الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ركائز النهضة المصرية فى عهد محمد علي باشا

أحمد عبدربه *

بعد أن استتبت الأمور المالية لمحمد على باشا، وبعد أن عضد حكمه لمصر ووضع يده على مقاليد أمورها، وحصل على مكانة عالية لدى الباب العالي، فقد قضى ما تبقى من عمره فى تحديث مصر ورسم شخصية متمايزة لها عن الأقطار المغايرة. ويلاحظ هنا أن محمد على قد سبق الدولة العثمانية فى الفطون إلى أهمية التحديث والتنمية اقتضاء بالنمط الغربي، ولا سيما الفرنسي الذى تأثر به فى صباه وشبابه، فأصبحت مصر فى عهده واحدة من أكثر الأقطار تقدماً فى المنطقة، وذاع صيت محمد علي وابنه إبراهيم لدى الدول الأوروبية وفى شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام.

***

ما يعنينا هنا ليس فقط تسلسل الأحداث، ولكن استخلاص أهم الركائز السياسية التي اعتمدها محمد علي لتحديث البلاد، ويمكن هنا رصد سبع استراتيجيات اتبعها فى عملية التحديث أهمها (لمزيد من التفاصيل، انظر إلياس الأيوبي، محمد علي.. سيرته وأعماله، الصفحات من (76 إلى 94):

أولاً: أنشأ محمد على الدواوين التي ضمت الخبراء والأعيان ليساعدوه فى الحكم المحلى وإدارة الشئون الداخلية للبلاد، كما قام بإنشاء نواة السلطات التنفيذية الحديثة بإنشاء وزارة للحربية تكون مختصة بالشؤون الدفاعية الخارجية وأخرى للداخلية تكون مسئولة عن الأمن الداخلي للبلاد، بينما استأثر هو بالشئون الخارجية والسياسة المالية والأشغال الداخلية بما فيها الإشراف على البنية التحتية للبلاد.

كذلك فقد قسم البلاد إلى 64 قسماً، وعين على كل قسم ناظراً- للقسم وهو ما يعادل المحافظ الآن- وكل قسم بدوره انقسم إلى مراكز، وعين على كل مركز مأموراً للمركز، وبدورها انقسمت المراكز إلى مديريات وعُين على كل منها مديراً، أما المديريات فقد شملت العديد من القرى والنجوع ترأسها «مشايخ» وكانت مهمة كل منهم جمع الضرائب وتنظيم التجنيد بين أبناء هذه القرى. وهكذا فقد بدأ محمد علي أول تقسيم إداري وسياسي فى تاريخ مصر الحديث.

ثانياً: قام محمد علي بتحديث الجيش والتخلص من الجنود العاملين لبعض الوقت، واعتمد الجندية النظامية، وحرص على أن يكون بين الجنود تنوع من الملل والنحل، للتأكيد على تحديث الجيش وانتمائه لمصر دون غيرها. كذلك فقد قام محمد علي بتحديث تدريبات الجيش البدنية والحربية، كذلك فقد قام ببناء عمارة (جيش بحري) متقدم وقام بتزويد الجيش بـ 1500 مدفع، ونشرها على السواحل المصرية.

ثالثاً: قام محمد علي بتحديث التعليم والمعارف، وكانت أولى الخطوات هي تحديث المناهج. بحيث لم يتم اقتصار المناهج على العلوم الشرعية كما صارت الأمور قبله، ولكن تمت إضافة إليها العلوم الاجتماعية والتطبيقية، ولم يكتف محمد علي بالكتاتيب والجوامع، حيث لم يوجد قبل عهده مدارس سوى تلك المخصصة للنخب والمقيمين الأجانب، فقام محمد علي بإنشاء المدارس الابتدائية والثانوية والعليا والخصوصية (الفنية). ففي عهده تم إنشاء 47 مدرسة ابتدائية فى كل المدن والأقسام الرئيسية (المحلة الكبرى، زفتي، المنصورة، الزقازيق، الجيزة، بنى سويف، الفيوم، المنيا، وأسيوط وسوهاج، وإسنا.. إلخ).

أما المدارس الثانوية والعليا والخصوصية فقد بني منها 24، منها مدرسة قصر العيني، ومدرسة اللغات (الألسن)، ومدرسة المعادن، ومدرسة الطب البيطري، والطب والتوليد والموسيقى والفنون والصنائع… إلخ.

وتشير المصادر التاريخية ومنها عبدالرحمن الرافعي فى كتابه «عصر محمد علي»، فى طبعته الخامسة الصادرة عن دار المعارف فى 1989 إلى أن محمد علي وجه بالتعليم الإجباري على بعض الطلاب المختارين من الريف والمدن، حيث وصل العدد فى البداية فى المدرسة الواحدة إلى 50 تلميذاً ثم تم زيادة الأعداد لاحقاً إلى 150 طالباً عين لهم أفضل المدرسين وكانت تلك بداية ونواة نخبة مصرية متعلمة ومثقفة ساعدت مصر لاحقاً فى بسط ريادتها فى العالم العربي وأفريقيا.

رابعاً: قام محمد على بنهضة إنشائية واسعة بطول البلاد وعرضها، شملت إنشاء المصانع والمحاجر والسدود والجسور، بالإضافة إلى إنشاء الترع والقناطر. كذلك فقد قام محمد على ببناء العديد من السرايا ومنها سراي رأس التين وسراي شبرا، وسراي قصر النيل، كما قام بإنشاء المتنزهات والحدائق العامة، وقد ظلت كل هذه البنى باقية حتى بداية عهد الجمهورية شاهدة على التطور الكبير فى عصر الباشا.

خامساً: بعكس المماليك، انفتح محمد علي بقوة على الغرب، حيث حرص على دعوة الأوروبيين المجيء إلى مصر والاستثمار فيها، وأنشأ لأولادهم المدارس، كما قام أيضاً بتنظيم سفر المصريين إلى الغرب للتعرف عليه والاستفادة من علمه وتقدمه. ففي كتابه «البعثات العلمية فى عهد محمد علي ثم فى عهد عباس حلمي»، الصادر عن مطبعة صلاح الدين بالإسكندرية (لم أستدل على تاريخ النشر) رصد الأمير عمر طوسون عدد البعثات العلمية التي تم إرسالها فى عهد محمد علي إلى الخارج وبلغت خمس بعثات، كانت الأولى عام 1813 إلى إيطاليا لتعلم الفنون العسكرية وبناء السفن، والطباعة والهندسة، والثانية عام 1818 إلى فرنسا لإتقان الفنون الحربية والبحرية، ثم كانت البعثة الثالثة إلى فرنسا أيضا عام 1826 لتعلم فنون الإدارة والسياسة والفنون الحربية والعلوم الهندسية، وكانت هذه البعثة هي الأكبر حيث شملت 65 طالباً تم إرسالهم على عدة دفعات.

ثم كانت البعثة الرابعة إلى فرنسا والنمسا وإنجلترا لتعلم الصنائع المختلفة من سراجة ونقش ودهان ونسج وطبع السيوف وإنشاء السفن والأجواخ، بالإضافة إلى تعلم فنون الطب الحربى (جراحات مصابي الحروب)، وقد بلغ عدد أعضاء هذه البعثة 54 طالباً، ثم بعثة خامسة إلى فرنسا عام 1844 وكانت تشمل عدداً كبيراً من المعلمين، بالإضافة إلى طلاب العلوم الحربية. وهكذا فقد أرسل محمد علي عشرات المبتعثين لنقل التجربة الأوروبية بكل تفاصيلها إلى مصر، ويمكن الرجوع للمرجع السابق (متاح إلكترونيا)، لمعرفة مدى دقة القوانين واللوائح التي نظمت عمل هذه البعثات وما يمكن للطلاب فعله أو الامتناع عن فعله، وكذلك جداول المذاكرة والامتحانات والجوائز التي حصل عليها المبتعثون.. إلخ.

سادساً: حاول محمد علي أيضاً إنشاء قوانين لتنظيم الحياة المدنية والمساواة بين المواطنين وحمايتهم من أي جور أو تعدٍ عليهم لطالما احترموا القانون ولم يرتكبوا الجرائم، ورغم ذلك فقد بدأ تنفيذ هذه القوانين فى وقت بدأ المرض والشيخوخة يضرب محمد علي باشا فلم تطبق هذه القوانين بإحكام، فاستمر طغيان عليةَ القومِ وأعيانهم على المواطنين البسطاء بين الضرب المبرح والقتل وسلب الحريات، ولم تكن توقع عليهم أي عقوبات تذكر، اللهم إلا مبالغ مالية ضئيلة لم تردعهم عما يقومون به.

سابعاً: حرص محمد علي أيضاً على تمييز الشخصية المصرية وتمايزها عن هويات الشعوب المجاورة وقد حرص على تعضيد هذه الهوية فى خطب المساجد وفى المناهج التعليمية وكذلك فى الجندية والحروب التي خاضها جيش محمد علي فى السودان وفى سورية وفى فلسطين وفى اليونان. والحقيقة أن الحروب الناجحة التي خاضها محمد علي فى هذه الأقطار قد عضدت هذه الهوية أو لو شئنا لنقل الوطنية المصرية على نحو لم يحدث لأى قطر آخر تابع للخلافة العثمانية، بل إن القومية التركية نفسها لم تتشكل بشكل متمايز سوى بعد ذلك بنصف قرن على الأقل.

***

كما هو متوقع، لم يدم الود طويلاً بين الباب العالي وبين محمد علي، وخصوصاً بعد دخول الأخير إلى حلب بعد أن سيطر على كل مدن الساحل الفلسطيني، حيث أرسل الباب العالي جيشاً لمواجهة جيش محمد علي، إلا أن جيش الأخير قد أبلى بلاءً حسناً وهزم الجيش العثماني فى معركة فقد فيها الجيش المصري 100 قتيل و100 جريح، فى مقابل ألفى قتيل من الجيش العثماني وآلاف الجرحى، مما دعا الباب العالي إلى الاستعانة بحلفائه فى أوروبا من أجل إجبار محمد علي على التراجع لاحقاً.

* باحث أكاديمي مصري ومدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.