الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

هل يُشعِل الديموقراطيون حرباً جديدة؟

إلياس فرحات *

ثمة احتدام في المشهد الدولي لم نألفه منذ انهيار الإتحاد السوفياتي حتى الآن. يزيد من وطأته احتدام مماثل في الإقليم. من اليمن إلى فلسطين مروراً بسوريا والعراق ولبنان. ماذا ينتظرنا؟

لطالما تباهت الولايات المتحدة بأنها ليست قوة استعمارية مثل بريطانيا وفرنسا وأنها لم تدخل الحرب العالمية الثانية إلا بعد تعرضها لعدوان ياباني على “بيرل هاربر”، وكانت النتيجة هزيمة اليابان والفاشية والنازية وانتصار الحلفاء ومعهم “القيم الاميركية” (الحرية والعدالة والديموقراطية!)، لكن في مطلع القرن الحادي والعشرين، وجدت الولايات المتحدة نفسها تحتل بلدين وشعبين وتتعرض لمقاومة بأشكال مختلفة.

ففي العام 2001 وغداة هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، قررت الولايات المتحدة احتلال أفغانستان بذريعة الاقتصاص من نظام “طالبان” الذي كان يأوي تنظيم “القاعدة” الذي تبنى تلك الهجمات. وفي العام 2003، احتلت الولايات المتحدة العراق بذريعة حيازته اسلحة دمار شامل ودعمه للإرهاب.

وبرغم “الذرائع” التي تسلح بها الأميركيون، إلا أنهم لم يتمكنوا من إزالة صفة الاحتلال عن احتلالهم، وذلك طوال عقدين من الزمن، لكن  عندما بدأت دوائر صنع القرار الأميركي تشعر في الآونة الأخيرة بفداحة الخسائر السياسية والاقتصادية قررت سحب القوات الأميركية من هذين البلدين وإنهاء كل التبعات الناتجة عن احتلالهما.

منذ العام 2001 ثم العام 2003 وحتى يومنا هذا، أي أثناء انغماس الولايات المتحدة بالحروب وإدارة الاحتلال في كل من افغانستان والعراق، حصلت تطورات وازنة على المسرح الدولي أبرزها صعود الصين المتسارع وبدء روسيا باستعادة دورها، ومضي إيران في مشروعها النووي، فضلاً عن تقدم أدوار مرتكزات إقليمية أخرى.

في هذا السياق، من المفيد سرد الواقعة الآتية. في يونيو/حزيران 2019 كشف الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر أنه أرسل رسالة إلى الرئيس دونالد ترامب جاء فيها أن الولايات المتحدة أنفقت تريليونات الدولارات على الحروب في السنوات الأخيرة، بينما استثمرت الصين في مشاريع مثل السكك الحديدية فائقة السرعة التي تعود بالنفع على شعبها.

وأشار كارتر إلى أن “ترامب رد على رسالته من خلال الاتصال به على خط خاص، وأخبره بصراحة شديدة أن الصينيين كانوا يتقدمون على الولايات المتحدة في نواح كثيرة”. يرجح أن ما جاهر به كارتر هو جزء يسير من رسالته ومن جواب ترامب عليها، لكن الحقيقة هي أن الصين لم تحقق تقدماً في مشاريع مثل السكك الحديدية ولا في غيره بل حققت تقدماً أقلق الولايات المتحدة عندما لم تعد الأخيرة في مركزها زعيماً أوحدَ للعالم بأسره.

يسري ذلك على روسيا. بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، سعت الولايات المتحدة إلى أن لا تقوم قائمة لهذا البلد، فالغرب لا يأتمن للدب الروسي. أدخلت أميركا دول اوروبا الشرقية القديمة في حلف الاطلسي ونشرت الدرع الصاروخي من البلطيق إلى تشيكيا وإلى ملاطية في تركيا وإلى إسرائيل بذريعة “الخطر الروسي”. وابتدعت “الثورات الملونة” وقلبت الأوضاع في جورجيا وهددت القوقاز وأوكرانيا الفاصلة بين أوروبا وروسيا.

لكن روسيا دافعت عن نفسها ومزقت جورجيا وأنشأت كيان دولة في أبخازيا وكيان دولة آخر في أوسيتيا الجنوبية.. والأمر نفسه في أوكرانيا باحتلالها شبه جزيرة القرم وضمه الى أراضي الاتحاد الروسي، كما أنشأت كياناً في دونباس شرق أوكرانيا وتدخلت عسكرياً في سوريا لتفادي سقوط هذا البلد بيد تنظيمات إسلامية متشددة مع ما يعنيه ذلك من اخطار على الاتحاد الروسي في القوقاز وفي الحديقة الخلفية في أسيا الوسطى.

وعدا عن تقدم الدورين الصيني والروسي، فإن المرتكز الإيراني في الهضبة الأسيوية حقق تقدماً برغم الحصار والحرب والعقوبات منذ تاريخ انتصار الثورة الإيرانية في العام 1979 حتى يومنا هذا.

وكان لافتاً للانتباه أنه بعد توقيع الاتفاق النووي عام 2015 ورفع العقوبات عن إيران واستعادة الأخيرة أرصدتها المجمدة، توسع دور إيران الإقليمي واستغلت الحرب السعودية على اليمن وتمكنت من مساعدة الحوثيين في بناء قوة هددت دول الخليج لا سيما السعودية وفرضت نفسها كلاعب أساسي في جزيرة العرب وعند الممرات المائية الدولية الحيوية. وفي العام 2018 وخلافا للتقاليد الأميركية بأن يلتزم كل رئيس المواثيق الدولية التي عقدها سلفه، ألغى الرئيس ترامب الاتفاق النووي برغم أنه تحول إلى قرار دولي بعد موافقة مجلس الأمن عليه. أي أن ترامب خالف القانون الدولي علناً. دفع ذلك الإيرانيين إلى تحقيق إنجازات تكنولوجية في التخصيب وغيره وصولاً إلى القول إن إيران أصبحت حالياً عند العتبة النووية.

عملياً، وجدت إدارة جو بايدن نفسها في مواجهة ثلاثة تهديدات استراتيجية: الصين في شرق آسيا والمحيط الهادئ، روسيا في أوروبا، وإيران في الشرق الأوسط.

بادر بايدن إلى عقد قمة افتراضية مع الرئيس الصيني شي جين بينغ وقمة أخرى مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ظل رفض إيران إجراء أي اتصال مع الولايات المتحدة طالما تستمر الولايات المتحدة بفرض العقوبات عليها خلافاً لمضمون الإتفاق النووي 2015..

في هذا الوقت، تستمر المفاوضات في فيينا بين إيران ومجموعة 4+1 ومن خلفها الولايات المتحدة وتتضارب المعلومات حول نتائج هذه الاجتماعات في ظل ميل معظم المحللين الى توقع فشل الجولة السابعة. وقد لاحظنا في الأيام الأخيرة كيف حضرت إسرائيل علناً على هامش المفاوضات وخصوصاً في لقاءات على مستوى عال في واشنطن أدت إلى إعلان وزير الأمن الإسرائيلي “بني غانتس” أنه أعطى الأوامر للجيش الإسرائيلي بالاستعداد لتوجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية، من دون أن يصدر أي تعليق عن الولايات المتحدة برغم خطورة هذا الإعلان وتوقيته.

ليس سراً أنه في حال تنفيذ ضربة إسرائيلية ضد إيران، فان النزاع سيتوسع في المنطقة وبالتالي ستجد الولايات المتحدة نفسها في مواجهة حرب جديدة دفاعاً عن مصالحها وحلفائها.

ماذا عن التوتر بين روسيا وأوكرانيا؟

مع تزامن التوتر في الشرق الاوسط وأوروبا، هل تتخلى الولايات المتحدة والشركاء الأوروبيون عن أوكرانيا وتترك المجال لروسيا أن تعيد سيطرتها على جارتها الغربية؟

يقول وزير الدفاع الاميركي السابق ليون بانيتا (عام 2012 في إدارة باراك أوباما) إنه توصل إلى استنتاج مفاده أن الجيش الأميركي لن يكون قادراً في المستقبل على خوض حربين بريتين وبشكل مستدام في الوقت نفسه، وذلك في معرض استعادة تجرية احتلال أفغانستان والعراق.

هل تجازف الولايات المتحدة في شن حربين معاً؟ وماذا إذا استغلت الصين انهماك الولايات المتحدة في حربين وأقدمت على احتلال تايوان وهو الهدف الذي اعلنه الصينيون مراراً وأبلغه الرئيس “شي جين بينغ” للرئيس بايدن خلال القمة الإفتراضية الأخيرة؟ وهل يمكن أن يتقبل الشعب الاميركي شن حروب جديدة في الخارج على حسابه (نموذج كارثة كنتاكي غير المسبوقة في الولايات المتحدة وما تستجوبه من أعمال إنقاذ وإعادة إعمار إلخ..)؟

الأرجح أن يستخدم الأميركيون كثيراً من الدبلوماسية وكثيراً من إظهار القوة على جبهتين فإذا كان ثمة استبعاد نسبي لفتح جبهة عسكرية أميركية مع الصين، تتأرجح الاحتمالات بين إيران وأوكرانيا تبعاً للتطورات في الأيام أو الأسابيع المقبلة. فهل يتوقف نجاح مفاوضات فيينا على هذه الحسابات؟

* عميد ركن لبناني متقاعد

المصدر: 180 بوست

التعليقات مغلقة.