منى فرح *
بينما كان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، يستقبل- مزهواً ومبتهجاً- قادة دول مجلس التعاون الخليجي في مطار الرياض، الثلاثاء 14/12/2021، ومن ثم يترأس القمة الأهم في منطقة الخليج، كان الاهتمام بغياب العاهل السعودي يلوح في الأفق بشكل كبير، بحسب تقرير “مارتن تشولوف”(**) تنشره صحيفة “الغارديان”.
بدا محمد بن سلمان، مبتهجاً مع وصول حُكام دول مجلس التعاون الخليجي إلى الرياض، الثلاثاء، وظهر وكأنه الرجل المسؤول الأول في البلاد. ففيما كان رؤساء الدول الخمس يتوافدون لحضور القمة الخليجية الـ42، كان ولي العهد السعودي في مطار الرياض لاستقبالهم- يحل مكان والده في حدث كبير آخر.
لكن، وبينما كان الأمير محمد يسير وقادة الكويت والإمارات وقطر وعُمّان والبحرين على سجادة أرجوانية توصل إلى قاعة استقبال، كان الاهتمام بغياب العاهل السعودي يلوح في الأفق بشكل كبير. فإذا كان هناك من مناسبة مهمة لكي يخرج فيها الملك المريض مرة أخرى إلى العلن، ما كانت لتكون أكثر أهمية من هذا التجمع الذي يحصل مرة كل خمس سنوات تحت رعايته في الزمان والمكان.
مؤشر مقلق:
بالنسبة للشخصيات الإقليمية، فإن عدم قيام الملك سلمان بدوره (استقبال نظرائه، قادة مجلس التعاون) بمثابة “مؤشر” قلق، وأكثر أهمية من أن يُمنح وريث العرش المزيد من المسؤوليات. كان غياب الملك أمراً في غاية الأهمية، لدرجة أن المراقبين المحليين يقولون إن تحولاً بارزاً حصل داخل الأسرة الحاكمة، وإن انتقال المهام من الأب إلى الابن قد حدث بالفعل على جميع الأصعدة- إن من ناحية النوايا أو المهام والأغراض المتعلقة بقيادة البلاد.
على مدار الأشهر العشرين الماضية، ظهر الملك سلمان للعلن مرة واحدة فقط، فهو؛ منذ بداية جائحة كورونا؛ يمكث في مدينة “نيوم” الجديدة- المشروع والهدف الشخصي المفضل بالنسبة لولي العهد، ملك المستقبل.
منذ ذلك الحين لم يغادر العاهل السعودي مدينة “نيوم” إلا مرة واحدة، عندما زار مقر القوة السعودية في الرياض، في آب/ أغسطس 2020، لإجراء عملية جراحية ناجحة للمرارة. أما آخر لقاء له مع مسؤول غربي فكان عندما التقى وزير خارجية بريطانيا السابق، دومينيك راب قبل خمسة أشهر. وعندما زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المملكة مؤخراً، التقاه ولي العهد بينما كان الملك غائباً عن هذا الحدث أيضاً.
تفويت اللحظة:
كانت زيارة ماكرون، وهي الأولى لرئيس غربي منذ مقتل الكاتب الصحافي جمال خاشقجي قبل ثلاث سنوات، بمثابة لحظة مميزة بالنسبة لمملكة حريصة على استعادة مكانتها وسط التداعيات العالمية المتواصلة لفضيحة غير عادية. وكان من الممكن أن يكون استقبال الملك سلمان للرئيس الفرنسي بمثابة بداية تحتاجها https://www.theguardian.com/world/2021/dec/03/emmanuel-macron-accused-of-trying-to-rehabilitate-mohammed-bin-salman الرياض لحلحلة تلك التداعيات.
يقول العديد من المسؤولين السعوديين السابقين المؤثرين إنهم لا يستطيعون تذكر سابقة كان رئيس الدولة موجوداً داخل المملكة وغاب عن استقبال زائرين للبلاد بمستوى نظرائه (قادة “الخليجي”) والرئيس ماكرون، لا سيما في مثل هذا المنعطف الحرج الذي تمر في البلاد. فمن حيث النوايا والأغراض، يُعتر الملك سلمان الآن “ملكاً غيابياً”، ويبدو أنه بالكاد يؤدي واجباته. ويبدو أيضاً أن الأمير محمد هو من يمسك بزمام ومقاليد السلطة كلها، ولا يبدو أنه منزعج أو حتى مهتم ما إذا كان الآخرون يدركون ذلك أم لا.
كان التسكع في الغيابات يثير تساؤلات تتعلق بصحة الملك. فالعاهل السعودي سيبلغ سن الـ 86 من عمره ليلة رأس السنة الجديدة. وهو كان قليل النشاط منذ سنوات توليه منصب ولي العهد. ويُقال إنه يعاني من “الخرف الوعائي”، وإن أعراض هذا المرض لديه لاتزال خفيفة، كما هو معلوم داخل المملكة وحتى في واشنطن ولندن.
المرض وكورونا.. ذرائع:
لكن بحسب مسؤول استخبارات غربي سابق فإن عوارض الخرف الوعائي: “لم تكن عاملاً ذات أهمية كبيرة خلال السنوات الأخيرة، ومن الصعب معرفة وضع هذه العوارض اليوم ودور جائحة كورونا”. ويعتقد المسؤول الاستخباراتي “أن الأمر أكثر إشكالية. المرض وكورونا بالتأكيد ذريعة لمحمد بن سلمان لإبعاد والده عن المشهد العام. ولي العهد هو من يدير المملكة اليوم. وليس والده بالتأكيد”.
أثناء إعلانه عن ميزانية المملكة عبر الفيديو، الاثنين، كان العاهل السعودي يتحدث ببطء شديد وبنطق ثقيل. ويقول الضيوف الذين رأوه قبل أن تبدأ جائحة كورونا إنه كان قادراً على الحركة والتحدث بشكل طبيعي ولو بحذر. لكن ظهور الفيديو الأخير في جلسات مجلس الوزراء جعل بعض المشاركين يتكهنون بشأن صحته.
وسواء أكان الملك سلمان يعيش في ما يُشبه المنفى بمحض إرادته أم عنوة، فقد أصبح موضع تكهنات داخل المملكة وحول منطقة الخليج، حيث كان قادة الإمارات وقطر والبحرين والكويت وعُمَان يتصارعون مع الديناميكية الغامضة بين الأب والإبن منذ صعود هذا الأخير إلى الصدارة قبل ما يقرب الخمس سنوات.
وبينما عزَّز الأمير محمد سلطته من خلال القضاء على خصوم الأسرة والمنافسين السياسيين، وابتزاز بعض كبار رجال الأعمال في البلاد، وتضييق الخناق على المعارضة، ظلَّ دور الملك سلمان محل نقاش ساخن.
“تأديب” قصير الأجل:
في أعقاب اغتيال خاشقجي، اتخذ سلمان موقفاً أكثر حزماً، وظهر في مناسبات عامَّة أكثر من المُعتاد، حتى أنه أشرف على إعادة تشكيل الحرس القديم الذي كان مُهمشاً باعتباره “محكمة الحُكماء” الحقيقية. يومها صرح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قائلاً إن “اللحية الرمادية عادت إلى إطلاق النار” (اتخاذ القرار). وبعث برسالة، عبر خالد الفيصل (قريب الملك الموثوق به) مَفَادُها أنه يحترم آل سعود، لكن ليس كما كان عليه الحال- في انتقاد لاذعة للأمير محمد، الذي تعتقد تركيا ووكالة المخابرات المركزية (CIA) ووكالات غربية أخرى أنه https://www.theguardian.com/world/2021/feb/26/jamal-khashoggi-mohammed-bin-salman-us-report هو من وجَّه وأمر بقتل خاشقجي وتقطيع جثته داخل القنصلية السعودية في اسطنبول.
ولكن إذا كان قد تم تأديب الأمير محمد حقاً في ذلك الوقت، إلا أن الأمر لم يستمر طويلاً. فبحلول النصف الثاني من عام 2019، بدأ مسؤولون في الرياض يروجون لولي العهد على أنه يدير الشؤون بثقة، ويكثف الإصلاحات الاقتصادية، ويوافق على خطط من أجل تغييرات في البنى الاجتماعية والثقافية لم يكن من الممكن حتى تصور تحقيقها في المملكة قبل عدة سنوات.
وصل الملك سلمان إلى مدينة “نيوم” قبل 15 شهراً ضمن إجراءات وقائية صحية فرضتها جائحة كورونا. كانت المدينة المستقبلية التي تقع على شاطئ البحر الأحمر المكان الأمثل لضمان عدم تعرض الملك لعدوى الفيروس وفي الوقت نفسه إمكانية متابعة الاجتماعات الإفتراضية لمجلس الوزراء. ولكن مع انحسار الأزمة في السعودية، تراجعت أيضاً معقولية مثل هذا الغياب الطويل وإمكانية تقبل الظهور الشخصي.
الاستثناء الوحيد كان عندما استقبل العاهل السعودي سلطان عُمَان الأمير هيثم بن طارق في شهر تموز/ يوليو الماضي. قبل ذلك التاريخ، كانت قد مرَّت أكثر من مناسبة عامة مهمة ولم يظهر فيها الملك، منها: الظهور السنوي المُعتاد في مكة في الأيام العشر الأخيرة من شهر رمضان، بداية موسم الحج، واحتفالات السنة السابعة لتوليه العرش، وموسم المهرجانات في الرياض، وحفلات الاستقبال الأسبوعية في الديوان الملكي.
وبحسب مسؤول مخابراتي سابق، فإن ولي العهد “قد مهَّد الطريق لتتويج نفسه ملكاً. وهو كان سيفعل ما فعله مع جائحة كورونا أو بغيرها. لا أحد يستطيع أن ينكر أن الملك ليس غائباً عن العمل وحسب، ولكن من المُحتمل أن يكون عاطلاً عن العمل”.
– النص الأصلي على موقع “الغارديان“:
https://www.theguardian.com/world/2021/dec/15/as-middle-eastern-leaders-gather-in-saudi-arabia-king-salmans-absence-looms
(**) “مارتن تشولوف”، مراسل صحيفة “الغارديان” في الشرق الأوسط، وحائز على جائزة “أورويل” للصحافة في عام 2015.
ـــــــــــــــــــــــــــ
* كاتبة صحفية ومترجمة لبنانية
المصدر: 180 بوست
التعليقات مغلقة.