الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

“مجموعة الأزمات”: 2022 ماذا يحمل إلينا دولياً؟

منى فرح *

في تقريرها السنوي الذي يترقب ما سيحمله العام الجديد، حددت “مجموعة الأزمات الدولية” عشرة نزاعات تستحق المشاهدة والمتابعة في العام 2022 هي الآتية: أوكرانيا، أثيوبيا، أفغانستان، الولايات المتحدة والصين، إيران ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، اليمن، “إسرائيل” ـ فلسطين، هاييتي، ميانمار، حرب العصابات الإسلامية في أفريقيا. هذا التقرير الذي أهمل لبنان كلياً استناداً إلى تقدير بأن أزمته الراهنة لا تشكل خطراً على الأمن القومي العالمي!

مقدمة التقرير:

لم تتسبب الاضطرابات والأحداث التي شهدناها في العام 2021 – من الولايات المتحدة إلى أفغانستان وإثيوبيا، ومناطق أخرى من العالم، مروراً بحالة الطوارئ المناخية التي يفرضها الاحتباس الحراري – في سقوط كثير من القتلى، ولا نشوب معارك طاحنة. ومع ذلك، تُنبئ القراءات المستقبلية لما سيحمله العام 2022 بأن الأوضاع ستزداد سوءاً في أنحاء مختلفة من العالم.

فبعد عام شهد هجوماً على مبنى “الكابيتول” الأميركي، وإراقة دماء مروعة في إثيوبيا، وانتصار حركة طالبان في أفغانستان، ووقوع مواجهات جدّية بين القوى العُظمى بخصوص أوكرانيا وتايوان.. ووسط تضاؤل النفوذ الأميركي على الساحة الدولية، ونشوء أزمة صحية عالمية بسبب جائحة كوفيد-19، وتسارع التحديات التي يفرضها الاحتباس الحراري وحالة الطوارئ المناخية.. إلخ، يمكن القول إن العالم يميل وبطريقة غير انضباطية بعيداً عن مساراته الطبيعية.

ومع ذلك، قد يُجادل البعض بأن الأمور أفضل مما تبدو عليه.

فبرغم كل شيء، ووفقاً لبعض المقاييس، فان حالة الحروب في العالم تراجعت. ومنذ العام 2014 انخفض عدد القتلى الذين كانوا يسقطون جراء المعارك في أنحاء مختلفة من العالم، بحسب برنامج “أوبسالا”(https://ucdp.uu.se/downloads/charts/) المتخصص في جمع البيانات عن الصراعات. ويرجع ذلك في الغالب؛ على وجه الخصوص؛ (أيضاً بحسب برنامج “أوبسالا”)، إلى تراجع حدّة المعارك والمذابح المروعة التي كانت تحدث في سوريا خلال سنوات الحرب الأولى.

كذلك انخفض عدد الحروب الكبرى. فبغض النظر عن التهديدات الصادرة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا، إلَّا أن الدول لم تعد تخوض حروباً مباشرة ضد بعضها البعض. صحيح أن صراعات محلية تحتدم هنا وهناك، وأكثر من أي وقت مضى، لكنها صراعات غير حادّة. فأغلب حروب وصراعات القرن الحادي والعشرين هي أقل فتكاً من سابقاتها التي وقعت في القرن العشرين.

أضف إلى ذلك، أن الولايات المتحدة الأكثر حذراً اليوم ولهذا جانبٌ ايجابيٌ أيضاً. فموجات إراقة الدماء في كل من البوسنة ورواندا والصومال خلال فترة التسعينيات من القرن العشرين؛ وحربا أفغانستان والعراق بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر؛ وحملات القمع والقتل التي شنتها سريلانكا ضد التاميل؛ وانهيار ليبيا وجنوب السودان.. كل هذا وأكثر حدث في ظلّ سيطرة الغرب وتحت قيادة الولايات المتحدة. إن امتناع رؤساء الولايات المتحدة مؤخراً عن خيار إسقاط “الأعداء” بالقوة هو أمرٌ جيدٌ. صحيح أنه لا ينبغي المبالغة في تقدير نفوذ واشنطن حتى وهي في ذروة استفرادها بالهيمنة ما بعد الحرب الباردة؛ غير أن عدم قيامها بغزوات لم يمنعها من جعل كثير من القادة المتمردين يذعنون لإرادتها، والزعيم السوداني السابق عمر البشير خير مثال على ذلك.

ومع كل هذه “الايجابيات”، فإن الجزء الممتلئ من الكأس لا يكفي لنشر الأمل والتفاؤل بأن الآتي أفضل.

فالقتلى الذين يسقطون في المعارك ما هم سوى جانب واحد من قصص الحروب والمعارك. فعدد الذين يفقدون حياتهم في ظل الصراع الدائر في اليمن؛ ومعظمهم من النساء والأطفال؛ بسبب الجوع أو الأمراض، أكثر بكثير من عدد الذين يفقدون حياتهم بسبب أعمال العنف والقتال المسلح. وهناك ملايين الإثيوبيين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد بسبب الحرب الأهلية الدائرة في البلد. كما أن القتال الدائر في أماكن مختلفة من أفريقيا يدفع بملايين الأشخاص إلى النزوح عن منازلهم مما يتسبب في معاناة إنسانية لا تقل فداحة عن سقوط آلاف القتلى في كثير من الأحيان.

صحيح أن مستويات أعمال العنف في أفغانستان انخفضت بشكل كبير منذ استيلاء حركة طالبان على السلطة في آب/أغسطس، لكن المجاعة التي سببتها في الغالب السياسات الغربية قد تؤدي إلى موت عدد كبير من الأفغان – بما في ذلك ملايين الأطفال – مقارنة بالعقود الماضية التي كانت فيها البلاد تشهد معارك وقتالاً وتتعرض لقصف جوي وبري. في جميع أنحاء العالم، وصل عدد النازحين، ومعظمهم بسبب الحروب، إلى مستويات قياسية. بعبارة أخرى، قد ينخفض عدد القتلى في المعارك، لكن المعاناة الإنسانية بسبب الصراعات المستمرة لن تنتهي.

علاوة على ذلك، تتنافس الدول بضراوة حتى عندما لا تتقاتل بشكل مباشر. فهم يخوضون منافسات شرسة ضد الهجمات الإلكترونية، وحملات التضليل الإعلامي، والتدخل في الانتخابات، والاحتكار الاقتصادي، وكذلك من خلال استغلال المهاجرين. وفي كثير من الأحيان تتنافس القوى العظمى والإقليمية على النفوذ من خلال حلفاء محليين في مناطق النزاع. الحرب بالوكالة لم تؤد حتى الآن إلى مواجهة مباشرة بين الدول المتورطة. في الواقع، يتعامل البعض مع الخطر ببراعة. مثلاً:  تحافظ روسيا وتركيا على علاقات ودّية فيما بينهما على الرغم من دعمهما للأطراف المتنافسة في الصراعين السوري والليبي. ويبقى أن التورط الأجنبي في النزاعات يؤدي إلى تفجير الخلافات المحلية بشكل مدمر.

المواجهات التي تشمل القوى الكبرى تبدو خطيرة بشكل متزايد. فقد يراهن بوتين، مثلاً، على نجاح توغل روسي آخر في أوكرانيا. المواجهة المباشرة بين الجيشين الصيني والأميركي بسبب تايوان غير مرجحة في عام 2022، ولكن مخاطر التصعيد ضد بعضهما مستمرة حول الجزيرة وفي بحر الصين الجنوبي. إذا انهار الاتفاق النووي الإيراني، وهو ما يبدو الآن محتملاً، فقد تحاول الولايات المتحدة أو إسرائيل، مع بداية العام 2022، تدمير المنشآت النووية الإيرانية، وعلى الأرجح هذا سيدفع طهران للانطلاق نحو مزيد من التسلح وتوسيع تدخلاتها في جميع أنحاء المنطقة. بعبارة أخرى، يمكن لحادث مؤسف أو سوء تقدير واحد أن يتسبب بعودة الحروب بين الدول.

وبغض النظر عن الآراء بخصوص تقييم نفوذ الولايات المتحدة وهيمنتها، والقول أن تراجع هذا النفوذ والهيمنة أيضاً يجلب المخاطر، من منطلق أن الأميركيين وحلفائهم أداروا الشؤون الدولية لعقود طويلة. لا ينبغي المبالغة في توصيف التدهور الحاصل: فالقوات الأميركية لا تزال منتشرة في جميع أنحاء العالم، وحلف شمال الأطلسي (الناتو)  ما يزال صامداً، كما أن دبلوماسية واشنطن الأخيرة في آسيا تُظهر أنه لا يزال بإمكان واشنطن تنظيم تحالفات لا مثيل لها. ولكن مع وجود الكثير من التقلبات، يبحث خصوم واشنطن عن المدى الذي يمكن أن يصلوا إليه.

أخطر النقاط الساخنة اليوم – سواء أكانت أوكرانيا أو تايوان أو المواجهات مع إيران – هي نتيجة تنافس القوى العظمى من أجل إيجاد توازن دولي جديد. الخلل الوظيفي في الولايات المتحدة بالكاد يساعد. انتقال القوة العالمية تتطلب الهدوء والقدرة على التنبؤ بالمضاعفات، وليس تبني انتخابات مشحونة وسياسات تتأرجح من إدارة إلى أخرى.

أما بالنسبة لجائحة كورونا، فقد تسببت بتفاقم أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم، وزيادة عدد الفقراء، وارتفاع تكاليف المعيشة، واتساع هوة عدم المساواة، وانتشار البطالة التي تغذي الغضب الشعبي. كان للجائحة يدٌ في العام الماضي في الاستيلاء على السلطة في تونس، وانقلاب السودان، والاحتجاجات في كولومبيا. الضرر الاقتصادي الذي تلحقه الجائحة يمكن أن يجر بعض البلدان إلى نقطة الانهيار. وإلى جانب ما شاهدناه وعايشناه بسبب الجائحة، من سخط واحتجاج، وأزمات صحية واقتصادية واجتماعية وغير ذلك، إلَّا أن أسوأ تداعيات انتشار هذا الوباء سنعيشها في المستقبل.

لذا، وفي حين أن النزاعات والصراعات المنتشرة هنا وهناك، وبرغم أنها لا ترقى لمستوى الحروب التي كنا نشهدها ولا تتسبب في سقوط عدد كبير من القتلى والضحايا، غير أن الأمور لا تزال سيئة أكثر مما تبدو عليه. وقائمة التوقعات التي تنتظرنا هذا العام تبدو صارخة للغاية، ومن الممكن جداً أن تزداد سوءاً.

أولاً؛ الولايات المتحدة والصين:

بعد وقت قصير من انسحابها من أفغانستان، أعلنت الولايات المتحدة عن إبرام اتفاقية جديدة مع أستراليا والمملكة المتحدة لمواجهة الصين. ستساعد الإتفاقية، المعروفة باسم AUKUS، كانبرا في الحصول على غواصات تعمل بالطاقة النووية. لقد كان توضيحاً صارخاً لتطلعات واشنطن للانتقال من محاربة المتشددين الإسلاميين إلى سياسات القوى الكبرى وردع بكين(https://foreignpolicy.com/2021/09/24/china-aukus-submarines-defense/).

في واشنطن، واحدة من الآراء القليلة المشتركة هي أن الصين “خصم” لا يرحم ولا يمكن الهوادة معه. ويرى قادة الولايات المتحدة أن التعاون مع الصين طوال العقود الماضية ساهم في خلق وتمكين “منافس” يستغل الهيئات والقواعد الدولية من أجل تحقيق غاياته ومصالحه الخاصة، ويقمع المعارضة في هونغ كونغ، ويرتكب ممارسات فظيعة في شينغ يانغ، ويتنمر على جيرانه الآسيويين. المنافسة مع الصين أصبحت مبدأ يتحكم بسياسة الولايات المتحدة اليوم.

إن استراتيجية الرئيس الأميركي جو بايدن تجاه الصين، وإن لم يتم توضيحها بدقة(https://foreignpolicy.com/2021/12/19/biden-china-russia-crimea-pentagon-hard-power-national-security-strategy/)، تستلزم إبقاء الولايات المتحدة قوة مهيمنة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، حيث تضخمت القدرة العسكرية لبكين. ويبدو أن بايدن يرى أن تكاليف التفوق الصيني الإقليمي أكبر من مخاطر المواجهة. بشكل ملموس، كان هذا يعني تعزيز التحالفات والشراكات الأميركية في آسيا بالإضافة إلى رفع أهمية أمن تايوان بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة. كما أن كبار المسؤولين الأميركيين يدلون بتصريحات قوية تدعم المطالبات البحرية لدول جنوب شرق آسيا في بحر الصين الجنوبي.

بكين، من جهتها، ترى الأشياء بطريقة مختلفة. القادة الصينيون، وبعد أن كانوا يأملون في البداية في تحسين العلاقات مع واشنطن في عهد بايدن، أصبح قلقهم منه أكبر مما كان قلقهم بشأن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي كانوا يتأملون أن يكون حالة شاذة. فقد أعرب القادة الصينيون عن خيبة أملهم من قرار بايدن عدم التراجع عن الرسوم الجمركية ورفع العقوبات، وكذلك من الجهود التي يبذلها من أجل تعبئة دول أخرى ضد بكين. كما أنهم بدأوا يتراجعون عن خطاباتهم حول الديموقراطية وحقوق الإنسان، من منطلق أنها خطابات إيديولوجية رنَّانة لا معنى لها سوى إثارة إعجاب الناس في حين أن المقصود هو استهداف شرعية حكومتهم.

من حيث الجوهر، تطالب بكين بمنطقة نفوذ يكون فيها جيرانها سياديين ولكن محترمين. فهي تنظر إلى أن بسط هيمنتها على سلسلة الجزر الأولى- التي تمتد من جزر الكوريل، بعد تايوان، وإلى بحر الصين الجنوبي – مصلحة حيوية لضمان نموها وأمنها وتحقيق طموحها بأن تصبح قوة بحرية عالمية.

على مدار العام الماضي، وبينما لم تتنصل بكين من سياسة “إعادة التوحيد السلمي” الرسمية، صعَّدت من نشاطها العسكري بالقرب من تايوان، حيث أجرت بالقرب من الجزيرة تدريبات عسكرية بالذخيرة الحية مع تحليق لطائراتها الحربية. هذا النفوذ العسكري والحزم الصيني المتزايدين أثارا(https://foreignpolicy.com/2021/11/08/us-taiwan-military-presence-china-biden-porcupine/) المزيد من التشاؤم والمخاوف لدى واشنطن بشأن قدرة بكين على مهاجمة تايوان.

الاجتماع الافتراضي(https://www.whitehouse.gov/briefing-room/statements-releases/2021/11/16/readout-of-president-bidens-virtual-meeting-with-president-xi-jinping-of-the-peoples-republic-of-china/)، الذي جرى في تشرين الثاني/نوفمبر بين بايدن ونظيره الصيني شي جين بينغ، أدى إلى التخلص من الخطاب الفاتر الذي كان سائداً بين البلدين في الأشهر السابقة. ومن الممكن أن يشجع على المزيد من التعاون والعمل المشترك، بما في ذلك استئناف الحوارات الدفاعية. في عام 2022، ومع دورة الألعاب الأولمبية الشتوية المرتقبة في بكين (شباط/فبراير)، والمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني (الخريف المقبل)، وانتخابات الكونغرس النصفية الأميركية (تشرين الثاني/نوفمبر)، فإن كلا الجانبين قد يرغبان في جبهات هادئة في الخارج، حتى لو كانا يهزان العصا للجماهير في الداخل. أما السيناريو الكابوس؛ أي محاولة صينية للاستيلاء على تايوان، وبالتالي اضطرار الولايات المتحدة للدفاع عن تايبيه؛ فإنه غير مرجح في الوقت الراهن.

ومع ذلك، فإن التنافس بين العملاقين يلقي بظلاله على الشؤون الدولية، ويزيد من الأخطار عبر نقاط مشتعلة في شرق آسيا. فبكين ترى فوائد ضئيلة في التعاون في قضايا مثل تغير المناخ عندما تضع واشنطن إطاراً للعلاقة على أنها تنافسية. وعلى طول سلسلة الجزر الأولى، كانت الأمور مخيفة بشكل خاص. فالطائرات الحربية التي تحلق هنا وهناك في أجواء تايوان، على سبيل المثال، أو السفن الحربية التي تتجاور وهي تعبر المسارات في بحر الصين الجنوبي.. باتت المشاهد الأكثر شيوعا. وبالتالي، وقوع أي حادث، مهما كان صغيراً، سيؤدي حتماً إلى التصعيد والتوتر.

عندما اصطدمت الطائرات الأميركية والصينية في عام 2001، خلال فترة من الهدوء النسبي بين واشنطن وبكين، استغرق الأمر شهوراً من الدبلوماسية المكثفة لحل الخلاف ومنع الانزلاق نحو التصعيد والمواجهة المباشرة. اليوم، سيكون الأمر أكثر صعوبة، ومخاطر أي تصعيد أكبر بمرات ومرات.

ثانياً؛ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.. المطلوب حلول واقعية:

شهد العام 2021 حرباً بين قطاع غزة وإسرائيل، هي الرابعة خلال ما يزيد قليلاً عن عقد من الزمن، والأعنف والأكثر خطورة طوال تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. وهذا يوضح مرة أخرى أن عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين ميتة وأن احتمال تنفيذ حل الدولتين يبدو اليوم أقل من أي وقت مضى.

كانت القدس الشرقية المحتلة هي نقطة تفجير المواجهات الأخيرة وسرّ هذا التصعيد الكبير. فقد تزامنت الإجراءات التعسفية التي مارستها الحكومة الإسرائيلية، في نيسان/أبريل 2021، من أجل تنفيذ مخططها “إخلاء حي الشيخ جرَّاح من سكانه الفلسطينيين” مع المواجهات العنيفة التي جرت خلال شهر رمضان في مجمع الحرم القدسي الشريف (الذي يضم أيضاً ما يقول الإسرائيليون إنه حائط الهيكل المقدس عند اليهود) بين شبّان فلسطينيين استخدموا الحجارة وبين عناصر شرطة الاحتلال الذين بالغوا في استخدام شتى أنواع القوة المميتة.

أدى ذلك إلى سلسلة من ردود الفعل. أطلقت حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، التي تسيطر على قطاع غزة، صواريخ بعيدة المدى بشكل عشوائي على إسرائيل. وردت إسرائيل بشن هجوم جوي عنيف. استمرت المواجهات 11 يوماً، سقط خلالها أكثر من 250 قتيلاً، جميعهم فلسطينيون تقريباً، وتعرضت البنى التحتية المدنية في غزة لدمار هائل وخسائر فادحة. وفي مناطق الضفة الغربية، كان الفلسطينيون المدنيون، الذين تظاهروا احتجاجاً على العدوان الإسرائيلي وتضامناً مع غزة، يواجهون الرصاص الحي من قبل جيش الاحتلال بصدور عارية. وفي المدن الإسرائيلية أيضاً، نزل المواطنون الفلسطينيون إلى الشوارع للتعبير عن احتجاجهم وتضامنهم مع إخوانهم في غزة والضفة، واشتبكوا مع مستوطنين وعناصر من اليهود اليمينيين تدعمهم الشرطة الإسرائيلية.

وفي حين أن مثل هذه المواجهات والعدوان تُعتبر أحداث مألوفة في الاراضي الفلسطينية، غير أن الأحداث الأخيرة حملت تطورات جديدة وبارزة جداً بمقاييس مختلفة. للمرة الأولى منذ عقود، تتوحد انتفاضة الفلسطينيين- وفي وقت واحد-  في مناطق الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة وحتى داخل المدن الإسرائيلية نفسها. ومن اللافت للنظر أيضاً كان الجدل الذي عمَّ العواصم الغربية، ولا سيما واشنطن. فقد استخدم الديموقراطيون، بما في ذلك شخصيات رئيسية بارزة، لغة صارمة بشكل غير عادي تدين القصف الإسرائيلي لغزة، ما يشير إلى أن وجهات نظر الحزب الديموقراطي حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي آخذة في التطور.

ومع ذلك، لا تزال عناصر الصراع ومسبباته موجودة ومن دون حلول. فعلى الرغم من صدمة الإسرائيليين؛ على ما يبدو؛ من كثافة النيران الصاروخية التي استخدمتها “حماس”، إلَّا أن فداحة الحرب لم تغير أي شيء من سياسة إسرائيل تجاه قطاع غزة: الإبقاء على الحصار الاقتصادي والأمني مشدداً (من الجو والبر والبحر) لهدف واضح جداً وهو كسر “حماس” وتقسيم الفلسطينيين؛ شن عدوان وضربات مركزة(https://www.washingtonpost.com/world/2021/05/14/israel-gaza-history/) كل بضع سنوات لكبح الهجمات التي قد تشنها “حماس”، بالإضافة إلى إستمرارها في سياسة القمع والتضييق ضد المدنيين الفلسطينيين. في الخارج، كانت الحكومات في معظم العواصم مشدودة الأعصاب لكنها لم تفعل شيئاً يُذكر. فبرغم اللهجة الجديدة التي استخدمها الديموقراطيون، اكتفت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بالادعاء أنها تُمارس “دبلوماسية هادئة ومكثفة“(https://www.whitehouse.gov/briefing-room/press-briefings/2021/05/17/press-briefing-by-press-secretary-jen-psaki-may-17-2021/)، لكنها في الوقت نفسه سمحت للعدوان الإسرائيلي أن يأخذ مجراه.

كما أن الأشهر التي تلت الحرب الأخيرة لم تجلب ولو بصيص أمل. في حزيران/ يونيو، أطاح تحالف من خليط متشابك برئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو (ولايته كانت الأطول في تاريخ إسرائيل). فبعد عهد نتنياهو العدواني، وضعت الحكومة الجديدة “وجهاً أكثر ليونة” للعلاقات الخارجية لإسرائيل، وأعلنت عن أملها في “تقليص”( https://www.nytimes.com/2021/09/30/world/middleeast/israel-bennett-palestinians-shrinking.html) الصراع مع الفلسطينيين من خلال تحسين الوضع الاقتصادي داخل الأراضي المحتلة ومنح السلطة الفلسطينية التي تحكم الضفة الغربية بشكل جزئي تعزيزات هامشية. ومع ذلك، ها هي حكومة نفتالي بينيت، تسير على نهج سابقاتها؛ لاسيما حكومة نتنياهو؛ وتمضي في سياسة توسيع المستوطنات غير الشرعية، وقضم المزيد من أراضي الضفة وقمع الفلسطينيين أينما وجدوا. حتى أنها ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما حظرت؛ في تشرين الأول/أكتوبر؛ عمل ست جمعيات مدنية فلسطينية محترمة تُعنى بقضايا حقوق الإنسان، ووجهت إليها تُهماً مفبركة بارتكاب أعمال إرهابية.

بالنسبة لأي شخص لا يزال متمسكاً بخيار التفاوض من أجل إحلال السلام، كان العام الماضي مدعاة لليأس. لقد تحول مركز الثقل في السياسة الإسرائيلية منذ فترة طويلة بعيداً عن خيار السلام، بعدما تنصلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من كل ما هو مطلوب منها لإنجاح محادثات مشتركة مع الفلسطينيين، وتنكرت لكل التزاماتها، وبقيت تدعي شعار التفاوض بالاسم فقط. وبدورهم، فقد الفلسطينيون، معظمهم، الثقة في أن التفاوض مع الإسرائيليين سيحقق لهم دولة فلسطين التي يحلمون بها.

ثمة إجراءات وشروط لا بد من تحقيقها من أجل تحقيق الهدوء: إعلان هدنة طويلة الأمد وفك الحصار عن قطاع غزة؛ وقف عمليات سلب وطرد الفلسطينيين من منازلهم وأملاكهم في القدس الشرقية؛ والعودة إلى الترتيبات السابقة التي تضمن بقاء الأماكن المقدسة هادئة إلى حد ما.

لكن هذه الإجراءات والشروط قد تساعد فقط؛ في حال تحقيقها؛ في تجنب نشوب حرب جديدة لفترة زمنية. إن استمرار الدبلوماسيين بالتشدق بحل الدولتين الذي لا يبدو ممكناً، يعني الاستمرار في منح إسرائيل الغطاء لكي تمضي في قضم المزيد من أراضي الضفة الغربية بحكم الأمر الواقع. بينما المطلوب الآن هو وضع حد لإفلات إسرائيل من المعاقبة على ما ترتكبه من انتهاكات وممارسات فظيعة بحق الفلسطينيين. بعبارة أخرى، حان الوقت لمعالجة الوضع على الأرض بواقعية.

ثالثاً؛ اليمن.. صراع متعدد الأطراف لن ينتهي:

في العام 2021، غابت حرب اليمن عن عناوين الأخبار، لكن الحرب هناك لا تزال مستعرة ومدمرة، ويمكن أن تستعر أكثر وتصبح أكثر سوءاً.

المتمردون الحوثيون يحاصرون محافظة مأرب الغنية بالنفط والغاز، وقد حققوا تقدماً ملحوظاً في هذه المنطقة الاستراتيجية. ويبدو أن الحوثيين، الذين لطالما تم التقليل من شأنهم وتقديرهم كقوة عسكرية، قادرون الآن أن يديروا حملات عديدة وعلى جبهات متعددة في وقت واحد، ويتصدون للهجمات التي يتعرضون لها بفعالية عالية ويشنون مثلها بسرعة وبنوعية متطورة مع استمالة زعماء القبائل المحليين إلى جانبهم. هم الآن يسيطرون على محافظة “البيضاء” المجاورة لمأرب، وقد شقوا طريقهم في “شبوة” (أقصى شرق البلاد)، وبالتالي قطعوا خطوط الإمداد عن مأرب. من محافظة مأرب نفسها، بقيت المدينة الرئيسية والمنشآت الهيدروكربونية القريبة في أيدي حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، المُعترف به دولياً.

إذا سقطت هذه المواقع، فسيكون ذلك بمثابة تغيير جذري في الحرب اليمنية. سيحقق الحوثيون انتصاراً اقتصادياً وعسكرياً. ومع استيلائهم على النفط والغاز في مأرب، سيتمكن الحوثيون من خفض أسعار الوقود والكهرباء في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، وبالتالي تعزيز صورتهم كسلطة حاكمة تستحق الشرعية الدولية. من المرجح أن تنذر خسارة مأرب، آخر معقل لحكومة هادي في الشمال، بالزوال السياسي للرئيس هادي.

بعض اليمنيين المنحازين إلى هادي؛ إسمياً؛ بدأوا يتهامسون حول إمكانية استبداله بمجلس رئاسي. ومن شأن ذلك أن يقوّض الدعم الدولي لحكومة هادي، وهذا بالتالي سيعزز على الأرجح مقاومة الحوثيين لمحادثات السلام.

ومع ذلك، واهمٌ كل من يأمل أو يعتقد أن فوز الحوثيين يُنذر بنهاية الحرب في اليمن. في جنوب اليمن، ستواصل الفصائل المناهضة للحوثيين القتال حتى من خارج تحالف هادي، والمقصود هنا الانفصاليون الجنوبيون المدعومون من الإمارات العربية المتحدة، والفصيل الذي يقوده طارق صالح؛ ابن شقيق الزعيم اليمني الراحل علي عبدالله صالح.

في المقابل، من المرجح أن يختار الحوثيون الاستمرار في القتال وشن الهجمات عبر الحدود، خصوصاً وأنهم يرون في الحرب فرصة لتحريض قواتهم القومية ضد السعودية التي تدعم هادي بالقوة الجوية.

يحتاج مبعوث الأمم المتحدة الجديد إلى اليمن، هانز غروندبرغ، الذي تولى منصبه في أيلول/سبتمبر الماضي، إلى القيام بأمرين في وقت واحد. أولاً، يجب أن يسعى إلى تفادي شر معركة مأرب من خلال الاستماع، دون قبول بالضرورة، لمقترحات الحوثيين والضغط من أجل عرض حكومي مضاد يعكس حقيقة توازن القوى على الأرض اليوم. ثانياً، تحتاج الأمم المتحدة أيضاً إلى إتباع نهج جديد لصنع السلام يتجاوز الاكتفاء برعاية محادثات بين طرفين، الحوثيون من جهة وحكومة هادي وداعميها السعوديين من جهة أخرى. حرب اليمن هي صراع متعدد الأطراف، وليست مجرد صراع ثنائي على السلطة؛ وأي أمل في التوصل إلى تسوية حقيقية يتطلب تحقيقه توفير مقاعد أكثر إلى طاولة أي مفاوضات مستقبلية.

رابعاً؛ إيران في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل:

قد تكون سياسة حافة الهاوية السائدة بين واشنطن وطهران؛ التي تم التحريض عليها في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب؛ قد انتهت. ولكن مع تلاشي الأمل في إحياء الإتفاق النووي الإيراني، ثمة تصعيد آخر يلوح في الأفق.

تولى جو بايدن منصبه مُتعهداً بالعودة إلى الإتفاق النووي. كان سلفه قد انسحب بشكل أحادي الجانب من هذا الاتفاق في عام 2018، وأعاد فرض العقوبات على إيران التي بدورها كثفت من تطوير برنامجها النووي وعزَّزت قوتها في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط. لقد أضاعت إدارة بايدن الوقت في تحديد موقفها بخصوص من يجب أن يتخذ الخطوة الأولى، ورفضت التجاوب مع إيماءات حسن النوايا الموضوعية. ومع ذلك، أحرزت المحادثات بعض التقدم لبضعة أشهر.

بعد ذلك، وتحديداً في حزيران/يونيو، فاز إبراهيم رئيسي في الانتخابات الرئاسية الإيرانية، ما جعل التيار المحافظ والمتشدد يسيطر على جميع مراكز القوة الرئيسية في الجمهورية الإسلامية. بعد توقف دام خمسة أشهر، عادت إيران إلى طاولة المفاوضات، وقادت صفقة أكثر صعوبة. في الوقت نفسه، تواصل تسريع عملية التطوير النووي. عندما دخل الاتفاق النووي حيز التنفيذ قبل ست سنوات، كان الوقت الذي تحتاجه إيران لتخصيب ما يكفي من المواد الانشطارية اللازمة لصنع سلاح نووي حوالي 12 شهراً. أما اليوم فهي تحتاج فقط 3 إلى 6 أسابيع(https://www.reuters.com/world/middle-east/what-remains-iran-nuclear-deal-talks-resume-2021-11-28/) لتحقيق غايتها.

صحيح أن طهران ليست الطرف الذي نفذ انسحاباً أحادياً من الإتفاق، بل كان ترامب من فعل ذلك، غير أنها لا تزال تلعب بالنار. ومن المُرجّح أن يؤدي الفشل في استعادة الإتفاق أو التوصل لصفقة جديدة خلال الأشهر القليلة المقبلة إلى جعل الإتفاق الأصلي في خبر كان، بالنظر إلى التقدم التكنولوجي الكبير الذي تحققه إيران. ثمة خيارات:

الخيار الأول، أن يسعى الدبلوماسيون إلى عقد صفقة أكثر شمولاً، على الرغم من أن ذلك سيكون بمثابة عبء صعب بالنظر إلى العلاقات غير الودية، لا بل العدائية التي ستترتب جراء إنهاء الاتفاق الأصلي.

الخيار الثاني، السعي إلى ترتيب مؤقت “القليل- مقابل- القليل” يحد من استمرار تقدم إيران النووي مقابل تخفيف العقوبات المفروضة عليها.

الخيار الثالث، وهو الأكبر والحقيقي يبقى أن المفاوضات مهددة بالانهيار.

انهيار المفاوضات يعني الكارثة. إيران ستستمر في تطوير برنامجها النووي بدون عوائق. وسيكون على واشنطن إما أن تقبل، وبمرارة، إيران كـ”دولة على عتبة النووي” قادرة على صنع قنبلة- إن لم تكن قد فعلت ذلك بعد أو الموافقة مع ما تطرحه إسرائيل والمشاركة في شن ضربات مركزة تعيق قدرات إيران النووية.

إذا حدث ذلك، من المحتمل جداً أن يندفع قادة إيران نحو التسليح، خصوصاً وأنهم يستنيرون حساباتهم من ما حدث مع الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، الذي عندما تنازل عن برنامج أسلحته النووية تمت الإطاحة بنظامه بكل سهولة. وأيضاً من ما حدث لزعيم كوريا الشمالية الذي انتزع احترام ترامب لبلاده لأنها مسلحة نووياً.

ومن المرجح أيضاً أن تنفس طهران عن غضبها في مختلف أرجاء منطقة الشرق الأوسط. قد تساعد الجهود الناشئة لخفض التصعيد بين إيران وأنظمة دول الخليج العربي في تقليل المخاطر، لكن العراق ولبنان وسوريا ستكون جميعها في مرمى النيران. قد تزيد الحوادث من خطر المواجهة المباشرة بين إيران والولايات المتحدة أو بين إيران وإسرائيل أو مع الحليفين معاً، وهو ما يتجنبه الأطراف حتى الآن برغم الاستفزازات الموجودة بينهم. يمكن أن تخرج مثل هذه الخلافات عن السيطرة بسهولة وتتطور إلى صدام حقيقي على الأرض أو في البحر أو في الفضاء الإلكتروني أو من خلال إدارة العمليات السرّية.

بعبارة أخرى، يمكن أن تؤدي المحادثات المُتعثرة إلى الجمع بين كل تلك المخاطر التي وقعت منذ الفترة التي سبقت اتفاق 2015 مع أسوأ المخاوف التي شهدناها طوال فترة ولاية ترامب مع المخاطر المرتقبة التي يمكن تخيلها بسهولة.

(-) النص الأصلي بالإنكليزية موجود على موقع “مجموعة الأزمات” (https://www.crisisgroup.org/global/10-conflicts-watch-2022)

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

* كاتبة صحافية ومترجمة لبنانية

المصدر: 180 بوست

التعليقات مغلقة.