أحمد عبدربه *
مع مطلع القرن العشرين، فإن القوى الدولية لم تعد مقصورة على أوروبا، حيث أصبحت اليابان فى الشرق والولايات المتحدة فى الغرب قوتين لا يُستهان بهما. لكن قوة أخرى خامدة كانت على موعد مع الظهور لتشكل الكثير من ملامح السياسة الدولية فى القرن العشرين وحتى اللحظة، ألا وهى الصين. لم تخرج الصين من القمقم بشكل مفاجئ ولكنه كان خروجاً تدريجياً لم يشعر به العالم بشكل حقيقي إلا بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن وحتى منتصف القرن العشرين كيف كانت الصين وكيف أصبحت؟
* * *
كانت الصين تُحكم بواسطة سلالة «الشينج» منذ عام ١٦٤٤ حينما تمكنت الأخيرة من إنهاء حكم «المينج»، وهو الحكم الذى مثل سلالة الـ«هان» التي ينتمي إليها معظم الشعب الصيني. كان حكم الشينج هو حكم الأقلية للأغلبية ولكن خضع الهان لهذا الحكم لما يزيد قليلاً عن ٢٥٠ عاماً قبل أن تقوم ثورة ١٩١١ لتنهي الحكم الإمبراطوري الصيني إلى الأبد وتشكل النسخة الأولى من الجمهورية الصينية التي نعرفها حالياً.
كانت بداية تخبط حكم الشينج هزيمتهم فى حربى الأفيون الأولى (١٨٤٢) والثانية (١٨٦٠) على يد القوات البريطانية وهو ما أدى إلى زيادة التغلغل الأجنبي فى الشأن الصيني الذى أخذ يحد بشكل تدريجي من سلطة البلاط الإمبراطوري، وهو ما أدى إلى قيام مجموعة من الانتفاضات الشعبية الصينية ضد حكم الشينج خلال النصف الثانى من القرن التاسع عشر، إلا أن هزيمة الصين فى حربها مع اليابان عام ١٨٩٤ كانت بداية العد التنازلي للحكم الإمبراطوري فى الصين.
أمام هذه التراجعات قرر الإمبراطور الصيني «جوانجشو» فى ١٨٩٨ اتخاذ مجموعة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية مدفوعاً بنجاح ثورة الإصلاح التي قادها الإمبراطور «ميجي» فى الجارة اليابانية قبل ثلاثة عقود تقريباً من الزمان والتي أدت فى رأى معظم التيار الإصلاحي فى الصين إلى انتصار اليابان عليهم فى ١٨٩٤! لكن الإمبراطورة «تشيسي» لم تكن سعيدة بتلك الإصلاحات فقادت فريقاً من المحافظين فى القصر الإمبراطوري ووضعوا الإمبراطور تحت الإقامة الجبرية حتى توفى فى ١٩٠٨، بينما أخذت الإمبراطورة بقيادة الفريق المحافظ قيادة الدفة! لكن لم تهنأ «تشيسي» بهذا الحكم كثيراً حيث اتخذت مجموعة من القرارات الكارثية التي أدت إلى زيادة حدة وعدد الانتفاضات الصينية حتى قامت الثورة التي أطاحت بالبلاط الإمبراطوري كله فى ١٩١١!
كانت أهم هذه القرارات الكارثية بالإضافة إلى إلغاء البرنامج الإصلاحي ووضع الإمبراطور تحت الإقامة الجبرية هو تأييد الإمبراطورة لانتفاضة «البوكسر» وهى الانتفاضة التي قامت باستهداف مصالح الأجانب فى الصين ولا سيما البعثات التبشيرية بالإضافة إلى قتل الصينيين الذين تحولوا إلى المسيحية تحت دعوى أن الأخيرة كانت أداة الغرب للقضاء على الثقافة والحضارة الصينية!
لم تتخيل الإمبراطورة وفريقها المحافظ ردة الفعل الحادة للقوى الأجنبية، حيث تشكل تحالف ثُماني عسكري من قوات مثلت دول روسيا واليابان والولايات المتحدة وبريطانيا والإمبراطورية النمساوية- المجرية بالإضافة إلى فرنسا وإيطاليا والهند وقام بغزو الصين لوضع حد لاستهداف المصالح الأجنبية ومن ثم تم إرغام الصين على توقيع اتفاق البوكسر والذى كلف الصين مبالغ فادحة كتعويضات عن هذا الاستهداف.
هنا كانت الصين على موعد مع مجموعة من الجماعات الثورية السرية التي عملت من داخل وخارج الصين وقادها فى النهاية السياسي الثوري «صان يات سن» حيث تمكن من توحيد هذه الجماعات داعياً للثورة على حكم الشينج الإمبراطوري وقيام الجمهورية الصينية. كان التوحيد تحت لواء جماعة «الإحياء المجتمعي الصيني» التي كانت قد تأسست قبل ذلك بسنوات وانضم للقوى الثورية لصان يات سن العديد من الصينيين وخصوصاً من المثقفين والتجار بالإضافة- قطعاً- لتأييد العديد من القوى الأجنبية وفى مقدمتها اليابان لهذه الثورة، والأهم كان انضمام العديد من قوات «الجيش الجديد» الذى كان قد أنشأه الإمبراطور وقام بتحديثه وتدريبه على أعلى المستويات لتجنب الهزائم الحربية أمام الأجانب. كان يرأس هذا الجيش القائد والسياسي يوان تشيكاي والذي كان يحظى بالدعم الإمبراطوري ولكن وبعد انضمام الكثير من عناصر هذا الجيش للثورة التي دعا إليها صان يات سن لم يجد تشيكاي بدا من التفاوض مع الثوار فى النهاية.
* * *
كان صان يات سن سياسياً واسع الاطلاع عاش معظم حياته فى الخارج (الولايات المتحدة ثم اليابان ثم هونج كونج) وتأثر بالإصلاحات التحديثية فى تلك الدول والمقاطعات التي عاش فيها، تحول إلى المسيحية لاحقاً وأجاد الكثير من اللغات واقتنع تماماً أنه لا سبيل لخروج الصين من كبوتها إلا بالتخلص من الحكم الإمبراطوري. تمكن صان يات سن من التنسيق مع العديد من المثقفين ولاحقاً العسكريين داخل وخارج الصين ونجح فى النهاية فى تحويل حكم الشينج إلى جحيم حيث كانت تقوم على الأقل انتفاضتان أو ثلاث كل عام فى مقاطعة من المقاطعات الصينية حتى كانت ثورة مدينة «ووهان» عام ١٩١١ والتي حسمت الأمور لصالح الثوار، حيث انتشرت الثورة فى جميع ربوع الصين بل امتدت أيضاً للمقاطعات التابعة لها مثل التبت ومنغوليا وقامت بتعيين صان يات سن كأول رئيس انتقالي للجمهورية الصينية.
كانت الخطوة الأخيرة فى هذه الثورة هي إجبار الإمبراطور على التنحي مما دفع صان يات سن إلى تقديم عرض مغرِ إلى يوان تشيكاي المدعوم من القصر الإمبراطوري وتضمّنَ العرض أن يتنازل صان يات سن عن الرئاسة الانتقالية إلى تشيكاي إذا ما ساعد الأخير الثوار على الإطاحة بالحكم الإمبراطوري وهو ما تحقق بالفعل وتم تنحية الإمبراطور «يو ي» الذى كان مجرد طفل وتولى تشيكاي الحكم بالفعل ليصبح ثاني رئيس انتقالي للجمهورية الصينية متخذاً من بكين مقراً للحكم، كما أقيمت أول انتخابات تشريعية فى البلاد حيث تم الانتخاب على درجتين، فقام المواطنون الصينيون بانتخاب ٣٠ ألف مندوب قاموا بدورهم باختيار نحو ٦٠٠ عضو لمجلس النواب، و٢٠٠٠ عضو لمجالس المقاطعات واختار الأخيرون بدورهم ٢٧٤ لعضوية مجلس الشيوخ وتمكن الحزب القومي الصيني (الذى تم اعتباره ممثلاً للثورة) الحصول على الأغلبية فى كلا المجلسين متفوقاً على باقي الأحزاب التي شكلت لاحقاً تحالفاً وبدوره أنشأ هذا التحالف الحزب التقدمي ليكون المنافس الرئيسي للحزب القومي.
* * *
لم تدم هذه التجربة الديموقراطية كثيراً، فرئيس الجمهورية تشيكاي لم يوفِ بوعده بتأييد الثورة وانقلب على الحزب القومي وعلى صان يات سن ذاته وفى هذه الأثناء تعرض سونج جيارون مؤسس الحزب القومي للاغتيال فاتهم القوميون تشيكاي بتدبير الاغتيال ومن ثم عاد صان يات سن ليقود ثورة ثانية ضد تشيكاي فى ١٩١٣ لكنه لم يفلح هذه المرة حيث تمكن تشيكاي من السيطرة على مقاليد الحكم وهزم الثورة الثانية وانفرد بحكم البلاد حيث قام بحل الحزب القومي ومن ثم فقد البرلمان شرعيته، فقام تشيكاي بحل البرلمان فى ١٩١٤!
ورغم قصر هذه التجربة البرلمانية التي نتجت عن الثورة الصينية إلا أنها أعادت الصين إلى واجهة السياسة العالمية وكانت مجرد بداية لطريق طويل انتهى بالصين الشيوعية التي نعرفها حالياً ولهذا حديث آخر!
* باحث أكاديمي مصري ومدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.