( الحرية أولاً ) ينشر كتاب «تأملات في المسألة الوطنية» كاملاً “على حلقات” للكاتب الأستاذ: ’’جاد الكريم الجباعي‘‘
الحلقة الثانية: الأسس والقواعد الموضوعية للوطنية
تتأسس الوطنية، الناتجة من المواطنة المتساوية على عدة أركان: أول هذه الأركان هو الحقوق- الالتزامات. والثاني هو الحريات- المسؤوليات. والثالث هو إمكان التحسن الذاتي وتحسن العالم؛ هذا الإمكان مبني على ملكة التحسن الذاتي أو قابلية التحسن الذاتي، التي يمتاز بها الإنسان من سائر الكائنات الحية على كوكب الأرض، كما تقدم؛ وهي ملكة أو قابلية مشروطة بالقدرة على تحسن العالم باطِّراد، تحسن البيئة الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية، وبكلمة واحدة تحسن المجتمع والدولة، بصفتهما معًا عالمَ الإنسان الذي هو من صنعه وابتكاره. والركن الرابع من هذه الأركان هو المنفعة/ المنافع المتبادلة بن الأفراد والجماعات، وما تنبني عليه من قيم تنسج الحياة الأخلاقية للجماعة المعنية أو المجتمع المعني والدولة المعنية. والركن الخامس هو التكافؤ والمساواة، تكافؤ النساء والرجال في المنزلة والمكانة، وتساوي النساء والرجال في الكرامة الإنسانية والكرامة الوطنية والحريات الأساسية والحقوق المدنية: الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، وفي الالتزامات القانونية. والركن السادس هو أولوية حرية الفرد (المرأة والرجل) وحقوق الإنسان والمواطن/ــة. والسابع هو تكافؤ المعاني والقيم بين الأفراد والجماعات، وتكافؤ العقائد الدينية واللغات والثقافات والاتجاهات الفكرية والسياسية، إلى جانب التكافؤ في المبادلات والمعاملات وبناء عليها. ليس لهذا الترتيب أي دلالة تفضيلية، لأن انتقاص أحد هذه الأركان هو انتقاص منها جميعًا.
وإلى ذلك، إن كل ما هو عام ومشرك بن المواطنين والمواطنات يمثل الجانب الموضوعي أو المادي للوطنية، ويعيِّن نصاب الحقيقة النسبية دومًا والمتغيرة دومًا، التي تتأسس عليها منظومة الحريات الشخصية والحريات العامة والحقوق المدنية، والتي يكفلها الدستور وتترجم إلى قوانين. هنا يمكن الحديث عن نوعن من المصالح: مصالح تواصلية، قوامها الاعتماد المتبادل، والثقة، والتعاون، القائمة كلها على علاقات أفقية وشبكية متكافئة، ومصالح تفاصلية قوامها الأثَرَة والاحتكار والجشع أو الأنانية، بالمعنى الرديء للكلمة، وهذه مقترنة تاريخيًا بالعلاقات الشاقولية وتسلسل الولاءات والامتيازات في النظم البطركية، ما قبل المدنية، وما دون الوطنية، وفي النظم التسلطية أو السلطانية المحدثة.
ولكن هذا، لا يجوز أن يحجب عن النظر العقلي والرؤية الأخلاقية جدلية التواصل/ اللاتواصل، أو التجاذب/ التنابذ، وآلياتها الظاهرة والخافية، التي هي الأساس الموضوعي لحيوية المجتمع وعمليات التشكل الاجتماعي- الاقتصادي والثقافي والسياسي والأخلاقي، أو عمليات التبنْين الاجتماعي، وأشكال الانتظام والتنظيم واصطفاء القيم والدلالات والرموز والمعاني، التي لا تني ولا تتوقف ولا تكتمل، حتى في ظل الاستبداد الكلي، الذي ينهك الجسد الاجتماعي، ويقفِّر الحياة الإنسانية، كما في سوريا، وإلا لكان الخروج من سجن الاستبداد مستحيلاً. هكذا هي الأمور: تجاذب وتنابذ، تقارب وتباعد، محبة ونفور، صداقة وخصام… إلخ، وستبقى على هذا النحو إلى أمد غير معلوم. والرهان معقود على الممكنات الأخلاقية للفرد والأسرة النووية، وهو رهان يستند إلى قاعدة أنطولوجية هي التحسن الذاتي وتحسن العالم.
يتأسس التواصل (الذاتي)، في نطاق المجتمع المدني على التبادل (الموضوعي)، وهذا، أي التبادل هو العامل الرئيس من عوامل تطور أشكال الانتاء وتطور مضامينه، أو العامل الموضوعي الرئيس من عوامل تطور الهوية/ الهويات. ومن البديهي أن التواصل يضع نقيضه، التفاصل، المؤسَّس على الأَثَرة والطمع والتنافس والتدافع… إلخ، التي تنبثق من حب التملك، والنرجسية وأوهام المركزية، الراسبة في اللاوعي من أزمان غابرة، والرغبة في إثبات الذات، والدفاع عن «الهوية ». ولكن التواصل ونقيضه مفهومان متغيران في الدرجة والنوع، ولعلهما موَّاران، لا يستقران على حال، لشدة تأثرهما بالمشاعر والعواطف الموَّارة، التي تؤثر في عملية التبادل الموضوعية، إلى هذا الحد أو ذاك. هذه العلاقة الديالكتية بين الأساس وما يتأسس عليه، أي بين التبادل والتواصل، قلما تحظى باهتمام الباحثين والباحثات، وقلما يُلحظ أثرها في تطور أشكال الانتماء وتغيرها في الدرجة والنوع؛ لذلك يغلب النظر إلى الهويات على أنها ماهيات وجواهر أزلية وسرمدية. الموضوعي يؤسس الذاتي، والذاتي يؤثر في الموضوعي؛ كل تغير في أحدهما يؤثر في الآخر؛ هذا مبدأ عام، مفتوح على فضاء الإمكان والاحتمال.
في ضوء هذه العلاقة بن التواصل الذاتي والتبادل الموضوعي، نفرض أن ثمة علاقة طردية، علاقة تناسب طردي، لا تخفى بين اتساع مجالات التبادل والتداول وبين انتشار قيم التسامح والاعتدال ورسوخ مبادئ المواطنة وانحلال العصبيات ما قبل الوطنية شيئًا فشيئًا، وضمور الأيديولوجيات التفاصلية والتفاضلية؛ فكلما اتسعت مجالات التبادل والتواصل متجاوزة حدود الجماعات الطبيعية وشبه الطبيعية تخف الكثافة الأيديولوجية، ويتراجع منسوب التعصب، يلاحظ هذا بوضوح على صعيد القرى والبلدات والحواضر والأحياء والمدن. ويلاحظ بوضوح أكثر في البيئات التعليمية والعلمية وتنظيمات المجتمع المدني، والمؤسسات العامة، بقدر ما تكون كذلك بالفعل، في أوقات السلم والاستقرار السياسي(13).
على الرغم من إشارات كثيرة من الباحثين في العلوم الاجتماعية إلى ما سماه ياسين الحافظ «التحاجز الاجتماعي» و «التكسر الصلبي»، في «المجتمع العربي»، يمكن أن نلاحظ ميل الجماعات الدينية والمذهبية والإثنية، في سوريا، إلى الخروج من عزلتها الاجتماعية وانغلاقها الثقافي شيئًا فشيئًا، جراء اتساع المجالات التبادلية والتداولية، وانفصال عملية الانتاج الاجتماعي عن البنى الأولية، مع تطور نسبي في الزراعة والحرفة والتحول البطيء إلى الصناعة، وانتشار العلاقات السلعية- النقدية. وتشكُل جنين مجتمع مدني ودولة وطنية. لكن نمو المجتمع المدني والدولة الوطنية توقف مع سيطرة البعث على السلطة عام 1963، وتحكُّم السلطة في عملية التقسيم الاجتماعي للعمل وآليات الاصطفاء الاجتماعي، بما في ذلك اصطفاء الأفكار والقيم والرموز، وفرض ما سميت «الثقافة القومية الاشتراكية» على المجتمع، واعتبار الثقافة «العربية- الإسلامية» وحدها الثقافة المعيارية، واستعمال الدين أداة سياسية إلى جانب الخوف. وإلى ذلك، بُنيت رؤية البعث الاجتماعية وممارسة السلطة، ولا سيما سلطة عائلة الأسد، على مبدأ الضغينة(14)، المتناقض على طول الخط مع مبادئ المواطنة ومعنى الوطنية؛ الضغينة التي تتولد من الغلبة والمغلوبية، والتي تعبر عنها سردية المظلومية، تتضاعف أضعافًا لدى المغلوبين إذا غَلبوا، وهذا ما سميناه في مكان آخر بالغل التاريخي. فلا تكون ضغينة وحقد إلا بإنكار إنسانية الخصم وجدارته واستحقاقه.
الطبيعة لا تعرف المساواة، ليس فيها شيئان متساويان، والجماعة الطبيعية كذلك، لا تعرف المساواة، وليس فيها شخصان متساويان في أي شيء، وليس فيها شخصان متكافئان أيضًا. المساواة اختراع إنساني مؤسس في اللامساواة، أي في الاختلاف والتفاوت الطبيعيين. هذا يعني أن المساواة واحدة من ممكنات الطبيعة البشرية، في سيرورة نموها وتطورها إلى الإنسانية، مرد هذه الإمكانية أو مرجعها هو وحدة الفرد والنوع، وجدل الأنا والآخر أو الأخرى، جدل الأنَويَّـة والآخريَّـة، في نطاق مجتمع صغير أو مجتمع كبير. لو كان التعامل بالمنطق الصوري جائزًا هنا، لكانت النتيجة أن الذين لا يعترفون بتساوي الناس في الكرامة الإنسانية والجدارة والاستحقاق لا يزالون حبيسي الطبيعة الحية، ما قبل الإنسانية، بل ما قبل البشرية.
المساواة وحدها، أي المساواة المطلقة، غير المقيدة، تؤدي إلى العدمية، والعدمية، بالتعريف، هي نفي الفروق والحدود وانتفاؤها، هي نكوص إلى القطيعية وعدم الإنسانية، المساواة المطلقة هي التجانس المطلق أو عدم الاختلاف، والتجانس هو الموت. الاختلاف هو شرط إمكان المساواة، وشرط إمكان الحرية المدنية، بل إن الاختلاف هو تعين الحرية الطبيعية والمدنية على السواء، وهو شرط إمكان المساواة والتكافؤ. والقيد الضروري اجتماعيًا للمساواة هو الحرية، لكن الحرية المطلقة وحدها، المنفلتة من عقالها، أي الحرية غير المقيدة والمشرعة ذاتيًا، تؤدي إلى العدمية أيضًا، لكي لا نقول الفوضى؛ قيد الحرية الضروري اجتماعيًا هو المساواة. العلاقة الجدلية بين الحرية والمساواة هي علاقة تحديد متبادل وتقييد متبادل، غايته حفظ الحياة، وتحقيق النمو؛ الحرية تقيد المساواة، فتجعلها نسبية؛ والمساواة تقيد الحرية، فتجعلها نسبية. هذان التقييد المتبادل والتحديد المتبادل بين المساواة والحرية هما شرط إمكان المواطنة والوطنية، وهما، على الصعيد العالمي شرط إمكان السلام الدائم، الذي حلم به إيمانويل كانت.
هذا تفكر مثالي؟ أجل، هو كذلك، ولكن ليس من سبيل آخر إلى سلام دائم وشامل.
عالمنا هو ما نضعه فيه من ذواتنا:
الافراض الأولي المشار إليه في المقدمة، والذي يقول: إن الناس لا يأخذون من العالم غير ما يضعونه فيه من ذواتهم، ولا يأخذون من أوطانهم غير ما يضعونه فيها من ذواتهم، يحيل على أمرين: أولها أنطولوجي، يتعلق بتذويت الطبيعة، بالمعرفة- العمل، وتشكيلها، أو تغير أشكالها، وإنتاج العالم، عالم الإنسان (المجتمع والدولة)، وإنتاج الوطن، «على صورة الذات ومثالها»، بحيث يصير العالم إنسانًا مموضعًا، من جانب، وتشكُّل الذوات الفردية والجمعية أو الفردية- الجمعية، بحيث تصير كل منها طبيعة مؤنسنة وعالمًا مؤنسنًا، من الجانب المقابل. والأمر الثاني اجتماعي- تاريخي يتعلق بواقع أن فئة من الناس إما تأخذ من العالم أكثر مما تضع فيه، أي إنها تستولي على بعضٍ قليل أو كثير مما وضعه آخرون وأخريات في العالم، وإما تأخذ من العالم ولا تضع فيه سوى غرائزها الأولية وأهوائها ونزواتها وأطماعها وإراداتها التعسفية، ما يكشف عن أصول الاستغلال (استغلال الإنسان للإنسان) والتفاوت الاجتماعي، وأصول الاستبداد والتسلط والفساد، وأصول التوحش، في البنى الاجتماعية- الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية، وفي البنى العسكرية أو مؤسسات الحرب، خاصة، ويكشف عن تلازم هذه الأصول وآثارها الكابحة للنمو والتقدم الإنسانيين. وقد صرنا نعرف أن تاريخ استغلال الإنسان للإنسان هو نفسه تاريخ الملكية الخاصة للثروة ووسائل الإنتاج، أو تاريـخ الاغـتراب (Alienation) والتغريـب. فإن الاغتراب وتجلياته الثقافية، على نحو ما بسطها لودفيغ فويرباخ (1804 – 1872)، وتاريخ الاغتراب وأشكاله «المادية»، على نحو ما بسطها كارل ماركس (1818-1883)، يبينان لنا اقتران الاستبداد والتسلط بالفساد الاجتماعي- الاقتصادي والمالي والسياسي والإداري والأخلاقي، أو فساد الاجتماع الإنساني أو فساد «العمران»، حتى ليمكن القول إن الفسـاد هو مضمون التسلط، والتسلط هو شكله الحربائـي.
لعل أول شكل من أشكال الاغتراب كان الاغتراب الذاتي، اغتراب الإنسان في الطبيعة، مصدر وجوده ومعاشه وشرط بقائه، ثم في الأسطورة والدين، حين وضع الإنسان جميع خصائصة النوعية في عناصر الطبيعة وظواهرها، فقدسها، ونسج حولها أساطير وخرافات، ونسب إليها معجزات، وتعبَّد لما دونه منزلة في سلم التطور الطبيعي. ثم جرّد هذه العناصر من قوامها الفيزيقي، وأنشأ منها صورَ الآلهة، ثم صورة الإله الواحد. وقد فعل هذا كله بالحدس (المعرفة المباشرة) و/ أو بالمعرفة- العمل، أي بتوسط المعرفة- العمل (المعرفة الموسَّطة)، ولعله من الصعب، بل من المتعذر تعيين الحدود الفاصلة/ الواصلة بين هذين النمطين، أعني المعرفة المباشرة والمعرفة الموسَّطة. فالجذر المعرفي-العملي للاغتراب هو التملُّك والاستحواذ، بصفتها تعيُّنًا لإرادة، بل لإرادات متنافسة، محدودة كل منها بالأخرى، أي بحدود القوة الطبيعية، ثم بحدود القوة الأخلاقية، قوة الشرائع والأعراف والقوانين؛ ولا تزال القوة الطبيعية والقوة الأخلاقية متراجحتين، في الحياة الاجتماعية والسياسية، حتى يومنا.
يدعي البحث أن المواطنة والوطنية (المشتقتين من الوطن) نتيجتان من نتائج احتكام الناس إلى القوة الأخلاقية، أو القوة المدنية، ولا سيما قوة القانون الوضعي، الذي يضعه الناس بأنفسهم لأنفسهم، بموجب عقد اجتماعي عادل. فلا تزال المواطنة والوطنية، حتى في المجتمعات المتقدمة والنظم الديمقراطية، مشوبتين بشوائب القوة الطبيعية، التي تتولد منها الغلبة والمغلوبية وما ينجـر عنها، وتلكم من أبرز التحديات التي تواجه الديمقراطية، وتعيق سيرورة تطورها إلى ديمقراطية اجتماعية.
يقع مفهوم الاستلاب في قلب المنظومة الهيغليـة وفي قلب الديالكتيك الهيغلي، فقد أسس هيغل (1770- 1831) فلسفته على مبدأ وحدة المعرفة والوجود (هوية المعرفة والوجود) أو وحدة الذات والموضوع، على أنهما جانبان أو وجهان لحقيقة واحدة، فما يوجد أحدهما مستقلاً عن الآخـر. والمعرفة لا يمكن أن تكون سوى مجموعة من التصورات تعـبر عن كلٍّ منها كلماتُ اللغة، ومن ثم فإن الموضوع، في مقابل الذات، هو مجموعة من الكليات، لا وجود لها إلا في الذهن، أي في الذات العارفة أو العاقلة، فحين نصف الحجر بأنه صلب وخشن وثقيل… إلخ، فإن الصلابة والخشونة والثقالة وغيرها كليات، ليس لها وجود بذاتها إلا في الذهن. وهذا يعني أن الكليات موضوعية لأن التصور ليس مستقلً بذاته عن موضوعه، والموضوع كذلك ليس مستقلً عن تصوره في ذهن س أو ص أو ع من الناس، وإلا كنا إزاء الشيء في ذاته الذي لا تمكن معرفته، عند كنت. لكن وحدة المعرفة والوجود أو الذات والموضوع لا تعني أنها متماثلان، وغير مختلفين، وغير متعارضين جدليًا؛ فالهوية المشار إليها هي هوية اختلاف وتعارض، أو كلية عينية، وهذا ما يسمى وحدة الأضداد وتعارضها.
العقل أو الفكر أو الفكرة الشاملة أو الروح هو أو هي مبدأ الكون وعلة وجوده، وهي أو هو، من ثم، مبدأ العالم، عالم الإنسان، أو علة وجوده، عند هيغل. والعقل Reason نسق من المقولات الكلية تتناسل من مقولة أولى على نحو ضروري، إذ الطابع الجوهري للعقل هو الضرورة أو العلاقات الضرورية، التي لا تخضع للعاطفة والشعور والأهواء (العقل هنا هو معرفة الحدود والفروق والروابط الضرورية بن الأشياء والظواهر والأفراد والجماعات والأمم والشعوب)، المقولة الأولى الكلية والشاملة، التي تحمل في جوفها جميع المقولات، هي «الوجود»؛ جميع الأشياء المادية موجودة، وهي صفات للوجود. الطابع العقلي لهذه المقولة ينكشف لنا حين نجرد أي شيء موجود من جميع صفاته وخصائصه أو تعييناته تجريدًا نهائيًا، فلا يتبقى منه سوى الوجود المجرد والمطلق، لأنْ ليس بوسعنا أن ننفي وجوده أو نجرده من الوجود. ينتج من ذلك، إن جميع المقولات تفرض الوجود أولاً، وتحمل كل منها نقيضها في داخلها.
تجريد أي شيء من صفة أو أكثر من صفاته هو تجريده من شكل أو أكثر من أشكال وجوده، لا تجريده من الوجود، وكذلك تجريد أي شخص. الصفات حدود وفروق. والاعتراف بوجود الشيء لا يعني معرفته ولا يُغني عنها، وكذلك الاعتراف بوجود الشخص الآخر، والأشخاص الآخرين والأخريات، بل تجب معرفة الأشياء والاعتراف بصفاتها وخصائها، كما هي، وفهمها وعقلها، ومعرفة الأشخاص الآخرين والأخريات (والجماعات الأخرى) والاعتراف بصفاتهم وخصائصهم الإنسانية، كما هي، وفهمها وعقلها. وهكذا تكون المعرفة العقلية، المؤسسة في الوجود والمبنية عليه، علاقة إنسانية بالموجود وجودًا فعليًا، لا تصوّريًا، ولكنها لا تستبعد الحدس، الذي يلابس المعرفة الموضوعية دومًا.
إذًا، انطلق هيغل من الوجود الخالص أو المطلق، المجرد من أي صفة وأي تعين، ونقيضه هو العدم الخالص أو المطلق، المجرد من أي تعين، وتبين له (بالتأمل) أن الوجود المطلق عدم مطلق، أو لا وجود. الوجود الخالص هو الفكرة الشاملة الموجودة في ذاتها ولذاتها، أو العقل الكلي، أو الروح المطلق. هذا الوجود الخالص هو عدم وجود، إذا لم يتعين، أي إذا لم يخرج من ذاته إلى آخر مختلف عنه، فيتحد به، على أنه نقيضه الجدلي. لذلك كان لا بد من مقولة ثالثة تتوسط بن الوجود والعدم، ولا بد أن تكون هذه المقولة سلب المقولتين المتقابلتين، لأن سلب الوجود المطلق هو سلب العدم المطلق، هكذا قلب هيغل مقولة اسبينوزا: «كل تعيُّن هو سلب أو نفي»، لتصير كل سلب أو نفي هو تعيُّن. البداية تنحصر في ثلاث مقولات: مقولتين متضادتين تضادًا مطلقًا هما الوجود والعدم، ومقولة ثالثة، هي تركيب منها، وليست أي واحدة منهما، سماها «الصيرورة»، أو وحدة الوجود والعدم أو اللاوجود، أو وحدة النقيضين، أو الكلية العينية، وتعني إمكان تحول كل منهما إلى الآخر، وهذا جوهر الجدل أو الديالكتيك، ذي الإيقاع الثلاثي. يلاحظ هنا أن «التركيب» هو تعيُّن كلٍ من المطلقَينْ في نسبيٍّ هو الوجود العيني أو الكون العياني، الذي ينأى عن سائر المطلقات، فلا وجود للمطلقات إلا في الذهن. بفكرة الصيرورة هذه، التي هي وحدة الإيجاب والسلب أو النفي، أو مركب منها، أدخل هيغل في الفلسفة أو الفكر النظري فكرةَ التاريخ وفكرة التقدم أو النمو، والتحسن الذاتي.
الاغتراب، وفق هذه الرؤية، هو نقل صفات الفرد الإنساني وخصائصه الإنسانية أو انتقالها، إما من طريق التأمل، وإما من طريق المعرفة- العمل، إلى كائن آخر، فيزيقي أو ميتافيزيقي، واعتباره أسمى من الإنسان ذاته وجعله سيدًا له وحاكماً عليه، ولو كان هذا الكائن شخصًا اعتباريًا، كالدولة الحديثة، التي عدَّها هيغل تجسيدًا للعقل الكلي أو تجليًا له، لا تعبيرًا عن خصائص الأفراد الذين أنتجوها، بالتعاقد أو بغيره، في زمان ومكان محددين، أو صيرورة هذا الكائن الفيزيقي أو الميتافيزيقي قوة مفارقة تسيطر على الإنسان، الذي أوجدها. إن فكرة العقل الكلي الذي يفضُّ نفسَه في الطبيعة والمجتمع، عند هيغل، هي جذر مثاليته وقاعها المسيحي، وجذر المثالية. بعبارة أوضح، الاغتراب هو تحول أو تحويل ما ينتجه الإنسان، على الصعيدين: المادي والروحي، إلى قوة مفارقة تسيطر على الإنسان الذي أنتجها أو أوجدهـا.
بالعودة إلى وحدة المعرفة والوجود، وهي مبدأ أساسي في مذهب هيغل ومنهجه، فإن العقل أو الروح أو الفكرة الشاملة تحمل سلبها في داخلها، وكذلك الوجود. فلكي تنتقل الفكرة الشاملة (الروح أو العقل) من الوجود المطلق إلى وجود فعلي متعن يجـب(15) أن تفضَّ نفسها أو تسلب ذاتها، فتندرج في الطبيعة، لتنتج علوم الطبيعة، وفي المجتمع والحياة الإنسانية لتنتج العلوم الاجتماعية والإنسانية والمجتمع المدني والدولة، التي هي تجسيد للعقل الخالص أو المحض، وهذا هو الاستلاب. الدولة تغلق الدائرة، بصفتها عودة الفكرة المطلقة (العقل أو الروح) إلى ذاتها، وقد اغتنت بثروة التطور والتقدم. وإلى جانب الدولة بل في قلبها تتجلى الفكرة الشاملة في الدين والفلسفة والفن وذروته الموسيقا(16). لعل تعريف ماركس للدولة بأنها الحياة النوعية العامة (= الإنسانية) للإنسان، والحياة الأخلاقية للشعب هو نوع من هيغلية معدَّله، وجه التعديل هو انطلاق ماركس من الإنسان العياني بلحمه وعظمه، من الوجود العياني، وجود الفرد الإنسان العاقل والأخلاقي، لا من فكرة الوجود الشاملة (الروح) ونقيضها. وهذا ما كان ماركس يسميه التناقض المطلق بين المثالية (مثالية هيغل نموذجًا) وبين «المادية » أو المادوية، وهو تناقض في المسألة الفلسفية الأولى، فقط، أي في مسألة هل الفكر «يخلق » المادة أم العكس؛ أما في ما عدا ذلك فالتناقض بن المادية والمثالية نسبي.
الاغتراب إذًا هو خروج الروح من شرنقتها الذاتية أو انشطارها، بفعل السلب (التناقض) الكامن فيها، واغترابها في العالم الموضوعي أو الوجود المتعين، لتعود ثانية إلى ذاتها، وقد اغتنت بثروة التقدم، وهذا التقدم صيرورة موضوعية ذات إيقاع ثلاثي، هو الإيقاع الثلاثي للعقل أو نسق المقولات في توالدها الذاتي، إذ تنطوي كل منها على سابقاتها، وتحمل إمكان لاحقاتهـا. فالاستلاب أو الاغتراب، بهذا المعنى ضروري أولاً وإيجابيٌ ثانيًا.
وفي المنظومة الهيغلية معنى آخر للاغتراب، متصل بالمعنى الأول، يتعلق بانتقال ناتج عمل الإنسان أو انتقال الملكية، التي تتعين فيها الإرادة الذاتية، إلى شخص آخر بالبيع أو الرهن أو الهبة أو وضع اليد أو الاستيلاء أو الغصب… إلخ، وهو ما يؤسس العقود على مبدأ الإرادة الذاتية الحرة للمتعاقدين، في المجتمع المدني، بما هو مجتمع الحاجات والعمل على إشباعها، ويضع فكرة القانون الوضعي، وموضوعه الحق، أساسًا للمجتمع المدني والدولة، بما هي تجسيد للعقل وملكوت الحرية الموضوعية والأخلاق الموضوعية، فينغلق الديالكتيك، ويبلغ التاريخ غايته ونهايته. لذلك لم يخطئ فوكوياما حين بنى مقولة «نهاية التاريخ» على الديالكتيك الهيغلي الذي ينغلق بتطابق الشكل والمضمون أو تطابق المعرفة والوجود، في الدولة، أو في الشيوعية والجماعة المؤنسنة، عند ماركس. فلعل نهاية التاريخ هي انتفاء التناقضات كليًا أو تعادلها، والأمر متروك لبومة منيرفـا وقطـة شرودينغـر.
ميزة السلب، سلب الوجود المطلق (والعدم المطلق)، تتعيَّن في أمرين مهمين: أولها نسبية الحقيقة وارتباطها بالكائن أو الموجود العياني، الذي لا ينفصل عن معرفته أو تصوره، وهو ما يضع مقولة الوعي؛ فالوعي بالتعريف هو الوجود مدركًا من قبل الأفراد المختلفين والجماعات المختلفة؛ لذلك ثمة وعي واقعي ووعي أيديولوجي أو وعي شـقي، وثمة تلازم بن الاغتراب والتغريب وبين شقاء الوعي. والثاني أن بين الوجود والعدم تناسبًا عكسـيًا، (بحكم تناقضهما): نمو أحدهما وانبساطه هو تقلص الآخر وانحساره، ما يعني أن العدم، كالوجود، لم يعد مفهومًا مجردًا أو فراغًا أو لا شيء، بل صار عدمَ شيءٍ ما، أو عدمَ وجودِ شيءٍ ما، لا عدم وجود مطلقًـا، وغدا المطلق حدًا للنسبي يحده، ويحد منه(17). ولذلك أطلق النقاد على فلسفة هيغل صفة المثالية الموضوعية.
وفق تضايف الوجود والعدم وأشكال تعينها وتناسبهما العكسي(18)، إن أبرز أشكال الاغتراب أو الاستلاب في الحالة السورية، موضوع اهتمامنا المباشر هو نمو العدم في الحياة الإنسانية أو جفاف النسغ الإنساني للحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والأخلاقية، وتحولها إلى مجرد حياة بيولوجية بائسة. نمو العدم هو نمو عدم الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص أو عدم المواطنة، وعدم العدالة والإنصاف، وعدم احترام الكرامة الإنسانية والحياة الإنسانية. نمو العدم هو المعنى الآخر لهدر الإنسان، كما عرضه مصطفى حجازي، هدر الفكر والعمل والفاعلية والثقافة والأخلاق، علاوة على هدر الموارد البشرية والمادية، وهدر الوطن والوطنية. علَّة هذا كله هي السيطرة على مصادر السلطة ومصادر الثروة واحتكارها بوساطة القوة الطبيعية المحدَّثة والمتوحشة، أعني قوة الجيش والاستخبارات، وغياب القانون وفساد القضاء. القوة الطبيعية هنا هي علَّة الاغتراب وقوة التغريب، أي علة الإفقار والتهميش والنبذ والإقصاء والإذلال.
لعل أوجز تعريف للاغتراب هو «انقلاب الأنا إلى آخـر»، حسب فويرباخ، أو بعبارة أبسط: قيام الإنسان نفسه بنقل خصائصه الإنسانية إلى موضوع خارجي: عنصر من عناصر الطبيعة، طوطم، ملك أو سلطان، إلـه، مادة من مواد العمل، كالخشب والجلد والمعدن… إلخ، مؤسسة، مجتمع، دولة، لا يلبث هذا الموضوع الخارجي أن يتحول إلى كائن غريب عن الإنسان، الذي أوجده، ويسيطر عليه. أما التغريب فهو عملية نبذ يتعرض لها فرد أو جماعة، من قبل الآخر أو الأخرى أو الجماعة أو المجتمع أو المؤسسة أو السلطة أو النظام الاجتماعي، وقد يرد عليها المُغرَّبات والمغرَّبون بتغريب مضاد، فنكون في التنابذ، وذلك هو أساس التخارج، ولا سيما تخارج السلطة والمجتمع في حالات الاستبداد. وبين الاغتراب والتغريب يقع الانخلاع، وهو فعل إرادي بالاعتزال، كاعتزال النسَّاك والصعاليك والخُلَعاء.
مع أن آثار الاغتراب تقع على الأفراد بصورة مباشرة، فهو ذو طابع اجتماعي وتاريخي، ومن طبيعة كونية مؤسسة على كونية الإنسان، فلا ينحصر الاغتراب في مجتمع دون آخر، ولا في زمن دون آخر. الاغتراب بهذه المعاني هو من صنع البشر أنفسهم جراء الجهل والعجز، من بداية الأمر، ثم صار الجهل والعجز مقدسين أو صادرين عن مقدس مفارق ومتعالٍ ومحروسين بشرائع وأعراف وعادات وتقاليد ونظم اجتماعية وسياسية وثقافية وعقائد دينية ونماذج تفكـير. ولا فكاك من هذا الشَّرَك التاريخي، الذي نصبه البشر لأنفسهم إلا بمبادرتهم هم أنفسهم إلى الخروج من حالة «القصور الذاتي»، حسب كنت. وأحسب أنهم شرعوا في الخروج هنـا وهنــاك.
الاغتراب مفهوم مفتاحي لتحليل حالة الإنسان في المجتمع والدولة وفهمها ومفهمتها أو تعقُّلها، والبحث في السبل التي يمكن أن تؤدي إلى رفع الاغتراب أو حذفه أو تقليص آثاره في حياة الأفراد والمجتمعات الصغيرة والمجتمع الكبير والجماعة الإنسانية. الحالة السورية نموذج نقي لآثار الاغتراب والتغريب في حياة الأفراد والجماعات وحياة المجتمع، أعني تحويل قوة عمل المجتمع وثرواته وتحوُّلها إلى سلطة شمولية مفارقة متوحشة ونهّابة، معادية للمجتمع الذي أنتجها. بهذا يكون مفهوم الاغتراب مفهومًا مفتاحيًا لفهم سيرورة التحول والانتقال من الرعوية إلى المواطنة، أو لتفسير الانتكاس إلى الرعوية. لا يكتسب الاغتراب دلالاته من المجالات، النفسية والاجتماعية والأنتربولوجية والاقتصادية والسياسية التي يُستعمل فيها فقط، بل من المداخل أو المنظورات، المادية أو الثقافية أو الأخلاقية، التي يُنظر من خلالها إلى الاغتراب في كل مجال من هذه المجالات، التي هي، بالأحرى، أشكال الحياة الاجتماعية والإنسانية.
هذه الوضعية المركبة والمعقدة تركيبَ الحياة الإنسانية وتعقيدَها في أيامنا هي ما تجعل مفهوم الاغتراب ملتبسًا وغامضًا، مع أن تجلياته أو تظاهراته واضحة، لا يخطئها النظر الحسي والعقلي. لذلك يقصره بعض الباحثين على أشكال الحياة في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. وإذ لا نجادل في أن الرأسمالية دفعت الاغتراب إلى حدود قصوى، بلغت مستوى تشييء الإنسان وعبوديته لمنتجات عمله وفاعليته، نعتقد أنه لا يزال ظاهرة عالمية أو كونية (والرأسمالية ذاتها غدت كذلك)، وأن مظاهره وآثاره في المجتمعات المتأخرة لا تقل قسوة عنها في المجتمعات المتقدمة إن لم تفقْهــا.
مظاهر الاغتراب الأكثر توحشًا في المجتمعات المتأخرة تتجلى في التسلط والاستبداد، والعنف والإرهاب اللذين يتولدان منهما، سواء في المجال الاجتماعي أو في المجال السياسي، ولا سيما في المجال السياسي، إذ لا تزال السياسة مرادفة للحرب، ولا تزال السلطة كذلك، خاصة أنها، أي السلطة، لا تُنال إلا بالحرب والانقلابات العسكرية أو التوسل بالقوة العسكرية وسائر أشكال القوة الطبيعية، القبلية منها والإثنية والدينية. ما يعني أن للاغتراب طابعًا تاريخيًا، وأن عوامله مؤثَّلـة، متأصلة أو متجذرة في العلاقات الاجتماعية والثقافة المتوارثة جيلاً بعد جيل. لعل المظهر الأكثر توحشًا وتفاهة هو موالاة المتسلطين والمستبدين والفاسدين وتبجيلهم، والنظر إليهم كما يُنظر إلى مخلِّصين، وسيأتي الحديث عن «الخلاص» أو الاغتراب الديني بصفته أول شكل من أشكال الاغتراب، ولا يزال ذروة من ذراه، وعن الأفكار الخلاصية بصفتها وعيًا شقيًا ومصادرة على الحرية، أو بصفتها حلاً ميتافيزيقيًا لمأزق وجودي.
من هذه الزاوية، يتعلق الاغتراب بمصادر السلطة، بوجهيها: المادي والمعنوي المتلازمين تلازم الطبيعي والوضعي، ومبادئ إنتاجها، في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، حتى ليمكن القول إن الاغتراب ينحل في السلطة، ويكثف فيها، من حيث مصادرها ومبادئ إنتاجها، ويتجلى في آليات اشتغالها وأشكال ممارستها. فإما أن تكون مصادر السلطة هي علاقات القوة الطبيعية والعلاقات العشائرية والإثنية والدينية المذهبية التفاصلية والتفاضلية، وتكون مبادئ إنتاجها هي الغلبة والمغلوبية وما ينجر عنها، فنكون في الرعوية والاستبداد الكلي والاغتراب الشامل، وإما أن تكون مصادرها هي علاقات القوة المدنية، أو الأخلاقية، القائمة على الحقوق المدنية- الالتزامات القانونية، وعلى الحريات الأساسية- المسؤوليات الاجتماعية والأخلاقية، وعلى العلاقات الاجتماعية الأفقية والشبكية القائمة على التكافؤ والندِّية والتساوي في الكرامة الإنسانية، وتكون مبادئ إنتاجها هي التعاقد والتشارك الحر والمبدع، فنكون في المواطنة، على طريق رفع الاغتراب أو حذفه.
علينا أن نلاحظ أن علاقات القوة الطبيعية والعلاقات العشائرية والإثنية والدينية- المذهبية وسائر العلاقات التفاصلية والتفاضلية نسق مترابط، لا تبنى على أساسه أوطان، ولا تكون مواطنةٌ ووطنيةٌ. نسق المواطنة والوطنية، الذي تبنى على أساسه الأوطان، هو النسق المضاد، نسق علاقات القوة الأخلاقية، قوة الحق، وقوة القانون، وقوة المعرفة والثقافة والعلاقات التواصلية، وهو نسق مترابط أيضًا. وسوف أزعم أن النسق الأول بتمامه يسم المرحلة الحضرية أو الحضارية من التاريخ البشري، والنسق الثاني يسم المرحلة المدنية؛ والمراحل الانتقالية بن هاتن المرحلتين الحضارية والمدنية هي مراحل تفسخ الحضارة وأفولها، كتفسخ الحضارة «العربية- الإسلامية » وأفولها، الذي نشهد مراحلة الأخيرة، وبزوغ المدنية ونموها هنا وإمكانها هناك، أو «أفول الآلهة وموتها الوشيك»، بتعبير “داريوش شايغان”.
يعبر الاغتراب عن حقائق واقعية قابلة للملاحظة والقياس نوعيًا وكميًا، وهي أن ما يبتكره الإنسان وينتجه بفكره وعمله لا يلبث أن يتحول ضد الإنسان نفسه، ويصبح له سيطرة كاملة على حياته. لا يسيطر على الإنسان إلا ما ينتجه الإنسان نفسه بفكره وعمله، فالابتكارات التي يبتكرها الإنسان تزيد من عبوديته بدلاً من توسيع حريته، وتسلبه قدرته على اتخاذ قراراته وتوجيه حياته بنفسه. فليس الاغتراب في صوره وأشكاله المختلفة إلا نتاجًا لعجز الإنسان أمام قوى الطبيعة وقوى المجتمع، كما أنه نتيجة طبيعية لجهل الإنسان بالقوانين التي تسيِّر هذه القوى، ولذلك يمكن تقليص الاغتراب بالمعرفة العلمية، وتوفير الشروط الضرورية لاستقلال الذوات الفردية وحريتها، وصولاً إلى استعادة الذوات خصائصها الإنسانية وقدرتها على تملك نتائج فاعليتها وعملها. كما أن اغتراب المجتمع في العالم، كاغتراب المجتمع السوري، ناتج من هشاشة بنيانه أو نقص اندماجه الوطني، وتقليدويتـه وعجزه عن السيطرة على موارده الطبيعية والبشرية وقوة عمل أفراده. وما دامت أسباب الاغتراب معروفة، أو قابلة لأن تُعرف، يمكن تقليصه وتلافي تأثره في الدولة والمجتمع والمؤسسات والأفراد.
لاحظ حليم بركات أن «المجتمع العربي» أصبح عاجزاً، إذ فقد الكثير من مناعته وتحكمه بوظائفه الحيوية وموارده المادية والروحية في علاقته بالدولة التي تخضع بدورها لإرادة القوى الخارجية والعائلات الحاكمة المحلية. من هنا يعجز المجتمع عن تجاوز أوضاعه وإعادة بناء نفسه من جديد، فتتسع الفجوة وتتعمق بين واقعه الهزيل وأحلامه الضائعة، بل قد يضطر الإنسان إلى تقبل واقعه، ولعله يفقد الجرأة على أن تكون له أحلام وطموحات. تلك هي أقصى أنواع التدجين والتهميش والإفقار ومن هنا يعيش الشعب كابوسًا لا حلمـاً. إنه محاصر ودائرة الحصار تضيق باستمرار، فيضطر بفعل اليأس إلى الانشغال بتدبر شؤونه الخاصة وتحسن أوضاعه المعيشية والمادية على حساب كرامته وإنسانيته وطاقاته الإبداعية. لقد سلبته هذه المؤسسات حقوقه وحرياته في السيطرة على إنتاجه في مختلف الحقـول.
لذلك يتصل الاغتراب بمشكلات التفكك الاجتماعي والثقافي والسياسي وتدهور القيم حيثما تسود علاقات القوة والنزاع وعلاقات التبعية والطائفية والفئوية الطبقية والسلطوية بدلاً من علاقات التعايش والتضامن والتفاعل الحر والاندماج الطوعي.
منذ خرج الإنسان من رحم الطبيعة، وقطع حبله السُّري الذي كان موصولاً بها، وهو يعاني ألم الانفصال وما يولده من شعور بالقلق والحيرة، ولكن الطبيعة، كالأم، ظلت تطعمه وتسقيه، وتعتني به، وتوفر له مقومات حياته البيولوجية. لذلك كان شعوره بالمديونية والولاء لـلأم الطبيعية والأب الطبيعي، مظهرًا اجتماعيًا لمديونيته للطبيعة والولاء لها، بما هي المصدر الخفي أو المجهول أو غير المباشر لوجوده. باستقلال الإنسان عن الطبيعة الأولية صارت الطبيعة خارجه، وهو داخلها، وبدت له قوة خارجية مطلقة لا حول له إزاءها ولا طول، وتبعث على الرهبة والخوف، وتولد شعورًا ممضًا بالعجز، فكان لا بد له من ترميزها وتقديسها، وتأليهها من طريق تأليه الأم.
ومضى التفكير في القداسة والألوهة قدمًا إلى اختراع معادل رمزي للطبيعة يشمل جميع مظاهرها ويعبر عن جميع خصائصها، بما فيها خصائص الإنسان ذاته، بصفته كائنًا طبيعيًا صار قادرًا على الخلق والإبداع وتغير أشكال الطبيعة، هذا المعادل الرمزي هو الإنسان الخالق نفسه، لكنه مفارق ومتعال، أزلي وأبدي، وكلي القدرة. لذلك يعد الاغتراب في الطبيعة، أي إضفاء خصائص الإنسان عليها وتقديسها، أساس الاغتراب الديني. ولهذا صلة وثيقة بمشكلاتنا الاجتماعية والسياسية، إذ لا يزال ما سميناه نسق الحضارة بتمامه وترابط عناصره، محورَ الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية، ولا تزال علاقات القوة الطبيعية هي المصدر الوحيد للسلطة. ما يعني أن الاغتراب في الطبيعة (تقديس الأماكن ومزارات الأولياء الصالحين) والاغتراب الديني لا يزالان قائمين أو ثاويين في حياتنا، وأن المستوى الوسطي للوعي الاجتماعي السوري لا يزال قرب حد الشقاء، تحته بقليل أو فوقه بقليل. فلا يزال الاتجاه السائد في المعرفة والثقافة هو المتاجرة بالدين والرهان على دور إيحابي للإسلام، إسلام المتكلم/ــة والجماعات الإسلامية، في الحياة السياسية، وعلى تحول جماعات الإسلام السياسي إلى قوى ديمقراطية و «تمرير الجمل من خرم الإبرة». الدين متناقض مع المواطنة والوطنية تناقضًا مطلقًا، ما لم يكن شأنًا خاصًا وشخصيًا من شؤون المؤمنين والمؤمنات، أو ما لم يتعدَّ حدود المجتمع المدني إلى المجتمع السياسي. ولعل مستقبل سوريا مرهون بواحد من خيارين: إما بقاء الدين في مركز التوجيه، وإنتاح الأكثرية الدينية- المذهبية والأقليات الدينية والمذهبية سياسيًا، وإعادة إنتاجها، وإما إلغاء الدين سياسيًا، وإزاحته، من ثم، عن مركز التوجيه، واعتباره شأنًا من شؤون المجتمع المدني، مسرح التاريخ الفعلي. بعبارة أخرى، إما أن ينحل الدين في التاريخ، وإما أن ينحل التاريخ في الدين، وتظل الأمور على وتيرتها المألوفة، ويظل المجتمع سادرًا في تأخره، ويظل المجتمع السياسي مقيدًا بدين الدولة، أو دين رئيس الدولة، والدستور والقانون مقيدين بالشريعة أو الفقه، والعقد الاجتماعي (الدستور) ملغماً ضمنًا أو صراحة بقوانين خاصة للأقليات وبـ «حق» تأليف الأحزاب والجمعيات الدينية والإثنية.
والنزعات الإثنية العنصرية لا تقل عن الدين خطرًا على الوطن والوطنية، خاصة حين تنجدل على عقيدة دينية، كما في انجدال العروبة على الإسلام السني، أو انجدال الفارسية على الإسلام الشيعي، فيصير الدين «قوميًا» وتصير القومية دينًا، كالقومية اليهودية المزعومة. لذلك تسمى الانتماءات العائلية والعشائرية والقبلية والإثنية والدينية انتماءات ما قبل وطنية وما دون وطنية، ونحن نزعم أنها انتماءات مضادة للوطنية وعقبات كأداء في طريق تحققها، أي في طريق بناء دولة حديثة. وعليه، نعتقد أن الدعوة العلمانية ناقصة ومثلومة ما لم تتضمن الإلغاء السياسي للإثنية والدين معًا، ونبذ كل ما ليس سياسيًا من الحقل السياسي، وحصره في حقله الخاص. فكرة الحقل أو المجال فكرة أساسية في المعرفة والسياسة، مثلا هي فكرة أساسية في الفيزياء، لأنها تضع فكرة التداخل، تداخل الحقول، وتلفت الانتباه إلى آثارها، وتشكل قوام الرؤية الترابطية.
حصر فويرباخ اهتمامه بالاغتراب الديني لاعتقاده أن الاغتراب الديني أصل الاغراب الاجتماعي وأساسه، وأن الدين، كما ينبئنا تاريخه، هو أنتربولوجيـا مقلوبة. فإذا كان الدين تعبرًا عن مديونية الإنسان لمصدر وجوده، وشعوره العميق بتبعيته لهذا المصدر وعجزه إزاءه، وجهله بنظامه، فإن الطبيعة هي مصدر وجود الإنسان. الوجود الإنساني شكل من أشكال وجود الطبيعة، وشكل من أشكال الوجود، وشكل من أشكال الحياة، يصفه الإنسان نفسه بأنه الشكل الأعلى على سلم التطور الطبيعي، على كوكب الأرض(19). لذلك كان لا بد من تفنيد التيولوجيـا (ما يسمّى «علم اللاهوت ») والكشف عن زيفها، وردها إلى أصلها الأنتربولوجي، أي إلى كيفية تفكر الإنسان وسلوكه وقدرته على التخيل والتمثيل والخلق والإبداع، وأصل التقديس والتأليه وأثرهما في الممارسات الرمزية، الطقوسية أو الشعائرية، وكيفية تشكل العلاقات الاجتماعية الاقتصادية والإنسانية والسياسية، وكيفية تشكل البنى والمؤسسات، والأعراف والتقاليد والقيم أو المُثُل، التي تحكمها، وأثر البيئة في تشكلها، وطابع العلاقات المتبادلة بن الجماعات المختلفة، وعلاقات القوة وتقاليد الحرب والموادعة والسلم والمثاقفة، وأثر المنظومات اللغوية وأشكال التعبير، ولا سيما الأسطورية والشعرية منها، في هذا كله. الدراما الإنسانية، في أحد وجوهها، تتكثف في جدلية التبعية والاستقلال؛ فلم يكن بوسع الإنسان أن يخلق عالمه لولا انفصاله عن الطبيعة واستقلاله النسبي عنها، لكن ألم الانفصال أو الاغتراب والتخارج وما يصاحبه من قلق وجودي لا يزولان، والدين هو هذان الألم والقلق، وهيهات أن يزول.
الكائن المستقل عن الإنسان والمختلف عنه، (الله)، والذي يتوفر، مع ذلك، على جميع خصائص الإنسان وقواه غير المحدودة، ليس شيئًا آخر سوى الطبيعة. والشعور بتبعية الإنسان للطبيعة، بما هي مصدر وجوده، هو أصل الدين. الطبيعة هي الموضوع الأصلي للدين، كما يبين تاريخ الديانات بصورة كافية. والقول بأن الدين فطرة في الإنسان قول زائف، إذا كان يعني التأليـه، ولكنه صحيح إذا كان المقصود به شعور الإنسان الفطري أو الطبيعي بالتبعية لكائن آخر مختلف عنه ويعتمد وجوده عليه، ويتحدد مصيره به. يعتمد الإنسان في وجوده ومعاشه على الطبيعة، وهذا الاعتماد مشترك بين جميع الكائنات الحية، ولكنه يرتفع عند الإنسان إلى مستوى الوعي والتخيل، وعند التفكر فيه والاعتراف به يصبح دينًا. ولما كانت الحياة تعتمد على تغير الفصول كان الناس يحتفلون بهذا التغير بطرق درامية وطقوسية مبهجة، ولا تزال بعض هذه الطقوس سارية إلى يومنا(20)، ولطالما اعتقدوا بوجود قوى خارقة للطبيعة تمنحهم الخيرات أو تحرمهم منها، ودفعتهم أهمية الحيوانات في حياتهم إلى تقديس بعضها. إن تقديس الأشياء لا يغير طبيعتها، ولكنه يضفي عليها دلالات رمزية من بنات الخيال، فالماء المقدس، على سبيل المثال، يظل ماء، ولكنه يرمز إلى أصل الحياة. الله، هذا الكائن الرحيم العطوف الذي يجعل الشمس تشرق على الخيِّر والشرير والعادل والظالم، ليس سوى الطبيعة نفسها، وليست الصفات الأخلاقية التي يوصف بها سوى صفات الإنسان العاقل والأخلاقي ذاتها.
لأن الإنسان يعتقد أن العقل (الكلي) والإرادة (المطلقة) هما سبب الطبيعة، إذ تتحدى تأثيراتها إرادته وتتعدى عقله، فإنه يفسر الأشياء بأسباب تشبه الأسباب البشرية. ولأنه لا يعلم شيئًا عن الأسباب الطبيعية فإن الظواهر الطبيعية تعزى إلى قوة خارقة ومفارقة. ما يعني أن جهل علل الأشياء وأسباب الظواهر هو أساس الاغتراب الديني، علاوة على الشعور بالتبعية والعجز. لقد خلع الإنسان جميع خصائصه الطبيعية والإنسانية والأخلاقية، كالسمع والبصر والقدرة والإرادة والمعرفة والعلم والرحمة والحب والحق والخير والجمال، خلعها كلها على الله فأغنى الله بقدر ما أفقر نفسه، وعظم الله وأجلَّه بقدر ما أهان نفسه وأذلها، واخترع عبودية رمزية لكائن مفارق، لكي يسوغ العبودية الواقعية لسيد من جنسه، ويتحمل ويلاتها. لا يجب أن ننسى أن جميع العقائد الدينية والمذاهب التي تفرعت عنها ظهرت كلها في عهود العبودية والرق، وفي ظل أنظمة القهر والاستبداد.
رأى فويرباخ أن الكشف عن الاغتراب لا يتم إلا من خلال فلسفة الدين، فالاغتراب أساسًا هو الاغتراب الديني، والاغتراب الديني هو أساس كل اغتراب فلسفي أو اجتماعي، نفي أو بدني. فإذا كان الاغتراب هو انقلاب الأنا إلى آخر فإن هذا الانقلاب يحدث أساسًا في تحويل خصائص الإنسان أو نقلها إلى كائن مفارق هو الله، قبل أن تتحول إلى عمل أو إلى نظام ومؤسسات. فالاغتراب الديني هو أسهل اغتراب وأسرعـه وأكثره مباشريـة.
التدين، في نظر فويرباخ، هو الذي يميز الإنسان من الحيوان. ويرجع هذا التميُّز إلى أن الإنسان يتمتع بوعي، بالمعنى الدقيق، وهذا، أي الوعي، يتجاوز الإحساسات والإدراكات والأحكام، أي مجموعة الوظائف النفسية إلى إدراك الكليات والأنواع والأجناس. فلا يتأتى الوعي إلا لوجود تكون ماهيته عن موضوعه. العلم الإنساني هو وعي بالأجناس في حين أن الحيوان لا يدرك إلا نفسه. عند الحيوان، الحياة الداخلية والخارجية شيء واحد؛ عند الإنسان تتميز الحياة الداخلية عن الحياة الخارجية؛ الحياة الداخلية هي علاقته بجنسه وماهيته، تعـبر عن ذلك اللغة والفكر. الإنسان هو الفرد والنوع، هو الأنا والآخر. ليس الفرق بين الإنسان والحيوان في التدين فقط؛ فالدين هو الوعي باللانهائي، ومن ثم يكون وعي الإنسان بماهيته لا نهائيًا، من دون أن يكون ذلك وعيًا بموجود لا نهائي. الوعي هو الوعي باللانهائي، وهو ما يقابل الغريزة عند الحيوان، الوعي باللانهائي هو الوعي بلا نهائية الوعي، وفي الوعي باللانهائي يكون موضوع الوجود الواعي لانهائية ماهيته الخاصة. لا يحتاج الإنسان إلى آخر (غير الإنسان) يكون واعيًا به، لكي يكون واعيًا بذاته. الإنسان بلا موضوع لا يكون شيئًا، ماهية الإنسان هي جنسه، أي الإنسانية: العقل والإرادة والقلب، (المعرفة والحرية والحب). الذات بلا موضوع تكون فارغة، ولا تكون من دون آخر يؤسسها وأخرى تؤسسها؛ الذات «كون صغير» ينطوي فيه العالم الأكبر، بتعبير الشيخ ابن عربي.
إذًا، نحن بإزاء اغتراب ذاتي في الطبيعة ثم في الدين، واغتراب موضوعي في العمل ومنتجاته وفي النظام الاجتماعي والمؤسسات. هذا النوع الموضوعي من الاغتراب هو ما تندرج المواطنة فيه بصفتها إنتاجًا للنظام الاجتماعي والسياسي والمؤسسات، لا تتسق مع حرية الفرد واستقلاله وتمكنه الكياني إلا بقدر ما يتجه النمو الاجتماعي- الاقتصادي والسياسي نحو العدالة، لذلك تعد المساواة في الحريات والحقوق المدنية والسياسية، وهي تعبير عملي (قانوني وأخلاقي) عن العدالة، شرطًا لازمًا من شروط إمكان المواطنة وإمكان الوطنية. وإذ تتأسس هذه المساواة على التساوي في الكرامة الإنسانية والجدارة والاستحقاق، فإنها تتعزز بتكافؤ المعاني والقيم، الذي يفتح إمكانات المشاركة الحرة والمبدعة في إنتاج الوطن أو ابتكاره.
أما كارل ماركس فقد عرض للاغتراب في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844 التي تتركز على «اغتراب العمل» أو «استلاب العامل»، في المجتمع الرأسمالي(21). فإذ تحدث هيغل عن استلاب وعي الذات، وفيورباخ عن استلاب الإنسان المجرد غير التاريخي وغير الطبقي، فقد تحدث ماركس عن «اغتراب» العامل أو «استلابه»، وأضفى مضمونًا اقتصاديًا وطبقيًا وتاريخيًا جديدًا تمامًا على مفهوم «الاغتراب». يعني ماركس «بالاغتراب» أو «الاستلاب» العمل الذي يقوم به العامل مجبرًا للرأسمالي، وتملُّك الرأسمالي لناتج عمل العامل، وانفصال العامل عن وسائل الإنتاج، التي تواجهه- وهي في حيازة الرأسمالي- كقوة غريبة مستعبِدة. وهكذا يؤسس ماركس تحليله للاستغلال الرأسمالي، على التناقض بين العمل ورأس المال.
إن قراءة مؤلفات ماركس، من مؤلفات الشباب إلى رأس المال، تبين خطين متجادلين: أولهما إنسي أو إنساني والثاني اجتماعي (طبقي)، يمكن اعتبار الاجتماعي تعيينًا للإنساني وبسطًا له في العالم وفي التاريخ الحديث. وذلك لأنه اعتبر الملكية الخاصة نتيجة للاغتراب أو الاستلاب(22)، وهذه، أي الملكية الخاصة، هي أساس التفاوت الاجتماعي والتعارضات الطبقية، وإن افترض أن التصنيع سوف يسفر عن قسمة المجتمع فئتين رئيستين: البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج والطبقة العاملة الصناعية (البروليتاريا)، التي لا يملك أفرادها سوى قوة عملهم، التي تحولها علاقات الإنتاج الرأسمالية إلى سلعة، وتحول العمال أنفسهم إلى سلع خاضعة لقانون العرض والطلب. ولأن غايته من فلسفته كلها كانت تحرير الإنسان من جميع القيود التي صنعها بنفسه، وحذف جميع أشكال الاستلاب أو الاغتراب، وذلك بتغير الشروط الاجتماعية الاقتصادية والسياسية تغيـيرًا جذريًا، وقلب الهرم الاجتماعي الرأسمالي رأسًا على عقب، بحيث تغدو الطبقة العاملة «هي الأمة»، حسب تعبيره في البيان الشيوعي، وهي التي تحقق الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية ثم إلى الشيوعية. والشيوعية في التحليل الأخير هي حذف استلاب الإنسان واستعادة ماهيته الإنسانية وإشباع حاجاته. وفق هذه الرؤية، نعتقد أن الاغتراب أو الاستلاب ومشروع حذفه من خلال الانعتاق السياسي ثم الانعتاق الإنساني، كما شرحها ماركس في «المسألة اليهودية»، يحتلان مركز المنظومة الماركسية.
السلعة هي بطلة التاريخ الحديث، بطلة الثورة العلمية التكنولوجية والثورة الصناعية أو العصر التكنوتروني؛ السوق ميدانها والعلاقات السلعية- النقدية سلاحها، في مواجهة البنى والعلاقات والمبادئ والقيم ما قبل الرأسمالية. فهي، أي السلعة، معرفة متبلورة و«عمل متبلور»، أو متشيئ، أو فاعلية إنسانية متموضعة؛ قيمتها، التي تتعدى فائدتها الاستهلاكية، لا تظهر إلا في التبادل، فالعالم الرأسمالي، من ثم، هو عالم السلع وعمليات إنتاجها وتبادلها وتداولها واستهلاكها، قوامه العلاقات المتبادلة بين الإنتاج والاستهلاك والتبادل والتداول، التي توضع مُجتمعةً تحت عنوان «عملية الإنتاج الاجتماعي» أو «نمط الإنتاج الرأسمالي.»
فليس عبثًا أن كتاب «رأس المال»، مؤلف ماركس الأشهر، يبدأ بتحليل السلعة أو البضاعة، لاستخلاص قيمتها، وردها إلى العمل البشري المغترب والفاعلية الإنسانية الضائعة في عالم السلع، والمتحولة إلى رأس مال، ذروته الرمزية هي النقود، التي صارت معادلاً رمزيًا للعمل البشري والفاعلية الإنسانية، وقيمة اجتماعية تعلو سائر القيم. رد القيمة إلى العمل البشري يشير من البداية إلى أن نقد «نمط الإنتاج الرأسمالي» أو «التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الرأسمالية» يهدف إلى كشف العوامل الموضوعية التي تجعل الإنسان تابعًا مذلاً ومهانًا ومغتربًا عن ماهيته الإنسانية، والعمل، من ثم، على رفع هذا الاغتراب أو حذفه، بحذف أسبابه أو عوامله، وفي مقدمها الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.
لقد سبق القول إن الملكية الخاصة نتيجة من نتائج الاغتراب، وليست سببًا له؛ هذه إشكالية نظرية، نميل فيها إلى أن القوة العارية والفظة، المستمدة من الطبيعة هي سبب ظهور الملكية الخاصة، والسبب غير العلة، فلعل أول شكل من أشكال الملكية الخاصة، ملكية الأرض، هو «وضع اليد »، قبل أن تصبح الأرض الزراعية موضوعًا للتنافس والتنازع، وأساسًا لتقسيم العمل الاجتماعي، ومصدرًا من مصادر السلطة، يحتاج إلى قوة تحميه وتحافظ عليه، هي «قوة الشوكة »، إشارة إلى المصدر الطبيعي للقوة. أما علة الملكية الخاصة التي لا تفارق معلولها فهي غريزة التملك، التي نلاحظها في سلوك الأطفال. لعل البعد الغريزي للتملك يفسر كثيرًا من مظاهر العنف، المرافق للملكية الخاصة، مثل ظلها. ومن هذا القبيل تملُّك العالم بالمعرفة- العمل، الذي تندرج المواطنة في سياقه.
يقول ماركس(23): «انطلقنا من مقدمات الاقتصاد السياسي، وتقبلنا لغته وقوانينه، وافترضنا الملكية الخاصة، والانفصال بين العمل ورأس المال والأرض، وبين الأجور وربح رأس المال وريع الأرض- كما افترضنا تقسيم العمل والمنافسة ومفهوم القيمة التبادلية… إلخ، وعلى أساس الاقتصاد السياسي، وبعباراته ذاتها، أوضحنا أن العامل يهبط إلى مستوى السلعة، وأنه يصبح في الحقيقة أتعس أنواع السلع، وأن تعاسته تتناسب تناسبًا عكسيًا مع قوة وحجم إنتاجه، وأن النتيجة الضرورية للمنافسة هي تراكم رأس المال في بضعة أيدٍ، وبالتالي عودة الاحتكار في شكل أبشع. وأخيرًا إن التمييز بين الرأسمالي وصاحب ريع الأرض، تمامًا كالتمييز بين فالح الأرض وعامل المصنع، يختفي، وينقسم المجتمع كله إلى طبقتين: المُلاك والعمال الذين لا يملكون شيئًا.
الاقتصاد السياسي ينطلق من حقيقة الملكية الخاصة، لكنه لا يفسرها.
وهو يعبر بصيغ عامة ومجردة عن العملية المادية التي تمر بها الملكية الخاصة بالفعل، ثم يأخذ هذه الصيغ على أنها قوانين. فهو لا يدرك أن هذه القوانين نشأت من طبيعة الملكية الخاصة ذاتها. ولا يبني مصدر التفريق بين العمل ورأس المال، وبين رأس المال والأرض، فـإذ يحـدد العلاقة بين الأجور والربح مثلاً يجعل من مصالح الرأسماليين سببًا نهائيًا، أي إنه يأخذ ما يجب عليه أن يوضحه على أنه أمر مسلم به. وبالمثل تظهر المنافسة في كل مكان، وهي تفسر بالظروف الخارجية، أما كيف أن هذه الظروف الخارجية التي تبدو عارضة (Furtuitous) في الظاهر، ليست سوى تعبير عن المسار الضروري للتطور؛ الاقتصاد السياسي لا يعرفنا بشيء من ذلك. وقد رأينا كيف أن التبادل ذاته يبدو له حقيقة عارضة. والعجلات الوحيدة التي يحركها الاقتصاد السياسي هي التعطش للثروة والمنافسة أو الحرب بين الأطماع.
ومن هنا فإن علينا أن ندرك العلاقة الجوهرية بين الملكية الخاصة والتعطش إلى الثروة، وانفصال العمل عن رأس المال وملكية الأرض، وبني التبادل والمنافسة، والقيمة وهبوط قيمة البرش، والاحتكار والمنافسة… إلخ، أي العلاقة بين هذا الاغتراب كله وبين النظام النقدي».
إذًا ينطلق ماركس من حقيقة اقتصادية فعلية: العامل يزداد فقرًا كلا زادت الثروة التي ينتجها، وكلا ارتفعت قيمة ما ينتجه كميًا ونوعيًا يصبح سلعة أكثر رخصًا. ثمة تناسب عكسي بين عالم الأشياء وعالم البشر؛ كلما ازدادت قيمة الأول تنخفض قيمة الثاني. العمل لا ينتج سلعًا فحسب، بل ينتج ذاته، وينتج العامل مشيَّـأً، كما لو أنه سلعة. لا يعبر ذلك إلا عن حقيقة أن ناتج العمل يتحول إلى قوة مستقلة عن العمل وغريبة عن العامل، توجه حياته وتسيطر عليه. العامل الذي ينتجه العمل هو الإنسان وقد فقد ذاته في العمل الأجير.
تحقق العمل هو المنتَج أو السلعة، ومن ثم، فإن ناتج العمل هو عمل تجمد في موضوع، وأصبح ماديًا، إنه تموضع العمل (Objectification)، فتحقق العمل هو تموضعه. وفي الظروف التي يعالجها الاقتصاد السياسي يبدو هذا التموضع فقدانًا للموضوع، وعبودية له، ويبدو التملك اغترابًا (Alienation)(24).
ننقل عن ماركس(25)، بتصرف، قوله: تعبر قوانين الاقتصاد السياسي عن اغتراب العامل في موضوعه بالطريقة الآتية: كلام زاد ما ينتجه العامل قلَ ما يستهلكه، وكلما زادت القيم التي ينتجها أصبح هو أكثر تفاهة وقلة شـأن. وكلما تحسن شكل ناتجه زاد العامل تشوهًا، وكلما زادت مدنية موضوعه أصبح العامل أكثر وحشية، وكلما زادت قدرة العمل أصبح العامل أكثر عجزًا، وكلما زاد إبداع العمل أصبح العامل أكثر غباء، وازدادت عبوديته للطبيعة. هذا أحد جوانب اغتراب العامل أو استلابه، أي علاقة العامل بمنتجات عمله. لكن الاغتراب ليس اغتراب ناتج العمل عن العامل فقط، بل اغتراب في فعل الإنتاج ذاته، أو في عملية الإنتاج. فكيف يمكن للعامل أن يواجه ناتج نشاطه كما لو أنه يواجه شخصًا غريبًا لو لم يكن هو نفسه غريبًا عن ذاته في عملية الإنتاج؟ ليس الناتج، في نهاية الأمر، إلا خلاصة النشاط الإنتاجي، فإذا كان ناتج العمل هو الاستلاب فلا بد أن يكون الإنتاج نفسه استلابًا نشطًا، استلاب النشاط هو نشاط الاستلاب أو الاغتراب(26).
العمل (الأجير) خارجي عن العامل، أي إنه لا ينتمي إلى وجوده الأساسي. مع أن العمل من أبرز خصائص الإنسان، فهو أبو المعرفة والطبيعة أمها. خارجية العمل الأجير تعني أنه اضطرار لا اختيار، بل هو نوع من عبودية خفية أو مقنَّعة (وهكذا كل اضطرار)(27). فالعامل لا يؤكد ذاته في العمل الأجير بل ينكرها، لا يشعر بالارتياح، بل بالتعاسة، لا يُنمي طاقته البدنية والذهنية بحرية، بل يقتل جسده ويدمر ذهنه. ومن هنا فإن العامل يجد نفسه، ويشعر بها، خارج العمل الأجير، أما في العمل الأجير فيشعر بأنه خارج نفسه، إنه في مكانه حين لا يعمل، وحين يعمل فإنه ليس في مكانه. العمل الأجير ليس إشباعا لحاجة، وإنما هو مجرد وسيلة لإشباع حاجات العامل الطبيعية. وتبرز طبيعته الغريبة بوضوح في حقيقة إذا لم يوجد إجبار مادي أو غير مادي فإن العمال يتجنبونه كأنه الطاعون. إن العمل الخارجي، الذي يُستلب فيه الإنسان عن ذاته هو نوع من التضحية بالنفس، أو قتل النفس. وأخيرًا يبدو الطابع الخارجي للعمل في حقيقة أن العمل ومنتوجه ليسا للعامل، بل لشخص آخر. العمل لا ينتمي إلى العامل، ومن ثم فإن العامل لا ينتمي إلى نفسه، في أثناء العمل، بل ينتمي إلى آخـر. اغتراب العامل في العمل يشبه اغتراب الإنسان في الدين، لأن العامل لا ينتمي إلى نفسه في الحالين. وفي النتيجة، لا يشعر العامل بنفسه أنه يتصرف بحرية إلا في وظائفه الحيوانية: الأكل والشرب والتكاثر وعلى أكثر تقدير في مسكنه وملبسه… إلخ، أما في وظائفه الإنسانية فإنه لا يعود يشعر إلا بأنه حيوان، فما هو حيواني يصبح إنسانيًا، وما هو إنساني يصبح حيوانيًا. فحين يغترب الإنسان عن الطبيعة وعن ذاته، عن وظائفه النشطة، عن نشاط حياته، إنما يغترب عن حياته النوعية وماهيته الإنسانية.
الاقتصاد السياسي لا يعترف بالعامل الذي لا يشتغل، لا يعترف بالإنسان، ما دام الإنسان خارج علاقة العمل. فالغشاش اللص والوغد والشحاذ والمتعطل، والعامل المتضور التعس والمجرم، هؤلاء الأشخاص غير موجودين في نظر الاقتصاد السياسي، إنهم لا يوجدون إلا في نظر الطبيب والقاضي وحافر القبور وحارس السجن… إلخ. هؤلاء الأشخاص أشباح خارج مجال الاقتصاد السياسي(28). وهكذا فإن احتياجات العامل ليست سوى حاجة واحدة، هي صيانته في أثناء العمل إلى الحد الضروري للحيلولة دون فناء جنس العمال. وهكذا فإن لأجر العمل معنى صيانة أي أداة إنتاجية أخرى، أو استهلاك رأس المال اللازم لتجدد إنتاجه بفائدة، أو الزيت الذي تدهن به العجلات لتظل تدور. ومن هنا فإن الأجور تنتمي إلى نفقات رأس المال والرأسمالي الضرورية، وينبغي ألا تتجاوز حدود هذه الضرورة. نعتقد أن هذه الرؤية الكالحة للاقتصاد السياسي، أخفت منجزات النهضة والتنوير وبزوغ الإنسانوية، التي ينتمي إليها ماركس نفسه، وظهور الإنسانيات أو العلوم الإنسانية، علاوة على منجزات الثورة الديمقراطية.
ويستأنف ماركس كلامه قائلاً: وفي الموقف من المرأة، التي ينظر إليها على أنها غنيمة وخادمة للشهوة الجماعية، ينعكس الانحطاط اللانهائي الذي يوجد فيه الإنسان لذاته، لأن سر هذا الموقف يجد تعبيره الجلي القاطع الواضح غير المقنَّع في علاقة الرجل بالمرأة، وفي الطريقة التي يتم بها تصور علاقة التكاثر المباشرة، الطبيعية، فالعلاقة المباشرة والطبيعية والضرورية بين شخص وشخص هي علاقة الرجل بالمرأة. في هذه العلاقة الطبيعية تكون علاقة الإنسان بالطبيعة هي مباشرة علاقته بالإنسان، تمامًا كما أن علاقته بالإنسان هي مباشرة علاقته بالطبيعة، بوظيفته الطبيعية الخاصة. ومن هنا يتجلى في هذه العلاقة المدى الذي أصبحت فيه ماهية الإنسان طبيعة للإنسان، وقد غدت واقعة محسوسة، يمكن ملاحظتها، أو المدى الذي أصبحت فيه طبيعة الإنسان هي ماهيته الإنسـانية.
اغتراب الإنسان وتغريبه، في نظر هذه الدراسة، وجهان لسيرورة تاريخية مستمرة ومتجددة، ووجهان لظاهرة مركبة ومعقدة أشد ما يكون التركيب والتعقيد، رافقت البشرية في جميع مراحل تطورها، منذ بواكير الثورة الزراعية ونشوء الملكية الخاصة للأرض ووسائل الإنتاج، حتى يومنا، بل لعلها ترجع إلى اختراع الأدوات. وقد تولدت منها ظاهرات لا تقل عنها تعقيدًا، من أهمها الخرافات والأساطير والعقائد الدينة والملكية الخاصة والسلطة، التي شكلت كلها نسيج العالم، ولا تزال ماثلة في المعيش اليومي، على سطح الكوكب، وتعيد إنتاج ذاتها، في ثنايا عمليات «إعادة الإنتاج »، في جميع البلدان والدول، بلا استثناء، وإن بحدود متباينة قليلاً أو كثيرًا، بل لعلها الخلفية المادية واللامادية لهذه العمليات. لذلك تكتسي دراسة الاغتراب وجلاء غوامضه أهمية خاصة. فإن الاغتراب، بما هو قسمة مشركة بن المجتمعات والأمم والشعوب، يقدم لنا منظورًا كونيًا للظاهرات والمسائل والمشكلات المحلية، أو الوطنية، ويفتح إمكانية البحث العلمي المقارن بين التجارب الإنسانية المختلفة، على نحو يستبعد أي شكل من أشكال المفاضلة؛ إذ المفاضلة لا تكون إلا بين الشروط التاريخية الموضوعية للتجارب الإنسانية، لا بين التجارب الإنسانية بذواتها، ولا بين الثقافات بذواتها؛ لأن البشر يتوفرون على استعدادات وملكات متساوية وقابليات متساوية، ولا سيما قابلية التحسُّن الذاتي المشروطة بالقدرة على تحسن العالم، عالم الإنسان، الذي هو من صنع الإنسان أو من عمل رأسه ويديـه.
إن معالجة المسائل والمشكلات المحلية والوطنية من زاوية الاغتراب ليست محاولة للإمساك بالمسائل والمشكلات الاجتماعية- الاقتصادية والمعرفية والثقافية والسياسية والأخلاقية من جذورها فقط، بل هي محاولة تتسق مع صيرورة العالم «قريةً كونيةً صغرة»، إذ لم يعد من اليسر لا فض اشتباك أوضاعها الاجتماعية- الاقتصادية والمعرفية والثقافية والسياسية والأخلاقية، ولا درء الأخطار المحدقة بالحياة الإنسانية، على سطح الكوكب، بصورة أفرادية، في كل دولة على حـدة.
هذا المدخل، الذي نقترحه لدراسة المسائل والمشكلات الوطنية السورية وغير السورية بالتساوي، يفرض مشاركة السوريات والسوريين لا في إنتاج الوطن السوري والدولة الوطنية، الجمهورية السورية، فقط، بل يفرض مشاركتهم/ ــن في إنتاج النظام العالمي ونسق العلاقات الدولية، على قدم المساواة مع بقية الأمم والشعوب، فإن الكونية الإنسانية هي أفق الوطنية الديمقراطية، لأن عناصرها، أي عناصر الكونية الإنسانية ماثلة في جميع تجارب الأمم وثقافاتها، لا بحكم كونية الفرد الإنساني وكليته فقط، بل بحكم كلية الاغتراب وشموله، وكلية الظاهرات التي تولدت منه وشمولها، مما يؤكد وحدة المنطلق ووحدة المصير، مها اختلفت المسارات وتباينت. فإن جميع التجارب الإنسانية المختلفة منسوجة من خيوط الأفكار والتصورات والخرافات والأساطير والعقائد الدينية والملكية الخاصة والسلطة، إلى جانب العمل والفاعلية والإنتاج الاجتماعي، بما في ذلك إنتاج الآداب والعلوم والفنون. وأن وحدة المعرفة والعمل، أو وحدة المعرفة والأخلاق(29)، تقبع في أساس التجارب والثقافات الإنسانية جميعًا. فالمغزى العميق لفكرة «تملك العالم بالمعرفة- العمل»، قل بالمعرفة- الأخلاق، هو نقل خصائص الإنسان وانتقالها إلى مواضيع فكره وعمله ومجالات نشاطه وفاعليته، في سيرورة إنتاج المجتمع والدولة، التي لا تفتر ولا تنتهي، وكل إنتاج هو تملُّـُك.
كل إنتاج هو تملك؛ ذلكم هو مبدأ «النشوء والارتقاء الاجتماعين- الإنسانيين»، إذا جاز القياس على مبدأ النشوء والارتقاء الطبيعي، الحيوي أو البيولوجي، أولاً؛ وذلكم هو مبدأ مشاركة الإنسان في الوجود ثانيًا؛ وذلكم هو مبدأ الاغتراب، ونزع الملكية أو الاستيلاء عليها، أو سيرة حياة الحرية، بصفتها الماهية الجوهرية للإنسان، ثالثًا. هذه ثلاثة وجوه لقضية واحدة، هي سيرة حياة النوع البـشري.
يحيلنا هذا المبدأ على مفهوم إنتاج العالم، عالم الإنسان، ومن ذلك إنتاج الوطن أو ابتكاره، ويحيلنا مفهوم إنتاج العالم على مبدأ الإنسان الخالق، الذي يخلق عالمه بنفسه، على صورته ومثاله، أو الذي ينتج عالمه بنفسه، ولا فرق، والذي يصنع تاريخه بنفسه، في مقابل مبدأ الإنسان المخلوق، الذي لا يزال يشكل أساس المعرفة- العمل، أو المعرفة- الأخلاق، إلى يومنا وساعتنا. «الإنسان المخلوق» هو نفسه الإنسان الذي أشكل عليه الإنسان، حسب أبو حيان التوحيدي، أو هو الإنسان الذي ليس بعد، الإنسان المُغرَّب والمغترب عن ذاته وعن ماهيته، والذي تسيطر عليه مخلوقاته، الإنسان الذي انتزعت منه حريته، ماهيته، إنسانيته، أو تخلى عنها. ذلكم هو الطابع الثوري والمضمون الثوري للاغتراب. وعليه نعتقد أن الثورة الكوبرنيكية الثانية في المعرفة لم تحدث بعد، ولكن إرهاصاتها ماثلة في المجتمعات المتقدمة، التي تعيد تنظيم حياتها، في أفق العدالة، وفق الكشوف العلمية الأحدث والخيارات الديمقراطية. ولعل تدشين الثورة الكوبرنيكية الثانية في المعرفة- الأخلاق(30) هو الاعتراف المبدئي والنهائي بمبدأ الإنسان الخالق، وانطلاق سيرورة الإنسان- الإنسان، أي انطلاق سيرورة الحرية بالتضاد مع جميع أشكال العبدية والعبودية والتبعية، وكف يد بروميثيوس عن سرقة أسرار الآلهة باعتبار جميع كنوز الآلهة وأسرارها كنوزًا بشرية وأسرارًا بشرية. لم يكن بروميثيوس سوى وسيط وهمي بين الإنسان وذاته، بين وجود الإنسان وماهيته، الثورة الكوبرنيكية في المعرفة- الأخلاق هي استعادة الإنسان لذاته وإلغاء وساطة بروميثيوس ووصاية السـماء.
وإلى ذلك، إن المدخل الذي نقترحه لدراسة الأوضاع المحلية، من زاوية نظر الاغتراب، يفرض ما يمكن، بل أقصى ما يمكن من النزاهة العلمية، والشجاعة الفكرية في تسمية الأشياء بأسمائها المتفق عليها إنسانيًا، لا سيما أنه يفتح الباب لدراسة الخرافات والأساطير والعقائد الدينية والملكية الخاصة والسلطة ونقدها، وهي من أكثر المسائل حساسية وخطورة، لم يقتحمها المفكرون العرب بالشجاعة اللازمة والنزاهة العلمية اللازمـة.
يعلمنا الاغتراب مفهومًا وواقعًا ومآلاً أن الوطنية الديمقراطية المفتوحة على المستقبل هي مسعى متصل لاستعادة الذات المغتربة، من طريق المواطنة المتساوية، بما هي، أي المواطنة المتساوية، أول تعبير عملي عن العدالة، وخطوة حاسمة في الطريق إلى العدالة الاجتماعية والانعتاق الإنساني، بلغة ماركس.
هوامش:
(13). يبدو لي أن الاعتدال والتسامح والتشارك الخلاق والإبداع والابتكار … إلخ، كلها مرهونة بالسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي. هذا يشير إلى ضرورة وضع مسألة السلم الاجتماعي والسلم العالمي، وهما متشارطان ومتكاملان، في مركز التفكير وفي صلب إستراتيجيات التنمية والتقدم، فيكون الاستقرار السياسي نتيجة مؤكدة.
(14). استعرنا مفهوم الضغينة أو الحقد من الكاتب الهولندي، “مينو تير براك”، في كتيب نشره عام 1937 تحت عنوان: «النازية كعقيدة حقد »، وترجمه إلى العربية مصطفى عبد الظاهر، وصدر عن دار صفصافة، بلا تاريخ نشر.
(15). لكي يكون الله موجودًا عليه أن يتجلى. فكرة التجلي فكرة سيدة في المذاهب الباطنية والصوفية. لقد اعتبر هيغل أن المسيحية حققت وحدة المعرفة والوجود، وجسدتها في شخص المسيح.
(16). للتوسع في هذا الموضوع، راجع/ي، هيغل، المكتبة الهيغلية، المجلد الثاني، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1996، ص 112 وما بعدها.
(17). كان الياس مرقص يكرر قوله: «من ليس في فكره وفي روحه المطلقُ، يحول نسبيَّه إلى مطلق، وذلكم هو الاستبداد». الاستبداد، وفق هذه الرؤية، هو اعتبار الحقائق النسبية حقائق مطلقة وفرضها على الجماعة أو المجتمع بالعسف والإكراه، دينية كانت هذه «الحقائق» أم «قومية» أم طبقية أم حزبية.
(18). التضايف/ في النص، يعني علاقة ديناميكية بين نقيضين، كل تغير يطرأ على أي منهما يؤثر في الآخر، مهما كان التغير طفيفًا.
(19). يزود العلماءُ روادَ الفضاء برسائل مشفرة لكائنات مفترضة على الكواكب الأخرى.
(20). فويرباخ، أصل الدين، دراسة وترجمة، أحمد عبد الحليم عطية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1991، ص 42 وما بعدها (بتصرف).
(21). كارل ماركس، المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844، ترجمة محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، بلا تاريخ، ص 40 وما بعدها.
(22). يستعمل المترجمون العرب عدة كلمات مقابل كلمة alienation منها الاستلاب والضياع على أنها مرادفة للاغتراب.
(23). استندنا في عرض وجهة نظر ماركس في الاغتراب على كتاب «المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام»1844، ترجمة محمد مستجير مصطفى. دار الثقافة الجديدة، القاهرة، بلا تاريخ نشر، ص 67 وما بعدها، بتصرف في الصياغة.
(24). لعل أحد ألغاز الدراما البشرية ينحل في واقع أن الاغتراب بصفته تملكًا للعالم بالمعرفة- العمل، وتذويتًا للطبيعة وامتلاء للذات، هو التملك بصفته اغترابًا في الملكية الخاصة والسلطة/ السلطات، التي تعيِّنها، وما ينجم عنها، أي عن الملكية الخاصة، من خيرات وشرور، ولا سيما ما ينجم عنها من تنافس وتنازع وغزوات وحروب وهجرات. على هذا، لا تبدو الحروب قاطراتِ التاريخ، بل يبدو التملك قاطرتَه الرئيسة.
(25). كارل ماركس، مخطوطات كارل ماركس لعام 1844، ترجمة محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، بلا تاريخ نشر، ص 68 وما بعدها.
(26). التوقف مليًا عند هذه الفقرة وما يليها وإعمال الفكر فيها قد يكشف عن مفارقة لافته في منظومة ماركس، إذ كيف يمكن الركون إلى نظام اجتماعي- اقتصادي وسياسي وثقافي وأخلاقي، تقوده طبقة هذه أحوالها الناتجة من شروط تشكلها واغترابها في العمل وفي عملية الإنتاج الاجتماعي واغترابها عن ذاتها؟!
(27). لذلك أكدنا غير مرة، وفي غير مكان أن المواطنة لا تكون إلا اختيارًا حرًا، لا قسًرا ولا اضطرارًا. هذا الاختبار الحر هو القاعدة التي ينهض عليها حق تقرير المصير. وحق تقرير المصير شرط لازم لمواطنة متساوية.
(28). هذي صورة كالحة للنظام الرأسمالي، وللحياة الاجتماعية- الإنسانية في ظل هذا النظام، تشي بتصور أن زمن الثورة الصناعية، لكي لا نقول عصر الثورة الصناعية، زمن قصير ومحدود باقتدار البروليتاريا على تقويض النظام، وإقامة نظامها الاشتراكي ثم الشيوعي. ولما كان الإنسان ينتج ذاته في العالم، فينتج، من ثم، عالمه على صورته ومثاله، فالنظام الاشتراكي، وفقًا لما تقدم، سيكون على صورة البروليتاريا ومثالها.
(29). ننطر إلى العمل الإنساني على أنه مستغرَق في الأخلاق، تابع لها، وملون بألوانها، لا العكس، وهذا ما يميزه من عمل الحيوان وعمل الطبيعة. الإنسان كائن أخلاقي، أو ذو طبيعة أخلاقية، تتجلى في إيثاره الحرية والمساواة والعدالة، وتعلقه بقيم الخير والحق والجمال.
(30). نستعمل تركيب المعرفة-الأخلاق مرادفًا لتركيب المعرفة- العمل، لأن الأخلاق هي الموجه الرئيس للعمل البشري، ولا تدرك إلا في سياقه، وهي التي تحدد غايته أولاً، ولأن العمل البشري هو عمل اجتماعي ثانيًا، والمجتمع بنية أخلاقية رمزية وعلائقية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع.. الحلقة الثالثة: الانعتاق السياسي
«جاد الكريم الجباعي»: مفكر سوري، مجاز في علوم اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق، مهتم بالفلسفة المدنية وقضايا الديمقراطية والمجتمع المدني والدولة الوطنية وحقوق الإنسان والمواطن، له عشرات المقالات والأبحاث والدراسات والكتب.
التعليقات مغلقة.