الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الصحة النفسية

د. عبد الناصر سكرية

يعاني الإنسان المعاصر من اختلالات عضوية كثيرة. أسبابها متنوعة جدًا. أهمها نمط الحياة العصرية التي تضغط عليه في كل جوانب حياته… بدءً من التغذية المصنعة غير الطبيعية وانتهاء بالتوتر والقلق الذي بات يصاحبه ويستولي عليه.

لقد استطاعت العولمة الرأسمالية بما تملكه من إمكانيات هائلة ومن وسائل مرعبة حديثة لتوجيه عقول البشر والتحكم بسلوكياتهم وإهتماماتهم وتفجير الصراعات بينهم، إستطاعت أن تجعل التفكير المادي الاستهلاكي تفكيراً غالباً سائداً.. ليس لأن البشر تغيروا بل لأن العولمة الرأسمالية فرضت عليهم مثل هذا التفكير.. وهو تفكير ذاتي فردي نفعي يتخذ المنفعة المادية أو المصلحة المادية المباشرة معيارا للعلاقات بين الناس..

هذا فرضَ على الإنسان المعاصر نمطين أساسيين من الحياة  :

  الأول أن يلهث الإنسان وراء الحياة بغرض كسب المال بأية وسيلة بصرف النظر عن مشروعيتها أو موافقتها للقيم الأخلاقية والاجتماعية أو مدى ملاءمتها للمعايير الإيمانية في الحلال والحرام.

وهكذا أنتجت تفكيراً انتهازيا لا أخلاقياً لا يهتم بغير التحصيل المادي ولو على جماجم الآخرين وحياتهم أو مصالحهم وحقوقهم..

  الثاني اضطرار الإنسان أن يصبح أنانياً فردياً لا يهتم بمصالح وحقوق غيره. لأنه لا يكاد يغطي تكاليف حياته بنوعيتها الجديدة ومتطلباتها الكثيرة.. مما جعله ينكفئ عن المساعدة والتضامن والقيم الإنسانية الأخلاقية وما فيها من شهامة ومروءة وتضحية وتضامن..

إن سيطرة الشركات التجارية والعقل المادي التجاري فرضت على الإنسان تفكيراً استهلاكياً يهدف إلى تحويله لمجرد لاهث وراء استهلاك ما تنتجه تلك الشركات التي باتت منذ عقود أقوى وأكبر من الدولة.. أية دولة.. حتى أكبر وأقوى من الدول الكبرى.. هذا التفكير الإستهلاكي زاد من تاثير الدعاية التجارية التسويقية على عقل الانسان.. بل أن وسائل الاعلام وكل تقنيات التسويق الاعلامي التجارية باتت تملك مقدرة كبيرة على توجيه اهتمامات الناس حيث تريد هي لا حيث تحتاج مشكلات الناس ومصالحهم أن يكون إهتمامهم وتوجههم وتفاعلهم..

حتى إن وسائل الإعلام تلك بما فيها ما يطلقون عليه وسائل التواصل الإجتماعي كانت هي الأداة المباشرة للتأثير في العقول وتوجيه السلوك وافتعال المناحرات..

النتيجة كانت أن الإنسان المعاصر بات محاصراً من كل جانب وفي جميع الميادين وفي كل مجالات الحياة بالإعلام التسويقي الدعائي الذي يستخدم أحدث تقنيات التكنولوجيا في الإغراء والإغواء والتأثير..

فكان أن طغى على الإنسان المعاصر إنعزال عن الآخرين وإنفصال عن أبناء مجتمعه انفصالاً نفسياً إلى درجة أن حساب المصير الوطني لمجتمع ما بات يحسب بحسابات الربح والخسارة والعوائد المادية والنفسية..

وسوف يكون لهذا تأثير بالغ السوء في أسس التفكير الانساني والإلتزام الوطني- المجتمعي..

في مقابل هذا فإن الفطرة الإنسانية تقوم على أسس مخالفة لكل تلك القواعد الفردية المادية المعولمة..

فالإنسان الفرد لا وجود له إلا نظرياً… أما عملياً فهو جزء من جماعة بشرية محددة.. هذه الجماعة لها خصائصها المحلية سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو وطنية جامعة.. وكل جماعة وطنية تتميز عن غيرها بمميزات متنوعة بدءاً من اللغة القومية مروراً بالمصالح العامة المشتركة التي يفرضها الواقع وتحيطها الجغرافيا وتحبكها؛ وانتهاء بالثوابت الأخلاقية القيمية التي تعبر عن خصائصها التاريخية الحضارية التي اكتسبتها عبر تفاعلها الطويل فيما بينها وبينها وبين الأرض التي تعيش عليها. وهو ما يطلق عليه الجدل الإجتماعي المتراكم عبر مسيرة التكوين التاريخي لتلك الجماعة التي ترتقي به لتصبح شعباً واحداً أو أمة واحدة..

كل هذا يناقض تلك الأسس التي صنعتها العولمة الرأسمالية والمعايير النفعية المادية الاستهلاكية التي فرضتها..

ولما كانت وسائل التأثير التي تملكها المؤسسات الرأسمالية العالمية والتي تشكل ما يسمى النظام العالمي الغربي الاستعماري؛ أقوى بكثير مما تملكه الجماعات البشرية أكانت وطنية أو قومية أو تكوينات اجتماعية؛ فإن اختلالاً حصل في بنية الإنسان العقلية والنفسية ناتجاً عن شدة وإلحاح النموذج الإستهلاكي النفعي وعدم مقدرة المقومات الإنسانية- الأخلاقية على الصمود والمقاومة.. الأمر الذي أصاب الانسان المعاصر في توازنه النفسي وإتزانه السلوكي وبالتالي أوقعه في ازمة نفسية خانقة تعبر عن ذاتها بالتوتر والقلق والإحباط وإنسداد الأفق الذي يعيش الناس عموماً تحت وطأته ومفاعيله… ومما لا شك فيه ويستوجب الحديث عنه أن كثيراً من مظاهر التعصب والتطرف والعنصرية التي تعاني منها كل المجتمعات البشرية ليست إلا أحدى مفاعيل ذلك التناقض النفسي- القيمي الذي وضعت الإنسان المعاصر فيه تلك العولمة الرأسمالية المادية النفعية الاستهلاكية المتوحشة بل والمفترسة.. فهي متوحشة لأنها لا تقيم وزنا لأية اعتبارات وطنية أو إنسانية او أخلاقية أو دينية؛ ومفترسة لانها تلتهم كل شيء في طريقها حتى البشر..

وما كل تلك الظواهر السلوكية التي باتت حديث المصلحين والمخلصين والمؤمنين الصادقين يشكون منها وينبهون لمخاطرها ويحذرون من استمرارها وتأثيراتها السلبية على الإنسان والانسانية جمعاء؛ ما هي إلا نتاج ذلك الإختلال في ميزان القيم الاخلاقية وذلك الإعتلال في أسس التفكير العقلي والإجتماعي…

الخلاصة أن كل هذا أنتج خللاً في صحة الانسان النفسية.. الأمر الذي لم يقتصر تأثيره السلبي على سلوك الإنسان ونزعاته الفردية بل كانت له بالغ الآثار أيضا على صحته الجسمانية والعضوية..

إن كمية الأمراض البدنية والعضوية التي يعاني منها الإنسان المعاصر تتفوق على كل ما سبق من أمراض عبر تاريخ البشر.. كما أن عمقها وشدتها هي أيضا كذلك..

إن الامراض الحديثة باتت تلتهم الإنسان التهاماً وأحد أهم أسبابها هو نمط الحياة المعاصر بشقيه: التغذية الحديثة المصنعة والصحة النفسية المضطربة.

وجميعها من فعل العولمة المادية وما فيها من ضغوط هائلة على عقل الإنسان وروحه ونفسيته..

ولم يعد يحتاج الى دليل أو بيان إثبات ذلك التأثير السلبي الكبير الذي يؤديه إختلال الصحة النفسية للانسان المعاصر..

فما العمل؟؟

كما أنه ليس ممكناً معالجة أي مرض عضوي بالادوية فقط بل يحتاج إلى بنية نفسية متوازنة مستقرة؛ فإن إمتلاك صحة نفسية متوازنة مستقرة أو ما يمكن تسميته: ” الأمن النفسي للإنسان ” لم يعد ممكنا بغير التخلص من تلك الآثار المدمرة للعولمة الإستهلاكية..

وكما أن الطب الغربي الحديث يجزىء الإنسان إلى أعضاء وأجهزة منفصلة فيتعامل مع الأعراض المرضية دون علاج الأمراض ذاتها وبالتالي يبقي الإنسان تحت ضغط الحاجة الى الأدوية التي تنتجها شركاته وتربح منها المليارات؛ دون النظر إلى الإنسان كوحدة نفسية عضوية متكاملة؛ كذلك فإنه يعالج الصحة النفسية بذات الأدوية العضوية التي تعتبر النفس تركيباً مادياً فيزيولوجياً وليس بنية إنسانية- اجتماعية متميزة بخصائصها وقيمها.. وبذلك يبقى الإنسان مريضاً عضوياً ومعتلاً نفسياً طوال حياته يستهلك من الأدوية ما يهدر جزءاً كبيراً من ناتج عمله اليومي وجهده الحياتي المتراكم..

وهكذا يبقى الجميع تحت تأثير العقل التجاري الاستهلاكي النفعي الذي يسوق فكره وتفكيره ومعاييره كما يسوق بضاعته ومنتجاته المادية..

وهكذا في دوامة مستمرة تزيد في أمراض الإنسان العضوية واعتلالاته النفسية.. ويزداد القلق والتوتر والاضطراب ومعها التطرف والإنعزالية والإنغلاق والعنصرية..

ورغم التقدم الهائل في العلم وفي التقنيات في كل ميدان فإن مثل هذه الظواهر السلوكية تزداد حدة وليس العكس..

إن النموذج الرأسمالي السائد عالميا في الزمن الراهن، قائم أساسا على الفردية التامة واعتبار المنفعة المادية معياراً وحيداً للعلاقات بين البشر.. حتى حينما يتحدث عن حقوق الإنسان فهي حقوق فردية لا تلزم بإحترام حقوق الشعوب والأمم والمجتمعات.. وهو المنطلق الفكري العقائدي الذي يتغطى به لتبرير تدخلاته السافرة في شؤون المجتمعات البشرية والعدوان عليها وسلبها مقدراتها وحرياتها ومصائرها.. وهو أهم أسباب حروبه العدوانية التي يشنها في كل مكان من العالم؛ وأحد أهم دوافعها.. وهذا ما جعل مسيرته ملازمة لصفة الإستعمار حيثما حل وارتحل وصولاً إلى مرحلة الإمبريالية وهي أعلى مراتب الإستعمار العدواني المنحط..

وحينما يتحدث عن الحرية فإنه لا يعني سوى تلك الحرية الفردية التي تبيح للإنسان الفرد التحلل من كل إرتباط إجتماعي أو قيمي أخلاقي وهو ما أوصله إلى التعايش مع كل انواع الإنحرافات السلوكية ووصل به الأمر أن صار إحترام حرية “المثلية” ضرباً من ضروب السلوك المتحضر الراقي وما هو كذلك بأي حال.. تلك المثلية التي أضفى عليها نوعاً من القداسة فصارت معياراً للتقييم بعد أن كانت شذوذاً وانحرافاً نفسياً وعضوياً يحتاج إلى معالجات ملحة..

كذلك حينما يتحدث عن حقوق المرأة فلا يعني سوى حريتها الفردية في الإنفكاك من أية إلتزامات أسرية إذ لا وجود للأسرة في قاموسه ونموذجه الفكري- العقائدي أو الاجتماعي.. وهو ما أوصله إلى إستغلال المرأة جسدياً أبشع إستغلال لتكون أحدى أهم أدواته في الإغراء التسويقي لمنتجاته المادية الإستهلاكية يحقق بها ومن خلالها المزيد من الأرباح مزيناً لها انحرافاتها السلوكية وتفككها الأسري وحياة التشرد واللامبالاة..

إن نظرة شاملة موضوعية على واقع الانسان والمجتمعات الإنسانية قبل خمسين سنة فقط توضح الفارق الكبير وعلى كل المستويات وفي كل مجالات الحياة المادية والثقافية والنفسية والأخلاقية بين ذلك الزمن ومواصفاته وبين عالم اليوم…

إن التخلص من تلك المعايير الفردية- النفعية التي صنعتها وعممتها العولمة الرأسمالية هو الطريق الصحيح السليم لمعالجة الأزمات النفسية للانسان المعاصر وإعادة صحته النفسية المتوازنة إليه؛ مقدمة لإعادة الصحة البدنية الى وضعها المعتدل  القويم..

وعلى هذا الأساس يصبح واجباً على كل إنسان حر حريص على وجوده وبنيته النفسية والعضوية المستقرة المتوازنة أن يعمل في إطار الجماعة الإنسانية المتعاونة المنظمة في مقاومة العولمة ونمطها اللاأخلاقي وإزالة آثارها السلبية من نطاقه الشخصي والإجتماعي ثم الوطني ثم القومي..

وهذا يستدعي تمسكاً جماعياً بالخصائص المحلية للجماعات البشرية أي هوياتها الوطنية والقومية ومعها قيمها الأخلاقية- الاجتماعية.. وتعاوناً مفتوحاً متواصلاً بين كل الأحرار الحريصين على مستقبل أفضل للإنسان والبشرية جمعاء ..

إن مثل هذه المواجهة مع ذلك النموذج المتهافت بدءاً من الإلتزام بالخصائص المجتمعية مروراً بتدعيم البناء الأخلاقي- القيمي لكل الجماعات الإنسانية بما فيها حماية وتمتين الروابط الأسرية وكل أشكال التضامن الإنساني؛ سوف تشكل بداية حقيقية لوقف تسيد العولمة الرأسمالية المتوحشة على العالم ثم مقدمة لازمة لا بد منها لوضع حد لفساد النظام العالمي المفترس القائم حالياً والمتداعي أيضاً في إنتظار البدائل المتنوعة فكرياً وثقافياً وأخلاقياً أيضاً.. بدائل تقوم أولاً على العدل في كل المجالات كقيمة انسانية اجتماعية راقية سامية لن تستقر مجتمعات بغيرها..

وما لم يحصل هذا فسيبقى الجميع تحت تأثير المزيد من توحش الرأسمالية وإفتراسها لكل ما هو إنساني أخلاقي جميل.. رغم إنحرافها البيِّن وتهافتها الواضح وتداعيها المتزايد..

إن الأمن النفسي للإنسان المعاصر لن يتحقق في ظل هذا النموذج الرأسمالي المعولم.

إن إقامة العدل واحترام الفطرة الإنسانية السليمة والهويات المجتمعية والتزام القيم الأخلاقية النبيلة؛ ثلاثة قواعد أساسية لتحقيق أمن نفسي متوازن لكل إنسان طبيعي سليم. وما الصحة النفسية إلا نتاج بديهي لاحترام تلك القواعد الثلاثة.

المصدر: صفحة الكاتب على وسائل التواصل

التعليقات مغلقة.