محمد المنشاوي *
يكره الأمريكيون المركز الثانى ولا يقبلون إلا بالمركز الأول، وتُغذّي الثقافة الأمريكية هذا المفهوم. وكان من الذكاء أن يستعير دونالد ترامب عبارة «أمريكا أولاً» ويمنحها رحيقاً ’ترامبياً‘ خاصاً به، مما جعلها عنصراً مهما أسهم فى انتخابه قبل أكثر من 6 سنوات.
ودفع فشل الولايات المتحدة فى التعامل مع تفشى وانتشار فيروس «كوفيدــ 19»، وما تبعه من أزمة اقتصادية وتضخم كبير، ووفاة ما يزيد على 800 ألف أمريكي، لطرح سؤال واجب حول ما إذا كانت أمريكا قادرة على قيادة العالم فى ظل الصعود الصيني السريع والحتمي من ناحية، وفى ظل ما تواجهه من استقطاب وانقسام مجتمعي غير مسبوق من ناحية أخرى. لكن كيف وصلت أمريكا لهذه الدرجة من الشك الذاتي فى قدرتها والنظر بقلق للصين؟
لا توجد إجابة نموذجية عن هذا السؤال الذى يشغل أذهان علماء السياسة وخبراء الاقتصاد ويربك رؤية المؤرخين.
•••
بدايةٌ منطقية للفهم تتمثل فى مقارنة الدولتين من عدة نقاط أساسية، منها أن مقابل كل مواطن أمريكي واحد يوجد 4.5 مواطن صيني، إذ اقترب عدد سكان أمريكا من 330 مليون نسمة (4.3% من سكان العالم)، واقتربت الصين من 1.4 مليار شخص (18% من سكان العالم)، وبلغ حجم الاقتصاد الأمريكي العام الماضي 21.4 تريليون دولار فى حين بلغ نظيره الصيني 14.2 تريليون دولار، وبلغ متوسط دخل المواطن الأمريكي من الناتج القومي 64 ألف دولار، وبلغ مثيله الصيني أقل من 10 آلاف دولار.
والعلاقة بين الدولتين كثيفة وشديدة التعقيد، وتظهر كثافة العلاقات بين الدولتين، قبل تفشى فيروس كورونا، فى أكثر من 80 رحلة طيران يومية مباشرة بلا توقف بين المدن الرئيسية فى الدولتين، كما يوجد 4 ملايين مواطن أمريكي أصولهم صينية، ويدرس فى الجامعات الأمريكية 360 ألف طالب صيني أكثر من نصفهم طلبة ماجستير ودكتوراه يدرسون موضوعات العلوم التقليدية مثل الأحياء والفيزياء والكيمياء، ويدرسون أيضاً العلوم الحديثة مثل الكيمياء الحيوية والفيزياء العضوية، والخلايا والاستنساخ، هذا بالإضافة لموضوعات التكنولوجيا والحاسوب والرياضيات. أما حجم التجارة بينهما فقد بلغ العام الماضي 559 مليار دولار منها 452 ملياراً صادرات صينية مقابل 107 مليارات صادرات أمريكية.
وتاريخياً، مثّل عام 2001 عاماً فارقاً فى تاريخ صعود الصين للحاق بالولايات المتحدة، إذ شهد انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية، فى الوقت الذى عرفت فيه أمريكا هجمات 11 أيلول/ سبتمبر.
دفع دخول الصين للمنظمة التجارية مع العالم واستغلال الصين رخص الأيدي العاملة الماهرة والضخمة فى جذب ملايين المستثمرين، ودفع ذلك لتنطلق الصين وتنجح فى تحقيق معدلات نمو متوسطها 8% خلال الـ20 عاماً الماضية.
•••
على النقيض تورطت أمريكا فى حربها العالمية ضد الإرهاب والذى جرها لحربين مكلفتين فى أفغانستان والعراق خرجت منهما فقط هذا العام. وتشير دراسة بحثية مشتركة صدرت عن جامعة براون المرموقة، إلى وصول تكلفة الحروب منذ هجمات 11 أيلول/ سبتمبر وحتى نهاية العام المالي 2021 إلى 6.4 تريليون دولار، ناهيك عن التكلفة البشرية ومئات الآلاف من الضحايا الأفغان والعراقيين الأبرياء.
ولم تعرف الصين التورط فى أي نزاعات عسكرية منذ انتهاء نزاع حدودي مع فيتنام عام 1979، وإن كانت تتبنى استراتيجية توسع فى بحر جنوب الصين، مما أجج خلافات على الحدود البحرية مع إندونيسيا والفلبين وفيتنام.
•••
تعتقد المدرسة الفكرية الأمريكية أن أمريكا الفكرة والحدوتة (والقصة)- عظيمة بطبيعتها. ويدعم هذه المقولة إيمان أغلب الساسة الأمريكيين أن العالم ينتظر من الولايات المتحدة قيادته.
لكن دفعت 4 سنوات من حكم ترامب لزيادة مخاوف المدارس الفكرية الأمريكية من قرب زمن الأفول الأمريكي. ومثلت أحداث 6 كانون الثاني/ يناير الماضي عندما اقتحم المئات من أنصار ترامب مبنى الكابيتول لعرقلة التصديق على نتائج انتخابات 2020 علامة سلبية فارقة فى التاريخ الأمريكي. ووصف السيناتور الجمهوري “بن ساسي” اقتحام مبنى الكابيتول الأمريكي بأنه «تعرض أعظم رمز للحكم الذاتي فى العالم للنهب، بينما كان زعيم العالم الحر لا يكترث ويغرد ضد نائبه لقيامه بواجبه الدستوري الذى أقسم عليه».
وعلى الرغم من ذلك يؤمن الكثيرون بأن إزاحة أمريكا من على قمة هرم قيادة العالم لا يزال بعيداً، استشهاداً بأن العالم يحيا بالصورة والطريقة التي يختارها العقل والذوق الأمريكيان من خلال تطبيقات تكنولوجية متنوعة من الآيفون وتويتر إلى الفيسبوك وجوجل، ومن أمازون إلى مايكروسوفت ومرورا باليوتيوب وإنستجرام.
ويرون كذلك أن طريقة الحياة الأمريكية يتم استنساخها حول العالم بسرعة مكوكية، ناهيك عن السينما واللغة الإنجليزية وسحرهما حول العالم، ومقارنتها باللغة المهددة لعرشها، وهى اللغة الصينية.
وتؤمن هذه المدرسة بغياب أي خطر حقيقي على القيادة الأمريكية، ويدعم ذلك احتفاظ الجامعات الأمريكية بمسافة طويلة جدا تبعدها عن أي منافسة حقيقية مع أي من نظيراتها حول العالم، وطبقاً لترتيب أفضل جامعات العالم الذى تجريه جامعة شنغهاي الصينية، كان نصيب الولايات المتحدة 17 من بين أهم 20 جامعة حول العالم، فى تصنيف عام 2020.
فى الوقت ذاته، أزاحت الصين الولايات المتحدة خلال عام 2019 عن عرش أكبر مصدر لطلبات تسجيل البراءات فى العالم للمرة الأولى منذ إقامة تلك المنظومة قبل أكثر من 40 عاماً. ويعد ذلك سبباً قوياً للقلق الأمريكي، حيث تتعلق اللعبة الكبرى بين الدولتين «بمعركة السيادة الرقمية».
•••
ودفع تعقد صناعة التكنولوجيا لتعاون الطرفين فى الكثير من المجالات، بل دفع كذلك لاعتمادهما على البعض بصورة متكررة، وعلى سبيل المثال يُكتب على تليفونات شركة آبل الأمريكية عبارة «صُمم فى كاليفورنيا، وجُمع فى الصين»، ولهذا السبب لن نرى صراعاً، بل سباقاً إلى أن تتغير طبيعة المصممين والمجمعين.
وعلى الرغم من تأكيد مؤسسة جولدمان ساكس أن الاقتصاد الصيني سيحل محل الأمريكي كأكبر اقتصاديات العالم عام 2027، فإن هذا لن يعنى الكثير إلا إذا منح النظام الصيني الثقة لنفسه وسمح لشعبه باستخدام ما هو ممنوع هناك حالياً مثل تطبيق فيسبوك وتويتر، أو قراءة نيويورك تايمز وأخبار وكالة رويترز.
ودون ذلك الانفتاح الضروري لن تستطيع الصين منازعة أمريكا فى ريادتها للعالم حتى لو وصلت الصين لرقم واحد فى الاقتصاد أو براءات الاختراعات.
* كاتب صحفي مصري متخصص في الشئون الأمريكية
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.