توفيق شومان *
أنتجت غالبية القوى الحزبية اللبنانية ولاءات حادة، باتت معروفة بـ”الطائفية السياسية”، ويكاد هذا المصطلح يغلب على الهوية الوطنية بعدما أوغل الخطاب السياسي والإعلامي بتقديم الإنتماء الطائفي وتابعه المذهبي على ما سواه، بحيث غدت كثرة لبنانية تجهر بتعريف نفسها على أساس سني أو شيعي أو ماروني أو أرثوذكسي أو درزي أو كاثوليكي.. إلخ.
تلك هي تركة التحزبات الطائفية، ولكن هل اللبنانيون طائفيون؟
يصف محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي (1145 ـ 1271م) في كتابه المعروف بـ”رحلة إبن جبير” أحوال المسلمين والمسيحيين في ثمانينيات القرن الثاني عشر الميلادي فيقول “ومن العجب أن النصارى المجاورين لجبل لبنان، إذا رأوا بعض المنقطعين من المسلمين، جلبوا إليهم القوت وأحسنوا إليهم ويقولون: هؤلاء ممن انقطع إلى الله عز وجل فتجب مشاركتهم”.
هذه صورة أولى عن لبنان واللبنانيين، فيما السؤال الفضولي الذي يطرح نفسه يدور حول الآتي: من هم المنقطعون؟
يجيب عن هذا السؤال الإمام ابن الجوزي (1116ـ 1201م) في كتابه “صفوة الصفوة” الذي يخصّصه لأهل التصوف المنقطعين إلى الله في عليائه والمنتشرين في بلاد الرحمن الواسعة ومنها جبل لبنان، وفي طليعتهم علي الجرجائي وشيبان المصاب وعباس المجنون وغيرهم العشرات من العباد المجهولين، وهؤلاء بحسب دراسة حديثة (2004) بعنوان “سيرة المتصوفين المسلمين في جبل لبنان” للأب يوحنا صادر “لم يكونوا لوحدهم بل كانوا متواجدين كما يشهد التاريخ مع مئات الرهبان المتوحدين في الجبل المقدس”، وهي تسمية شاعت عند بعض المتصوفين في تسمية جبل لبنان.
لن تختلف هذه الصورة عن صور مماثلة تتردد في شهادات الرحالة العرب، وعلى رأسهم ابن بطوطة إذ يقول “سافرت إلى جبل لبنان وهو من أخصب جبال الدنيا، ولا يخلو من المنقطعين إلى الله تعالى والزهاد والصالحين، وهو شهير بذلك، وقد رأيت به جماعة من الصالحين قد انقطعوا إلى الله ممن لم يُشتهر إسمه”.
حلقة القطع في مسار التسامح اللبناني تمثلت بوقائع سنوات 1840 ـ 1860، وهي ليست لبنانية المنبت على الإطلاق، بل هي نتاج الانقلاب الاجتماعي- الاقتصادي الذي اعتمده ابراهيم باشا البلقاني المقدوني (وليس المصري كما جرت العادة على تعريفه مع والده محمد علي باشا) بالتعاون مع فرنسا، ذلك أنه بعد فشل غزوة نابوليون بونابرت عام 1801 وتراجعه عن أبواب مدينة عكا، نجح الفرنسيون في استعادة نفوذهم على مصر وتوسعوا باتجاه بلاد الشام، بعدما استطاعوا تنصيب محمد علي باشا والياً على مصر، وعن تلك الحقبة يقول داوود بركات (1867 ـ1933) مؤسس صحيفة “الأخبار” المصرية ورئيس تحرير صحيفة “الأهرام” في كتابه “البطل الفاتح ابراهيم باشا وفتحه الشام 1832”: “كانت تركيا مريضة تحتضر، وكانت مصر مطمح أنظار الفرنساويين، فبعد ان أخرج الإنكليز جيش نابليون منها، أرسل الفرنساويون قنصلهم، دي ليسبيس، إلى مصر ليبحث عن الرجل الذي يستطيع مقاومة الإنكليز إذا هم حاولوا الاستيلاء على مصر، فوجد ـ دي ليسبيس ـ كل ضالته بمحمد علي، فبذل له كل مساعدة، ووجد محمد علي بالعلماء أصحاب السيطرة أكبر عون، فاختاروه واليا وطردوا الولاة الثلاثة الذين عينهم الباب العالي”.
وعن الروابط نفسها بين محمد علي باشا والفرنسيين، يتحدث سليمان ابو عزالدين في كتابه المرموق “ابراهيم باشا في سوريا” الصادر في عام 1929 فيقول إن زوجة محمد علي باشا “كانت ذات يسار مكنته من الإتجار بالدخان، ولقي في عمله هذا مساعدة من أحد التجار الفرنساويين، ربما كان لها شيء من التأثير في ميوله نحو أبناء الشعب الفرنساوي، وتلقى محمد علي مرسوما ـ بتوليته على مصرـ في تموز/ يوليو 1805، وصدر مرسوم جديد بتثبيت محمد علي في منصبه في تشرين الثاني/ نوفمبر 1806، وقد كان لمساعي قنصل فرنسا في الإسكندرية ولسفير فرنسا في الآستانة تأثير عظيم في هذا التثبيت”.
ويقول ابراهيم بك أبو سمرا غانم، وهو نجل أحد الأعيان المشاركين في حوادث عام 1840 في محاضرة بتاريخ الثاني من شباط/فبراير 1932 وأعادت نشرها مجلة “المشرق” البيروتية بعنوان “المصريون في سوريا ولبنان” ان محمد علي باشا “فكّر بإنشاء جيش منظم على الطريقة الأوروبية، فعهد بالأمر إلى الكولونيل سيف، الفرنسي الأصل، الذي صار في ما بعد سليمان باشا ـ والي صيداـ وأنشأ أيضا في الإسكندرية بحرية، وفتح في القاهرة معملا لصنع الأسلحة والمدافع وسائر المعدات الحربية، وقد قام بجميع هذه الأعمال رجال اختصاصيون من الفرنسويين”.
كيف أشعل الفرنسيون وابراهيم باشا المقدوني (مرة اخرى ليس المصري) جبل لبنان؟
يورد ابراهيم بك أبو سمرا غانم هذه الوقائع التي سمع أغلبها من والده فيقول “في أوائل سنة 1835، امتنع الحوارنة عن دفع الضرائب، فأرسلت فرقة مصرية لإرغامهم على الدفع، ففاجأتها جيوش وافرة من دروز حوران والنصارى المقيمين بينهم وعرب عنزة وقتلت قائدها الفريق محمد باشا وشتّتت شملها، ولما بلغت الأخبار ابراهيم باشا، بعث وزير حربيته احمد باشا مع تسعة آلاف مقاتل، ولما وصلوا إلى بلدة اللجا أطبق عليهم الثائرون وقتلوا ثلاثة آلاف رجل، فهال ابراهيم باشا خبر اندحار عساكره، فسيّر إلى الأمير بشير يستنجده، وبعث إليه بست عشرة ألف بارودة ليوزعها على المسيحيين، مع الوعد بتخفيض الضرائب وإعفائهم إلى الأبد من السخرة”.
تلك هي جذور المرارات الدموية في عام 1840، وما أعقبها من ملاحق سوداء تكررت عام 1860 وما تخللها من اشتداد سياسة المحاور الدولية التي يشرحها بالتفصيل الشاهد على تلك الحقبة ديمتري الدباس (1837 ـ1912) في كتابه “تاريخ وذاكرة نزاع”.
وبطبيعة الحال، ليست هذه المرارات محصورة في جبل لبنان، فأصول الملاحق السوداء في عام 1860 ترتد هي الأخرى إلى حملة ابراهيم باشا، ففي الفترة عينها شهدت الأقطار اللبنانية والسورية والفلسطينية انتفاضات متعاقبة على الإدارة المقدونية لإبراهيم باشا، فما بين الأعوام 1834و1838، نشبت انتفاضة عارمة في مدينة نابلس بقيادة الشيخ احمد قاسم النابلسي وكادت تدخل مدينة القدس، وتبعتها انتفاضات جارفة في ولاية حلب وبلاد بعلبك وجبل الشيخ وعكار وصافيتا وطرابلس وغيرها، وكل ذلك جعل عضو مجمع اللغة العربية في دمشق المؤرخ الشيخ عبد الرزاق البيطار (1837 – 1916) يقول في كتابه “حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر” عن ابراهيم باشا “غشوم ظالم وظلوم غاشم، خليفة الحجاج بن يوسف في أفعاله، وناهج منهجه في أقواله وأحواله، محتو على الفساد ومنطو على الإنكاد، مجبول على الغلظة والقساوة، مجعول من الفظاعة ومعدوم من اللطافة والطلاوة، ممتلئ البذاء، متضلع في الأذى”.
عموما وقع اللبنانيون وغيرهم في حفائر ودوائر العام 1840، وحيال ذلك برز مشهدان وطنيان:
ـ المشهد الأول: بعدما لاحت في الأفق ثورة بلدة دير القمر ضد ابراهيم باشا في السابع من أيار/مايو من العام المسبوق الذكر، بدا المشهد الوطني مغايرا لما أراده ابراهيم باشا وهدف إليه، وعلى ما يروي ابراهيم ابو سمرا غانم “إن والدي ما ان عرف بثورة الديريين أخذ منه الحماس كل مأخذ، فجاء إلى سواحل بيروت وانضم إليه أحمد داغر المتوالي، فتألبت حولهما جموع من برج البراجنة والشياح ومزرعة العرب وحارة حريك والتحويطة ثم الشويفات والحدث وكفرشيما ووادي شحرور، وهبط من أعالي الجبال الأمراء فارس حسن ويوسف حسن ومحمود سلمان من الشهابيين، وعلي منصور قايد بيه وعبدالله مراد وعلي وبشير أحمد وعلي فارس من الأمراء اللمعيين، والمشايخ فرنسيس حنا هيكل ونقولا خازن وشمسين صفا وعيسى الخوري وبطرس وحنا الحبشي وخطار حنا، والأمير خنجر الحرفوش وأخوه سليمان من أمراء متاولة بعلبك”.
ـ المشهد الثاني: في السابع من حزيران/يونيو 1840، اجتمع أهالي كسروان والمتن وانطلياس في كنيسة مار الياس، واتفقوا على توحيد الكلمة والرأي، وعلى ما جاء في نص الإتفاق الذي حرره أبو سمرا غانم الذي رعى الاجتماع:
“حضرنا إلى مار الياس انطلياس، نحن المذكورة أسماؤنا من دروز ونصارى ومتاولة وإسلام المعرووفين بجبل لبنان، وأقسمنا يمينا على مذبح القديس، بأننا لا نخون ولا نطابق الضرر بأحد، بل يكون القول قولا واحدا والرأي واحدا، ونحن جمهور الدروز إذ حدث منا وبان أدنى خلل نكون بريئين من ديانتنا ومقطوعين من شركة الدروز والخطوط الخمسة، وتكون نساؤنا طالقة من السبعة مذاهب ومحرمة علينا، ونحن جمهور النصارى الذي يخون منا يكون مار الياس خصمه ولا يكون له موتة على دين المسيح”.
إن تلك المشاهد، سوف تجد ورثة كبارا في القرن العشرين، ومن أمثلة ذلك سلوكيات الشهيد عبد الكريم الخليل الذي أعدمه جمال باشا السفاح في عام 1915، ففي كتاب “الأرواق الخاصة” للمفكر عجاج نويهض، وفي “عبد الكريم الخليل مشعل العرب الأول” ليوسف خازم، أنه “حدث في أوائل الحرب العالمية الأولى، أن رسالة من أحد أعضاء الجالية اللبنانية في أميركا، وردت للأب لويس شلالا رئيس دير مار الياس في بلدة غزير الكسروانية، وكانت تطعن في الدولة العثمانية، فوقعت بقبضة الحكومة، فاعتقلت الأب شلالا وساقته إلى الديوان العرفي، فتوسط عبد الكريم الخليل لإطلاق سراح شلالا، وبعد اسبوع زاره الأخير بصحبة ملحم الأشقر وقيصر معوض شاكرين مسعاه، وحين خروجهم ترك معوض صرة ليرات ذهبية، ولما رأى عبد الكريم الخليل الصرة قال لمعوض “قل للأب شلالا أن ينفق هذه الليرات على الفقراء بإسم الدير”.
مسلم يدعو للإنفاق على الفقراء المسيحيين وباسم الدير؟ يا غيرة الدين بلغة هذه الأيام الموحلة، وفي قصة أخرى تبلغ ذروة التقوى الوطنية والدينية عن شهيد آخر هو ادهم خنجر الدرويش يرويها الشيخ أحمد رضا أحد أبرز مفكري الجنوب اللبناني في النصف الأول من القرن العشرين في مذكراته، وتفاصيل ذلك، أن أنصار أدهم خنجر أتوا برجلين وإمرأة من بلدة دير ميماس، ولما حاول أحدهم التحرش بالمرأة “زجره ادهم خنجر، وقال أحذركم من المس بالأعراض، نحن نثور من أجل الشرف ولا يمكن أن نقوم بفعل ينافي الشرف”.
هل جاءكم حديث الوطنية في الإدارات الرسمية، وبعيدا عن الانتقام الحزبي ولوثة العصبيات؟
في مذكرات وزير الخارجية اللبنانية الأسبق فؤاد بطرس، أن ناقمين وثائرين على رئيس الجمهورية الأسبق كميل شمعون، جاؤوا يطلبون من الرئيس فؤاد شهاب إقالة فؤاد افرام البستاني من رئاسة الجامعة اللبنانية وفؤاد صوايا من المديرية العامة لوزارة التربية لكونهما من الشمعونيين، “فوقفت في وجه هذا التيار، وتمكنت من إقناع الرئيس فؤاد شهاب بعدم إقالة البستاني وصوايا لأنهما يتمتعان بالكفاية والنزاهة”، ومع الرئيس سليمان فرنجية أتى من يلهب أذنيه بضرورة إخراج الياس سركيس من حاكمية مصرف لبنان لأن نزالا شرسا جرى بينهما في الانتخابات الرئاسية عام 1970، وعلى ما يقول الزميل القدير اميل الخوري (“النهار” ـ 17ـ3 ـ2017) واجه فرنجية أصحاب الألسنة الطويلة بالقول “ليس لي مأخذ عليه فلماذا يجب أن نغيّره” (راجع مقالة “لبنان وذكرى الاستقلال يا للرجال الرجال”).
في كتابه “فؤاد شهاب ذلك المجهول”، يقول باسم الجسر “في عام 1968 طلب فؤاد شهاب من قائد الجيش تكليف أحد الضباط بإعداد دراسة لرفع عدد الجيش اللبناني، فاستدعى قائد الجيش العماد جان نجيم بعض كبار الشخصيات الدينية والسياسية المسيحية لإقناعها بضرورة القيام بحملة في الأوساط المسيحية من أجل انخراط الشباب المسيحي في التطوع في الجيش حفاظا على التوزان، وسمعتُ أحد السياسيين المسيحيين يقول لقائد الجيش: بسيطة خذ من الشيعة فهم ضمانة للبنان”، ومن كوارث الأزمان والعصور أن تتوقف في هذه الأيام تعيينات “حراس الأحراج”.
وليس بعيدا عن كوارث الأحوال، ولكن هذه المرة بما يتعلق بمواقع الصهر والأصهار، ففي دروس الوطنية كما يرويها حكمت أبو زيد في “رؤساء حكومات لبنان كما عرفتهم”، أن الرئيس سليم الحص رفض تعيين صهره زوج شقيقته سامي الحص في مجلس غرفة التجارة والصناعة في بيروت بعد شغور أحد مقاعده بوفاة عبد الكريم بكداش، علما أن سليم الحص “هو الذي يرشح بصفته وزيرا للاقتصاد، ويوقع بصفته رئيسا للحكومة ووزيرا للاقتصاد معا، وعيّن شخصا من آل غزاوي”.
ما الذي تفتقده الحزبيات الراهنة؟ هي تفتقد بالأساس كل شيء، ولكن أكثر ما تفتقده القلوب البيضاء، أي الحب، وهذه ثلاث قصص أخيرة عن الحب:
ـ القصة الأولى: أن الشيح احمد رضا ومحمد جابر آل صفا وهما من مدينة النبطية من مؤسسي جمعية “المقاصد الخيرية الإسلامية”.
ـ القصة الثانية: يرويها النائب والوزير الرحل أوغست باخوس (“النهار” ـ 29 ـ 8 ـ 2008) عن راهب قال عن الإمام موسى الصدر بعدما سمعه “هذا امتداد لروح المسيح”.
ـ القصة الثالثة: أن المسلمين اللبنانيين كانوا يرددون دائما “خسارة هي الحارة التي لا يوجد فيها نصارى”.
مسك الختام عن الحب أيضا، يقول ابن عربي:
أدين بدين الحب أنى توجهت/ ركائبه، فالحب ديني وإيماني
من لا يعرف الحب كيف يبني مجتمعا؟ وطنا؟ دولة؟
* كاتب لبناني
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.