غازي دحمان *
يطرح تصاعد الأزمات بشكل متسارع، وخصوصا في منطقتنا العربية، والتي باتت محل اشتباك عالمي وإقليمي، السؤال عن المنهجية التي يتبعها صناع القرار في إدارة هذه الأزمات، سيما وأن بعضها، ليبيا وسورية، بات قريبا من حافّة حرب إقليمية ودولية. في السياسات التقليدية، يتم بناء الاستراتيجيات، انطلاقا من رؤية صناع القرار إلى مصالح بلادهم. وبالدرجة الثانية، قدرتها على تحقيق هذه المصالح، ثم اختيار أفضل الطرق لتحقيق هذه المصالح، عسكرياً أم دبلوماسيا أو اقتصادياً، وليس بالضرورة أن تكون المصالح على شكل مكاسب مباشرة، بل ربما تكون على شكل إبعاد المخاطر، أو حرمان طرفٍ من تحقيق مكاسب قد تخلّ بالتوازنات القائمة.
وعلى الرغم من وضوح الاستراتيجيات في أحيان كثيرة، إلا أن الإشكالية قد تحصل في اتخاذ القرار وتقرير أي الخيارات أفضل، فقد يحدّد صانع القرار الأهداف بدقة، لكنه يتوه في ترجمته على الأرض، خصوصا أنه دائما ما تواجهه استراتيجيات ومصالح لأطراف أخرى متضادّة. وفي هذه الحالة، يصبح مطلوباً من صانع القرار إجراء تعديلات هيكلية على استراتيجيته فهل يستطيع؟
تقوم السياسات العالمية في القرن الواحد والعشرين، في أغلبها، على القواعد الكيسنجرية، التي وضعها وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي في مطالع سبعينيات القرن الماضي، هنري كيسنجر، والتي هي خليط من العنف والدبلوماسية، وترتكز على ضرب الخصوم في الخواصر الضعيفة، مع إبقاء قنوات التواصل مفتوحةً مع المركز، وقد جرى تطبيق هذه السياسات عبر ضرب ساحات نفوذ الخصم بقوّة، لإضعاف فاعليته وإسقاط أوراق قوته، وفي الوقت نفسه، التفاوض معه، لضبط سلوكه وضمان عدم تهوره ونقله الحرب إلى مستويات خطيرة.
في القرن الواحد والعشرين، ظهرت روسيا أكثر الفاعلين الدوليين، تطبيقا للسياسات الكيسنجرية، التي أثبتت فشلها، وخصوصا بالنظر لتكاليفها الإنسانية الهائلة، إلا أن روسيا اعتمدتها سياسة رسمية لتطبيق استراتيجية نهوضها، المتمركزة أصلاً حول الفكرة “المشروع” الأوراسي التي أعاد ألكسندر دوغين إحياءها، وتقع جغرافية المشروع في مناطق بين أوروبا وآسيا تشكل المجال الحيوي للحضارة الروسية، ومن الناحية العملية تستطيع روسيا فرض هيمنتها، بالنظر إلى ضعف القوّة الموجودة في هذه المناطق، وعدم وجود منافسين أقوياء.
ولكن هذا النمط من السياسات، عدا عن تكاليفه الإنسانية، أثبت على الدوام عجزه عن ابتداع استراتيجيات خروج من الأزمات، أي كيفية التعامل مع اليوم التالي لانتهاء مهمة ضرب الخصوم. وغالباً ما كانت الخسارات تبدأ عند بدء هذا اليوم، إذ ليس صعباً إضعاف خصم وتحطيم هياكله الضعيفة، لكن ذلك لن يحل المشكلة، لأنه عند هذه اللحظة تبدأ الأطراف الأخرى بتشغيل استراتيجياتها لدفع الخصم إلى المستنقع الذي يستنزفه ويضعف قواه.
السؤال هنا: لماذا يفقد صانع القرار نبوغه الذي أظهره في المراحل الأولى ومرونته التي أدار بها برشاقة وبراغماتية عمليات السيطرة والتحكّم، فكيف على سبيل المثال استطاع الرئيس الأميركي، جورج بوش، تحطيم القوّة العسكرية للعراق (الجزء الأصعب من الحرب) في أيام، وبتكاليف ليست عالية، ثم غرق في المستنقع العراقي، ودفع أثماناً بلغت الآلاف من القتلى وتريليونات من الدولارات؟ وكيف استطاع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تحييد اللاعبين الإقليميين والدوليين، وضرب فصائل المعارضة، والسيطرة على أغلب مفاصل الأزمة السورية في عام 2016، لكنه حتى نهاية 2020 لا يبدو ثمة أفق لتحقيق انتصار فعلي في سورية؟
التفسير المنطقي أن صانع القرار في الغالب يصبح أسيراً لاعتباراتٍ كثيرة، ويصبح خاضعاً لمراكز القوى التنفيذية، ويفقد قدرته على المناورة، وقدرته على التحكّم بمجريات الأحداث. وغالباً ما يصبح ألعوبة بيد الأجهزة الأمنية والعسكرية التي تشرف، بشكل مباشر، على الواقع الميداني، والتي تضطر الأجهزة الدبلوماسية إلى مراعاتها، وتسويق رواياتها عن الحرب، فيصبح صانع القرار واقعاً في كماشة رهيبة، لا تتيح له إمكانية إعادة تقييم موقفه على ضوء التطورات الجارية، والتي قد يراها مضرّة بمشروعه.
ثم إن الحروب والتدخلات تخلق طبقات من المصالح بين العسكريين والأمنيين والمقاولين الذين يحقّقون مكاسب مادية ومعنوية مباشرة من الحروب والنزاعات التي توضع لها ميزانيات وأموال، تتولى جهات عديدة صرفها، ويستطيع هؤلاء الوصول إلى دماغ صاحب القرار، عبر مستشاريه الذين يعتمد عليهم في اتخاذ قراراته، فيوجهون القرارات صوب الاستمرار في اللعبة القاتلة.
يبدأ التخطيط للحروب والخوض في الأزمات عبر دوائر ضيقة ومحدودة، ولكن عندما تندلع تتوسع دوائر المشاركين في الحرب. وعند هذه النقطة، يفقد صانع القرار قدرته على ضبطها، وأي تعديلٍ في سياساته قد يتطلب إجراء تغييرات هائلة في البنية التي تشكلت في أثناء إدارة الحرب. وربما يبدو الأمر أقل صعوبةً في الدول الديمقراطية التي تتغير فيها الإدارات الحاكمة كل فترة معينة. ولكن في الدول ذات النهج الديكتاتوري، إن إجراء تغييرات جذرية في البنى العسكرية والأمنية والسياسية قد ينتج عنها اختلال في كامل المنظومة، ويؤدي إلى سقوطها.
وبالتطبيق على الأزمتين، الليبية والسورية، تبدو الأمور سائرة صوب أسوأ الاحتمالات، حيث تتدحرج الأزمات بفعل قوّةٍ تبدو خفية، لكنها مرتبطة بشكل كبير بطبقات المصالح والبنى التي تأسست طوال مرحلة الأزمة، ويبدو الفكاك عنها شبه مستحيل.
* كاتب وصحفي سوري
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.