عبد الخالق النجمي *
مدريد: يُعد الكاتب والمترجم الإسباني والعميد السابق لكلية الفلسفة والآداب التابعة لجامعة مدريد المستقلة ’’بيدرو مارتينيث مونتابيث‘‘، المتخصّص في دراسة العالم العربي المعاصر والعلاقات الإسبانيّة العربيّة، أحد أهم رموز الاستعراب، ليس فقط في إسبانيا بل في العالم، فلعب دوراً مهما في التعريف بالقضايا العربية والإسلامية والدفاع عنها، حيث تعد أعماله مرجعاً لكل تَوَّاق لمعرفة العالم العربي المعاصر ولغته وثقافته وآدابه. كذلك ترجم ’مونتابيث‘ إلى الإسبانية أعمالاً لأهم الشعراء العرب، مثل محمود درويش، نزار قباني، جبران خليل جبران، عبد الوهاب البياتي، بلند الحيدري، فوزي كريم، خالد الشوّاف، والجواهري وآخرين. وقد نال العديد من الجوائز، منها جائزة الشيخ زايد للكتاب، حائزاً لقب شخصية العام الثقافية.
فكان معه الحوار التالي..
■ ماذا عن الخطوات الأولى في دراسة اللغــة العربية وآدابها؟
□ في الواقع حدث ذلك بالمصادفة، فحين التحقت بالسنة الأولى في كلية الفلسفة والآداب، كان عليّ أن أختار بين مادتي اللغة اليونانية واللغة العربية فاخترت الأخيرة، فقد كانت بالنسبة لي شيئا جديداً ومختلفاً، بل مدهشاً. فانكببت على دراستها بحماس شديد. كان كل شيء فيها يفتنني: تراكيبها الصرفية وقدرتها المجازية، التي لا تنفد، وتعدد استعمالاتها الدلالية، التي كنت أستشفها إذ ذاك، بالإضافة إلى أنها كانت تفتح أمامي عالماً من الأحاسيس والتجارب كنت أجهله وكان يبدو جذاباً جداً.
■ خلال فترة إقامتك في القاهرة أقمت علاقات مع مختلف المثقفين والكتّاب والشعراء العرب، هل يمكنك أن تحدثنا عن هذه التجربة؟
□ كانت إقامتي الطويلة في مصر، بعد إحرازي الإجازة في إسبانيا، لاستكمال الدراسة وتحضير أطروحة الدكتوراه (1957-1962) أساسية في تكويني المهني، بل وفي تكويني كإنسان. لقد اكتشفت ما كنت حتى تلك اللحظة أجهله تماماً عن ذلك العالم العربي، الذي كنت أدرسه: الناس والشعوب والمجتمعات وأنماط أخرى في الحياة والعلاقات، لم أعد أكتفي بالتعلم من الكتب فقط، بل حتى من الشارع أيضاً. كانت مصر في تلك السنوات، ولاسيما القاهرة عالماً أخاذاً، يجعلك في اهتزاز مستمر. وفي هذا السياق فقد فتحت لي العلاقات والصداقات التي ربطتني بمثقفين وكتاب سبلاً رائعة، سواء على الصعيد المهني أو الحياتي. وعلى سبيل المثال فأنا لا أستطيع أن أنسى أبدا اليوم الذي تعرفت فيه إلى “نجيب محفوظ”، وأجريت معه مقابلة دامت ساعتين تقريباً، كما أنني ما زلت أحتفظ في ذاكرتي بوضوح، بالمحادثات الأدبية مع “يحيى حقي” في دار الكتب، ومع “يوسف الشاروني” في مكتبه، أو مع “محمد عبد الحليم عبد الله” في بيته، أو المساء الذي قضيته مع الشاعر الصوفي “محمود أبو الوفا” في مأواه في جبل المقطم. كما كانت علاقتي بالعالم الأكاديمي والجامعي هي الأخرى إيجابية جداً، ساهمت بشكل قوي في تكويني المهني؛ أتذكر بود خاص “حسين مؤنس” و”عبد العزيز الأهواني” و”لطفي عبد البديع”، وآخرين واستطعت على مدى السنوات التالية، أن أوسع وأقوي تلك العلاقات بشكل يفيدني.
■ وكيف تطورت دراسات الاستعراب في إسبانيا؟
□ ازدادت بما يكفي، وتشكل المشهد الحالي وتنوع، كما أنها تجددت أيضاً، أما في ما يرجع إلى المناهج وتيارات البحث، فقد صارت هي الأخرى حديثة، لكنها مع ذلك في رأيي فقدت الطموح الثقافي، أو أنها صارت خاضعة لمصالح أخرى. لقد ربحت كثيراً في التقنيات والتطبيقات، لكنها خسرت في الجهد النظري والفكري، وفي كثير من الحالات تجدها تتأثر بالاتجاهات والانتماءات السياسية، لكنها ما زالت تحظى بتمثيل ضئيل في مراكز الإدارة والسلطة، وإن كان صداها في المجتمع ضعيفا.
■ بصفتك أحد رواد الترجمة من العربية إلى الإسبانية، خصوصا الترجمة الشعرية، كيف تقيّم هذه التجربة؟
□ لقد كنت دائماً قارئاً متحمساً للشعر، على عكس ما كان يحدث لي مع الرواية، كما كنت أستمتع بقراءة المقالة والصحافة الجيدة. لقد شكّل اكتشاف الشعر العربي الحديث بالنسبة لي نوعا من الإلهام، كان يبدو في كثير من جوانبه حراً، بل وحتى ثورياً في بدايته انطلاقاً من نهاية عقد الأربعينيات، من القرن الماضي. لقد كرست جزءاً كبيراً من عملي للترجمة كمستعرب، وأعتقد بكل تواضع، بأنني فتحت في الاستعراب الإسباني، مجالات للدراسة وطرقاً جديدة أعطت نتائج مفيدة. لقد عاش الشعر العربي بين الخمسينيات والثمانينيات من القرن الماضي، على الأقل عهداً فضياً حقيقياً، بالنسبة لي لا شك ولا نقاش في ذلك، فعمل الشعراء أمثال “بدر شاكر السياب” و”نازك الملائكة” و”عبد الوهاب البياتي” و”نزار قباني” ـ الذي خصصت له أربع أنطولوجيات ـ و”صلاح عبد الصبور” و”أمل دنقل” و”سعدي يوسف” و”محمود درويش” وآخرين، هو من مرتبة وقيمة كونية، إضافة إلى محافظته على العمق العربي، بغض النظر عن الخلافات الموجودة بينهم. لقد كنت أول من ترجم لأغلب أولئك الشعراء الكبار إلى الإسبانية. كذلك فالأدب العربي المكتوب من قبل النساء، بلغ مستوى عاليا ومهما، بطبيعة الحال لم آخذ بعين الاعتبار الكتّاب المنتمين للفضاء العربي، الذين يكتبون بلغات أخرى، أما من كتاّب الأجيال السابقة، فأنا معجب جداً بـ”توفيق الحكيم” و”جبران خليل جبران”.
■ كيف تقيمون وضع الترجمة من العربية إلى الإسبانية حالياً؟
□ لا أتابع الأمر عن قرب، لكن حجم الترجمة الأدبية من العربية إلى الإسبانية ما زال قليلاً، ولا يمثل بعده وأهميته، وأعني الأدب العربي الكلاسيكي للعصور الوسطى، كما أعني أدب العصر الحديث. أما الأدب الأندلسي نفسه فهو ما زال مجهولاً تماماً، لأنه لا يترجم منه إلى الإسبانية إلا القليل، وفيما يرجع إلى الأدب المعاصر، يجب أن نترك جانباً “نجيب محفوظ” الذي تُرجم كثيراً منذ حصوله على جائزة نوبل، كما تُرجم أيضا “البياتي” و”درويش” و”نزار قباني” و”نوال السعداوي”، لكن بدرجة أقل. وقد قامت بعض المؤسسات ودور النشر في هذا الاتجاه بعمل إيجابي يستحق الثناء، كالمعهد الإسباني العربي للثقافة، ودار النشر “كانط أرابيا”، ومنشورات “الشرق” و”المتوسط”، و”المعهد المصري” للدراسات الإسلامية، و”مدرسة المترجمين” في ’’طليطلة‘‘. ومع ذلك فقد بقيت دور النشر الكبيرة باستثناء حالات خاصة على هامش هذه الحركة. في رأيي لا تطبق بانتظام معايير انتقائية كافية تبرر ترجمة النصوص التي لا أهمية ولا تمثيلية لها. يلاحظ منذ سنوات الاهتمام بالترجمة إلى لغات أخرى، في شبه الجزيرة الإيبيرية، خاصة اللغة الكتالانية. أما في ما يرجع إلى الترجمة الأدبية من الإسبانية إلى العربية فقد أبرزت دائماً ووصفت بالإيجابية العـــمل الممتاز الذي يقوم به دارسو اللغة الإسبانية وآدابها في مختلف الأقطار العربية، ومصر ولبنان والمغرب، ربما خير مثال على ذلك. والآن بدأ يزداد الاهتمام بترجمة أدب أمريكا اللاتينية، وهو بادرة إيجابية ومشجعة. أما ترجمة “ثرفانتس” و”لوركا” و”ماركيز” فتشكل حالات خاصة.
■ هناك خلط ولغط كبيران بين مفهوم الاستعراب والاستشراق والاستفراق، خصوصاً حينما نتحدث عن المغرب. ما معناها وما الفرق بينها بالنسبة لك؟
□ ما كان يعرف في البداية من وجهة نظر ثقافية وعلمية بالدراسات العربية والدراسات الشرقية والدراسات الافريقية، وأول ما يستنتج منها هو تعددها الداخلي، لا سيما في حالتي الاستشراق والاستفراق، لأن الصين وإيران والهند مختلفة جداً، والشيء نفسه يحدث مع الصحراء والكونغو، في البداية كانت الاختلافات واضحة، على الرغم من وجود علاقات وروابط طبيعية وواضحة بين التخصصات الثلاثة، لكن ما حدث هو أن هذا الإطار الشكلي المنطقي تغير وتعقد، بفعل العمل السياسي، خاصة في طبعته الكولونيالية، وقد كان لهذا تأثير، لا سيما في الاستشراق وفي الاستفراق. أما بالنسبة لإسبانيا فالأمر يختلف، لأن افريقيا والمغرب، شكلا باستمرار الشيء نفسه، أو شيئين متشابهين. أما أنا فقد كان الأمر بالنسبة لي واضحاً، لقد حاولت دائماً أن أكون مستعرباً دارساً للمواضيع العربية فقط.
■ وماذا تعني أو تمثل لك الأندلس؟
□ يبدو أن هناك شيئين متناقضين، ولكن بالنسبة للأندلس هما متكاملان: واقع تاريخي انتهى، وواقع رمزي حي يؤثر في الخيال. لقد كانت الأندلس ظاهرة فريدة خلال وجودها، وكانت باتجاهين: بالنسبة لفضائها العربي الذي كان يحتويها، وبالنسبة للفضاء الأوروبي المسيحي، الذي توجد فيه. فالأندلس بالنسبة لي تشكل منذ مدة موضوعا للتفكير والاهتمام الثقافي والحيوي، لا يضاهى. الأندلس كما كانت عبارة عن شيء صغير يجمع أحاسيس وفضاءات وأزمنة ووضعيات مختلفة جدا، ولكن ليست متناقضة جذريا، لأن الأندلس تبقى في الأساس والعمق اقتراحا ذا أبعاد كونية، وكما هو معلوم فأنا لست متخصصا في الدراسات الأندلسية.
■ وكيف تقيم الربيع العربي؟
□ أيما حركة احتجاج مدني تحدث في العالم العربي تطالب بالحريات، سواء في المجال العام أو الخاص، تكون مبررة لأن الحريات هناك منعدمة. كان يجب المطالبة أيضاً بالكرامة والمساواة الاجتماعية. شيء آخر هو المنحى السياسي الذي سارت عليه الأحداث، في هذا الصدد كان الرصيد سلبياً جداً، لأن ما سمي بالربيع العربي كان ضرباً من الخيال والبروباغندا، فالتغيرات السياسية لم تنجح بتاتاً، والفوارق الاقتصادية والسياسية ازدادت، والفساد تفاقم واستشرى، وربما صار انعدام الحريات الآن أكبر.
■ وكيف ترى الآن الصــراع العربي الإسرائيلي، بعدما اعترف ’ترامب‘ بالقدس عاصمة لإسرائيل وما موقفك من صفقة القرن؟
□ القضية الفلسطينية حالياً في إحدى المراحل الصعبة والمعقدة من تاريخها الطويل، إذا لم تكن الأصعب والأعقد، كيف يمكن انتظار حلول عادلة ومنصفة نسبياً من شخص عديم الأخلاق مثل ’ترامب‘، وبصفة عامة من المجتمع والسياسة الأمريكية؟ المدهش هو أن عدداً كبيراً من المسؤولين الفلسطينيين، وثقوا بوعود وخطط ’ترامب‘ وسدنته. من جهة أخرى زادت الصراعات الفلسطينية الداخلية الوضع سوءاً، والغريب أن الفلسطينيين أنفسهم لم ينتبهوا للأمر، فحركة التدويل المتزايدة التي تعيشها المنطقة لا تساعد على إيجاد حلول، وما تسميه أنت بالصراع العربي الإسرائيلي هو شيء آخر، وإن كان مرتبطا بالقضية الفلسطينية.
■ كلمة أخيرة..
□ كيف لا ينتبه العرب إلى أن الخطر الأكبر الذي يهددهم، ربما هو فقدان الهوية العربية؟ والذي يعمل في جميع المجالات. كيف سيستمرون عرباً إذا فقدوا هويتهم؟ والعروبة ليست بالضرورة ضد الحقوق والقيم الكونية.
* كاتب ومترجم مغربي
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.