ أكتوبر (١٩٧٣) بدا أنه قد حان الوقت وتهيأت الظروف للإعلان عن توجهات جديدة وبناء نظام آخر على أنقاض إرث «عبدالناصر»، توجهاته وسياساته.
فى مساجلات «تموز/ يوليو» والدفاع عنها لم يتخلف كاتب واحد له قيمة وتأثير فى إبداء موقفه، كـ«أحمد بهاء الدين» صاحب مقولة «موتوا بغيظكم» و«كامل زهيري» بعبارته الشهيرة «عبدالناصر أقوى من الهزيمة والسادات أضعف من النصر».
ودخل «محمد حسنين هيكل» إلى قلب المعركة بكتابه «لمصر لا لعبدالناصر». بتعبيره: «إذا سألتني عن أهم كتاب كتبته، فهو ذلك الكتاب حتى لا يُقال إن كل رجاله خانوه».
بتوصيف شيخ المؤرخين الدكتور «يونان لبيب رزق» لـ«هوجة المذكرات»، التي تصدى لكتابتها فى السبعينيات من لم يسمع عنهم من قبل وأسندت إلى أصحابها أدواراً بطولية لم تحدث، فإنها «ظاهرة لم تعرفها مصر على هذا النحو الواسع من قبل».
«لأن ما تم فى عهد عبدالناصر كان كبيراً، فقد كان من الطبيعي أن يجيء رد الفعل بحجم الفعل، وأن تُشارك جبهات عديدة فى ضرب الحقبة الناصرية» ــ كما فسر الظاهرة.
وسط تلك الحملات الممنهجة، التي شاركت فيها صحف أُصدرت فى لندن خصيصاً لهذا الغرض قبل غيره، وصنعت أفلاماً أغلبها أقرب إلى أعمال المقاولات وأنتجت مسرحيات تجارية تشهر بالتجربة كلها، تبدى سؤالان ملغمان كأنهما طلقات بارود:
الأول: هل كنا فى غيبوبة سياسية وها هو الوعي يعود من جديد مع فتح «ملف عبدالناصر»؟!
وقد طرحه «توفيق الحكيم» فى كتابه «عودة الوعي» ــ (١٩٧٤).
والثاني: هل كان «عبدالناصر» حقاً يده نظيفة وذمته فوق مستوى الشبهات، أم أنه تورط فى قضايا تربّح دون وجه حق؟
وقد طرحه «جلال الدين الحمامصي» فى كتابه «حوار وراء الأسوار» ــ (١٩٧٦).
كان الكتاب الأول صاعقاً بقدر وزن كاتبه، والصورة التي ارتبطت به كأحد ملهمي فكرة الثورة والتغيير عند «جمال عبدالناصر»، الذى تأثر فى شبابه الباكر بروايته «عودة الروح».
فى ذلك الكتاب- (٧٦) صفحة من القطع المتوسط- تلخصت ثورة «تموز/ يوليو» فى الجرائم والهزائم والسجون والمعتقلات، هاجم أية إيجابيات منسوبة إليها مثل السد العالي وتأميم قناة السويس، الذى تسبب فى العدوان الثلاثي، ومجانية التعليم والإصلاح الزراعي، حتى بدا «الحكيم» ضد «الحكيم»- بتعبير الناقد الأدبي «فتحي عامر»- فهو من دعا فى «عودة الروح» إلى الحاكم القوى العادل، الذى يبعث مصر من رقدتها «الكل فى واحد».. وهو من حكم فى «يوميات نائب فى الأرياف» على نظام ما قبل «تموز/ يوليو» بالفساد السياسي والبرلماني والحزبي.
بالنظر إلى الصورة التي ترسخت عنه كـ«ملهم» لـ«عبدالناصر» كانت ردات الفعل بنفس قوة الصدمة.
تصدى للرد عليه الأستاذ «محمد عودة» بكتابه «الوعى المفقود».
انزعج «الحكيم» من بعض الأوصاف والتشبيهات التي لحقت به فى صدر كتاب «عودة»، طلب من صديقهما المشترك الدكتور «لويس عوض» أن ينقل ذلك الانزعاج المعاتب.
لم تكن محض مساجلة حادة بين كاتبين كبيرين، بقدر ما كانت أزمة بلد لا يعرف هل استعاد وعيه أم فقده؟
وكان الكتاب الثانى تجاوزاً لكل حد، نشرته «أخبار اليوم» على حلقات حتى يأخذ تأثيره أبعد مدى ممكن.
انطوى ذلك الكتاب على اتهام صريح لـ«عبدالناصر» أنه قد اختلس لنفسه وهرّبَ إلى الخارج مبلغ خمسة عشر مليوناً من الدولارات قدمها الملك «سعود بن عبدالعزيز»، خمسة منها تبرعاً للمجهود الحربى، والعشرة الباقية قرضاً لمصر!
كانت القصة مختلقة بالكامل، فلا حساب سري فى الخارج، ولا اختلاس لأموال عامة، كل شيء جرى فى النور حسبما أكدت وثائق البنك المركزي برئاسة «أحمد زندو».
انفجر غضب طلابي فى كلية الإعلام بجامعة القاهرة، قسم الصحافة بالخصوص، الذي كان يشرف عليه «الحمامصي»، وهو أستاذ مقتدر فى مجاله.
طُلب منه، أو هو قررَ من تلقاء نفسه، التغيب عن إلقاء أية محاضرات داخل الكلية الغاضبة.
لم يكن ذلك مقبولاً من عميد كلية الإعلام فى ذلك الوقت الدكتور «عبدالملك عودة» وتوجهاته على النقيض تماماً.
كان الحل المؤقت، الذى أمكن التوصل إليه، نقل محاضراته إلى إحدى قاعات مؤسسة «أخبار اليوم»، الذى تولى أكثر من مرة رئاسة تحرير طبعتها اليومية «الأخبار».
فى بدء المحاضرة حاول أن يشرح موقفه غير أن الأسئلة حاصرته وبدا أن هناك اتهاماً مشرعاً بأنه قد جرى توظيفه، اعترض على التعبير وغادر القاعة.
شهدت «أخبار اليوم» على سلالمها، وطلاب الصحافة يغادرونها، هتافاً جماعياً باسم «عبدالناصر».
بعد تلك الواقعة غادر «الحمامصي» كلية الإعلام للأبد.
قبل أن يغادر طلب عبر زميلتي «ليلى عبدالمجيد»، عميدة كلية الإعلام فيما بعد، أن يلتقيني فى بيته على كورنيش جاردن سيتي.
لم أكن مقتنعاً بجدوى الحوار، لكنى غيرت رأيي بعد أن نَشَرت الطبعة الأولى لصحيفة «الجمهورية» قبل منتصف الليل وثائق البنك المركزي التي تفند ما تورط فيه.
فى ذلك الوقت المتأخر، ذهبت مع زميليَّ «حمدين صباحى» و«محمد الشرايدي» إلى منزله وتركنا ورقة تقول إننا سوف نعود فى صباح اليوم التالي للحديث معه.
جرى حوار مطول حول الواقعة وتداعياتها، طلب مساندة تلاميذه فى شرح موقفه.
قلنا: «جرى توظيفك يا أستاذ جلال، والآن سوف يتخلصون منك».
اقترح مواصلة الحوار معه ونشره دون أن يُدرك أن كل شيء قد حُسم بوثائق البنك المركزي.
فيما بعد أصدر جزءاً ثانياً من كتابه «حوار وراء الأسوار» ضَمنهُ حواراً تخيلياً مع من أسماهم «زوار الفجر» قاصداً طلابه الثلاثة!
كان فتح «ملف عبدالناصر» تمهيداً لسياسات تمددت من الانفتاح الاقتصادي بالطريقة التي جرت بها إلى الصلح مع إسرائيل بالتنازلات التي انطوى عليها.
بتعبير المشير «عبد الغنى الجمسي» عن مفاوضات الكيلو (١٠١)، التي استبقت زيارة الكنيست بفترة طويلة نسبيا: «كنت أتفاوض مع وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر.. بينما النتيجة معدة سلفاً بينه وبين الرئيس السادات».
أكد «كيسنجر» فى مذكراته ما قاله «الجمسي»: «لم أعد وسيطاً بين مصر وإسرائيل.. بل بين السادات وإسرائيل من جهة والوفد المصري من جهة أخرى».
أهدرت النتائج العسكرية لحرب تشرين الأول/ أكتوبر بمقولتي: «٧٠٪ من الصراع مع إسرائيل نفسي».. و«٩٩٪ من أوراق اللعبة فى يد الولايات المتحدة».
كانت النتائج وخيمة على الدور الإقليمي المصري بالانخراط فى الصلح المنفرد مع إسرائيل والخروج من الصراع العربي- الإسرائيلي.
الحقيقة التي يجب أن تقال بعد نحو نصف القرن على فتح ملف «عبدالناصر» أن القضية لم تكن الرجل بقدر ما كانت فى مشروعه.
المشروع قبل الرجل والمستقبل قبل التجربة.
بقدر تناقض السياسات مع ما يمثله تبدت شراسة الحملات واتصالها عبر العقود.
ليس بوسع أحد أن يتكهن بتاريخ ما تتوقف فيه المساجلات المحتدمة حول ملف «عبدالناصر»، طالما ظل مشروعه مُلهماً لفكرة التغيير فى العالم العربي.
* كاتب صحفي مصري
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.