الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

حركة عُرابي.. ومؤتمر الأستانة!

أحمد عبدربه *

كانت الأمور فى مصر شديدة التوتر، ففي خلال عامين فقط (1880ــ1882)، تغير المشهد السياسي المصري كليةً عما كان عليه الوضع أيام الخديوي إسماعيل! كانت المفارقة هنا أنه وبعد عزل إسماعيل وتعيين توفيق، اعتقد الإنجليز والفرنسيون أن مصر أصبحت لقمة سائغة لهم لكن حدث بالضبط عكس ما كانوا يتوقعون ويرغبون، وقطعاً لم يكن للخديوي توفيق أي فضل فى هذا، بل يرجع الفضل بالأساس للحركة العُرابية التي غيرت من البناء الداخلي للنظام السياسي المصري بشكل ديموقراطي (وفقاً لمعايير العصر) لم يكن موجوداً حتى فى الدولة العثمانية ولم يتواجد فى معظم الدول الشرقية ربما باستثناءات بسيطة مثل اليابان!

                                                                                    *          *            *

كانت معادلة السياسة المصرية تتجاذب بين سبعة من الفاعلين السياسيين:

(1) الحركة العرابية التي يقودها أحمد عرابي والتي تحولت تدريجيا من حركة عسكرية إلى حركة شعبية انضم إليها عامة المواطنين وكبار المشايخ والخطباء فى البلاد.

(2) وهناك البرلمان المصري الذى كان يتطور بشكل مذهل يضع دستورا للبلاد (عرف باسم اللائحة الأساسية)، ويحاسب الحكومة ويرفض طلبات المراقبين الفرنسي والإنجليزي، متحالفين مع الحركة العرابية ثم لاحقا مع النظارة التي شكلها محمود سامى البارودي وتم تعيين عرابي بها وزيرا للحربية.

(3) ثم هناك النظارة والتي أضحت فاعلا مهما فى الحياة السياسية المصرية ولم تعد مجرد تابع للقصر كما كان الوضع عليه من قبل، بل كانت تتصادم وتتفاوض مع البرلمان والقصر والإنجليز والفرنسيين والباب العالي.

(4) كذلك فقد كان هناك ما يعرف بالحزب الوطني (البعض يطلق عليه الأهلي لتمييزه عن الحزب الوطني الذى أسسه مصطفى كامل عام 1907)، وهو الحزب الذى نشأ بعد توقيع ما يعرف باللائحة الوطنية التي سعت إلى حل مشكلة الديون وإيقاف التدخلات الخارجية ووقع عليها عشرات الشخصيات البارزة من التجار والنواب ورجال الدين.

(5) ثم هناك الخديوي والذى أصبح لا حول له ولا قوة متأرجحا بين العرابيين والإنجليز والباب العالي، مذعورا من أطماع بعض أفراد الأسرة العلوية فى الحكم، غائبا عن اتخاذ القرار معظم الوقت وتركها للقنصلين الإنجليزي والفرنسي فى بعض الأحيان!

(6) ثم هناك الباب العالي نفسه حيث السلطان عبدالحميد الثانى الذى بحساباته الخاطئة داخل تركيا وخارجها أصبح أحد الأسباب فى خسائر متتالية للدولة العثمانية ليس فقط فى مصر ولكن فى المنطقة العربية بأسرها.

(7) وأخيرا كان هناك الإنجليز والفرنسيون والذين سريعا ما اشتعلت الصراعات والخلافات بينهم فيما يخص الاتفاق على مستقبل مصر والعلاقة مع الباب العالي!

                                                                                     *         *          *

كان هذا الوضع مقلقاً بشدة للإنجليز الذين أصبحوا متأكدين من أن استمرار الأمور بنفس الوتيرة دون تدخل يعنى باختصار تصاعد الحركة الوطنية السياسية المصرية ومن ثم ذهاب النفوذ الإنجليزي بلا رجعة! ومن هنا فقد اتفق الإنجليز مع الفرنسيين فى البداية على إرسال أسطولين حربيين إلى الإسكندرية دون شن حرب ولكن فقط لمراقبة الوضع واتخاذ وضعية الاستعداد للانقضاض على مصر متى سمحت الظروف بذلك!

تكشف الوثائق التاريخية أن الخلافات بين الفرنسيين والبريطانيين قد بلغت مداها فى 1882، ففي البداية لم تكن فرنسا راضية عن السماح للقوات العثمانية بدخول مصر، وهى الفكرة التي أيدتها (فى الحقيقة تظاهرت بتأييدها) إنجلترا، ثم عاد الفرنسيون للتراجع وتأييد التدخل العثماني بعدما تبين لهم نية الإنجليز باحتلال مصر!

فى ظل كل هذه الظروف كانت الثورة العرابية مستمرة وكانت مشاعر العداء تتصاعد ضد الإنجليز والفرنسيين، ومن ثم فقد وقعت أعمال عنف ضد الجاليات الأجنبية فى عدة مدن مصرية أشهرها فى الإسكندرية حيث بدأت حركة نزوح أجنبي خارجها وهو ما استغله الإنجليز للترويج لتردى الأوضاع فى مصر والتحجج بضرورة التدخل العسكري لاحقاً!

***

فى هذا السياق وجه الإنجليز الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي (فى الحقيقة كان أوروبياً) فى الأستانة فى حزيران/ يونيو 1882 دُعي إليه الباب العالي بالإضافة إلى فرنسا وألمانيا والنمسا وروسيا وإيطاليا للتباحث حول (الأزمة المصرية)، ولإقناع هذه الأطراف بالمشاركة فى المؤتمر فقد ادعى الإنجليز أن أهداف المؤتمر هي:

(1) المحافظة على سيادة الباب العالي والخديوي توفيق على مصر.

(2) ضمان الحقوق المصرية وفقاً للمعاهدات الدولية.

(3) المحافظة على الالتزامات الدولية لمصر.

كانت خطة الإنجليز تقوم على إضفاء طابع شرعي على نيتها المبيتة لاحتلال مصر من خلال تدويل قضيتها! كانت المفارقة أنه وبينما جرت جلسات المؤتمر فى الأستانة نفسها فإن الباب العالي رفض المشاركة فى المؤتمر حيث رد على الدعوة البريطانية بأنه يعرف كيف يقيم ويضبط الأوضاع فى مصر! كان الأوقع أن يرفض السلطان عبدالحميد عقد المؤتمر من الأساس داخل أرضه، لكنه وللغرابة قبِل بعقد المؤتمر وأحجم عن المشاركة!

عقدت جلسات المؤتمر الاثنتي عشرة فى الفترة بين 23 حزيران/يونيو و17 آب/أغسطس، ويشير تحليل وثائق ومحاضر هذه الجلسات كما وردت فى كتاب «مؤتمر الأستانة وثائق الكتاب الأزرق البريطاني» والذى ترجمه للعربية عبدالرؤوف عمرو وقدم له حلمي النمنم والذى طُبع بواسطة دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة فى 2015 أن بريطانيا اتبعت استراتيجية مكونة من ضلعين فى كل هذه الجلسات، الضلع الأول هو استئثار المندوب البريطاني الحديث فى معظم جلسات المؤتمر، والضلع الثانى هو اعتماد تقارير القنصل البريطاني فى مصر فقط باعتبارها الطريقة الوحيدة لنقل ما يجرى فى مصر لأعضاء المؤتمر وقطعاً كانت تحتوى التقارير على مبالغات وفى بعض الأحيان أكاذيب هدفت إلى إشاعة الخوف بين الدول الأوروبية على رعاياها ومصالحها فى مصر!

كانت فرنسا على علم تام باستراتيجية البريطانيين، ولذلك صممت أن تعقد جلسات المؤتمر وفقاً لميثاق «إنكار الذات» أي انتفاء الغرض الشخصي من وراء عقد المؤتمر وتظاهرت بريطانيا بالموافقة ولكن فعلياً لم يكن الأمر كله سوى أكذوبة نحو احتلال مصر والتخلص من حركتها الوطنية!

فى وثائق المؤتمر إشارة واضحة إلى محاولة الإنجليز إظهار ثورة عرابي بالاعتداء والتخريب وهو ما يرد على قول بعض المؤرخين (ومنهم جورجي زيدان) أن استمرار الثورة العُرابية هو ما أدى إلى فوضى أعطت الذريعة للبريطانيين للتدخل! قطعاً هذه قراءة خاطئة تماماً فجلسات المؤتمر تبّرز بوضوح كيف أن الإنجليز كانوا يُعدون العُدة نحو الاحتلال من أجل مصالحهم الشخصية لا من أجل استقرار مصر أو الخديوي أو حتى الباب العالي!

بينما كانت جلسات المؤتمر منعقدة، قامت إنجلترا وبشكل منفرد باحتلال ميناء الإسكندرية لفرض الأمر الواقع على المشاركين، والمضحك أن بريطانيا كانت فى نفس الوقت وخلال جلسات المؤتمر تدعو السلطان عبدالحميد للتدخل العسكري وإلا اتخذ المجتمعون ما يلزم من إجراءات! بل ولاحقاً وفى عقر دار الدولة العثمانية وجهت بريطانيا إنذاراً للباب العالي بأنه إن لم يتحرك عسكرياً فى مصر فسوف يتخذ المؤتمر إجراءات أخرى، وأمام عجز السلطان الغائب أساساً عن جلسات مؤتمر يعقد على بعد أميال قليلة من قصره، قام الإنجليز بالتصعيد فأرسلوا قوات إلى بورسعيد بحجة حماية قناة السويس!

هنا فقط قرر السلطان عبدالحميد المشاركة عن طريق إرسال وزير خارجيته سعيد باشا إلى الجلسة العاشرة للمؤتمر والتي عقدت بعد شهر كامل من الجلسة الأولى! كانت حسابات السلطان أن هذه المشاركة ستكون حاسمة فى وقف التصعيد البريطاني وفى منع فرض اتفاقيات عليه لا يرغب بها، ولكن كانت حساباته خاطئة تماماً، فقد كان سعيد باشا مهمشاً وعاجزاً عن اتخاذ قرار أو التأثير على سير الجلسات!

أكملت إنجلترا الخطة فاحتلت قناة السويس بينما تنعقد جلسات المؤتمر، بل طالبت السلطان بإصدار فرمان يعلن فيه عرابي عاصياً ومتمرداً، لم يقبل السلطان ولكن بقي على موقفه السلبي قبل أن يعلن أخيرا فى جلسة 9 آب/ أغسطس الموافقة على التدخل العسكري فى مصر بشروط رفضها المندوب البريطاني ساخراً، فقد كان الوقت مر بالفعل والاحتلال البريطاني لمصر أصبح أمراً واقعاً!

* باحث أكاديمي مصري ومدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.