الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

هل تنهي مظاهرات السودان المتجددة حكم العسكر؟

محمود الوهب *

قبل البدء بالحديث عن تجدد المظاهرات واستمرارها لابد من الإشارة إلى أن السودان المعاصر لم يشهد، منذ استقلاله وإلى الآن، غير حكم العسكر الذي دام منذ 1958 وإلى اليوم ولم يحكم المدنيون إلا سنوات قليلة، لم تسمح لهم بتهيئة مستلزمات الحكم المدني بأحزابه وصحفه ومنتدياته على نحو سوي، ورغم ذلك فصراع العسكر والمدنيين لم يتوقف ولعلَّ المدنيين، ورغم مراوغة العسكر واعتمادهم في حكمهم هذا الحزب أو ذاك، هذه الطائفة الدينية أو تلك استطاعوا أن ينتزعوا حياة سياسية، شهدت، فترات بُعْدِها عن الحكم، سجوناً ومعتقلات وإعدامات أحياناً وأحكاماً جائرة كثيرة..

زخم الحياة السياسية:

هذه الحياة السياسية يشهد السودان اليوم زخم قوتها، وتراها مدفوعة بكل ما راكمه حكم العسكر من فقر وشدة ظلم، وتخلف وتمزيق لوحدة البلاد وبنيتها..

وفي عودة إلى ما يجري الآن نرى ألاعيب العسكر ذاتها لم تتبدل، ففي وقت اقترب معه تسليم قيادة مجلس السيادة للمدنيين في السودان حسب الاتفاق الموقع بين العسكر وقوى الحرية والتغيير التي قادت الثورة السودانية في كانون الأول- ديسمبر من العام 2019 قام عبد الفتاح البرهان وشريكه أحمد دقلو بانقلابهما في 25 تشرين الأول- أكتوبر من هذا العام على ذلك الاتفاق، فاعتقلوا المئات ووضعوا رئيس مجلس الوزراء تحت الإقامة الجبرية الذي يعدُّ ممثلاً لتيارات الثورة المدنية..

ولم يكن للانقلاب أي مبرر غير أن العسكر لا يريدون تسليم السلطة للمدنيين حسبما جرى من اتفاق بينهما، ولذلك وجد استنكاراً عربياً ودولياً، بغض النظر عمن سانده عربياً، وهكذا مورست ضغوط من قوى خارجية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي طالبت بالعودة إلى المسار الديمقراطي.

مشكلات اقتصادية ومعيشية واجتماعية:

وكانت السنتان الماضيتان قد شهدتا حلولاً لمشكلات سودانية كثيرة عالقة، وتسهيلات للبدء بالتنمية مدخلاً رئيسياً لحلّ كل ما يعانيه السودان من مشكلات اقتصادية ومعيشية واجتماعية أخرى..

وهكذا استجاب حمدوك لتلك الضغوط لكنه أخطأ إذ لم يجر مشاورات كافية مع قوى الثورة المختلفة، ولم تكن عودته تماماً إلى ما قبل 25 تشرين الأول- أكتوبر، تاريخ انقلاب البرهان/دقلو.. كما لم تكن عودته دون مكاسب للعسكريين الذين لم يغادروا سلطتهم في مجلس السيادة، إضافة إلى إساءتهم للقوى المدنية..

ولم ترض تلك العودة أطرافاً وازنة في قيادات الثورة السودانية، فقد جرى إعادة تمكين للعسكر، وتبرير لانقلابهم، إضافة إلى تقسيم صفوف الثورة الشعبية على نحو أكثر مما كانت عليه من تباين في الرأي قبل الانقلاب المذكور. وكان العسكر قد اتخذوا من ذلك التباين غطاء لانقلابهم، وعلى ذلك فقد جاءت عودة حمدوك، ضعيفة، غير مقنعة، إذ لم تحمل طموح الشارع السوداني.

وكان في إقامته الجبرية واستناده إلى الشارع أكثر قوة، وقد غدا رمزاً وطنياً قبل عودته إذ حمل الثوار صورته وهو في إقامته الجبرية، لكنهم أنزلوها بعد ذلك رغم أنهم ازدادوا زخماً وحماسة وعرَّوا العسكر الذين كانوا، أصلاً، في موقف افتقدوا معه ثقة الشعب، وجاء انقلابهم ليؤكد خيانتهم لما تعهدوا به.. إضافة إلى أنهم استعادوا سيرة العنف في مواجهة المتظاهرين وعطلوا مسيرة السودان الديمقراطية، والتنموية التي غدت على عتبة البدء..

السند الشعبي:

شكك كثيرون بعودة حمدوك وعدم قدرته على العمل بعد أن فعل به العسكر ما فعلوه.. وتساءل بعضهم كيف له أن يستعيد ذلك السند الشعبي الذي كان يمنحه القوة، وثقة شعبه، وساهم في رفع العقوبات عن بلده؟

وهل هو قادر فعلاً على حقن دماء الشعب ثم كيف تتعايش رؤوس قادة الثورة الأولى الذين اعتقلوا بالمئات حتى وإن أرغم البرهان على إطلاق سراحهم قبل فترة؟!

وها هي ذي المظاهرات تتجدد وتستمر معيدة الكرة إلى مرمى العسكر؟!

كانت ثورة السودان قد تميزت عن سواها من ثورات الربيع العربي في التنظيم والسلمية اللذين عكسا وحدة صفوف الشعب وتناغم فئاته، وشرائحه ما شكل قوتها، واكتسابها، وعياً جديداً، ونمواً متطوراً، فالمجتمع المعاصر يستند بعضه إلى بعض لا في سعيه لتأمين متطلبات عيشه، بل للمساهمة في بناء الدولة الحديثة، وتنظيماتها، وقوانينها، وجاءت تنظيمات المجتمع السوداني من نقابات، وجمعيات شعبية (تنسيقيات) ونواد مختلفة تقوم على أساس المهنة أو نوعية العمل، مؤكدة تلك الحقيقة.

دور مميز للمرأة السودانية:

وكان للمرأة السودانية دور مميز إذ أعطت الثورة لوناً مجتمعياً فاعلاً، وحضارياً، ولذلك جوبهن بشراسة ووحشية، إذ لم يكتف العسكر برميهن بالرصاص الحي، وسقوط شهيدات منهن، بل إنهم كرروا مأساة عمليات الاغتصاب التي حدثت خلال مجزرة فض الاعتصام في المظاهرات، وكان المقصود إذلال الأهالي والنيل من المتظاهرين.. ورغم ذلك، لم يكن العسكر ليتصوروا أن القوى المدنية الثورية قادرة على العودة إلى الشارع، أو لعلهم صمموا على إغراق السودان بالدم من جديد.. وربما من هنا عودة حمدوك مبرراً ذلك بحقن الدماء، لكنه، وللأسف لم يستطع، ويهدد اليوم بالاستقالة بعد أن فشل حتى الآن بتشكيل الوزارة.. وأن زخم المظاهرات أقوى مما كان، ويبدو أن الثورة السودانية اكتسبت أبعاداً جديدة أكثر اتساعاً وشمولاً.. وأن العسكر لا زالوا يراوغون مع استخدام القوة والإيذاء. لكن سلمية الثورة تبرز قوتها المتجددة!

إن ما يجري في السودان ليس معزولاً عما يحصل في محيطه العربي. فلا يمكن لأي ثورة ديمقراطية، في أي بلد عربي تقود إلى دولة يمكن أن تكون نموذجاً للحداثة، والنهوض بالتنمية الوطنية أن تنجح ببساطة دون أن تواجهها ثورات مضادة تغذيها مصالح سياسية واقتصادية!

وربما من هنا شكلت ثورة السودان في سعيها التنموي وتجاوز التخلف تحت سقف الديمقراطية السياسية هاجساً لبعضهم.. ليظل السودان مجالاً لاستثمارات مجحفة، وليبقى جيشه عرضة للبيع كمرتزقة لصالح هذه الدولة أو تلك..

لكن المراهنة على الشعب السوداني بقواه الحية باقية، فهي التي أشعلت ثورة مميزة، وهي القادرة على حمايتها في نهاية المطاف، وخصوصاً أنَّ المجاعة تعصف بالسودان، وهو المرشح ليكون سلة المنطقة الغذائية.

إنه امتحان معقد لا ينتظر نتائجه السودانيون وحدهم، بل إن الكثير من قوى الحرية والديمقراطية في دول المنطقة تتطلع إلى انتصار الشعب السوداني، وإلى التخلص من حكم العسكر كلياً، وإلى بناء دولة تكون ديمقراطية بحق، ونموذجاً يحتذى في المنطقة.

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.