الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كيف نكتب تاريخاً؟

ممدوح عزام *

يقدّم المؤرخ الأميركي(https://www.alaraby.co.uk/”أعداء-حميمون”-تاريخ-أميركا-والمشرق-كتابة-ورسماً) “هوارد زن” في كتابه الضخم “التاريخ الشعبي للولايات المتحدة” تاريخاً آخر يمكن القول إنه تاريخ الناس الذين أهملهم كتاب التاريخ.

و قد يكون في هذا الكتاب الكثير من التفاصيل التي لا تهمّنا، و لكن الهام فيه أكثر من ذلك.. إذ اختار (هوارد زن) أن يكشف “عما تم إخفاؤه من أحداث الماضي” حيث “أظهر الناس قدرتهم على المقاومة و التلاحم والتضامن” كما يقول في مقدمته.

و طريقته في الكتابة لا أن يحكي عمن أهملهم التاريخ، بل أن يدعنا نقرأ تلك الشهادات التي سجلوها و هم يصنعون مصائرهم.. فهم “الهنود الحمر”( https://www.alaraby.co.uk/مأتم-اكتشاف-أميركا) من قبيلة أراواك، و غيرها من القبائل، الذين أبادهم كولومبس و المستعمرون البيض أو كادوا، و هم الأفارقة الذين اختطفهم أحفاد أولئك القتلة من أرضهم و استعبدوهم، و هم النساء اللواتي عانين ظلم الرجل و عبوديته، كما هم الكتّاب الذين ترجموا هموم الناس في مؤلفاتهم الروائية، مثل “ابتون سنكلير” و”جاك لندن”.

و يلاحظ (هوارد زن) أن العمّال الأميركيين لم تخدعهم شعارات الوطنية التي تسبغها الرواية الرسمية على حروب أميركا(https://www.alaraby.co.uk/جاك-هيرشمان-هجّاء-حروب-أميركا-ووحشية-الرأسمالية).. و لكي تعرف الرواية الأخرى عن ازدهار التصنيع، ابحث عن وجهة نظر العاملات اللواتي تمّت التضحية بهن من أجل الرأسمالية.. و هو يضمّ تاريخ النساء، و التاريخ من وجهة نظر النساء إلى سرده التاريخي، حيث يقدّم شهادات العشرات من النساء اللواتي تعرضن للقهر و الاغتصاب و العبودية في التاريخ الأميركي، إلى جانب أولئك اللواتي خضن أو قدن تمرّدات كبرى ضد سلطة الرجل.

المعتاد أن نقرأ تاريخ القادة و العظماء و الأباطرة و الملوك و غيرهم.. هذا هو المشهد المرئي لنا منذ أن بدأنا القراءة و تصفّح كتاب التاريخ في المدارس و الجامعات.. بينما ينقُضُ تاريخ “زن” المقولة القائلة بأن هؤلاء هم الذين يصنعون التاريخ، و تاريخه ليس تاريخاً للمغلوبين تماماً؛ إذ لم ير التاريخ في منظور المعركة، بل من منظور الراوي، أو من منظور الناس الذين يسعون لمقاومة الظلم و محاولة التغلّب عليه، و يروون ذلك في سيرة حياتهم و في كتاباتهم.. ففي كل فصل من فصول الكتاب يستنطق المؤرخ أولئك الذين تغاضى التاريخ عن كلماتهم.

و يمكن اعتبار هذا الكتاب محاولة لاختراق التلفيق القومي للهوية، كما أشار إلى ذلك ’’إدوارد سعيد‘‘ في مقالة قديمة سبقت ترجمة كتاب ’ زن ‘ إلى العربية، حيث يستمد المؤرخون الأميركيون مضمون تلك الهوية من “الانتصارات” التي حققتها أميركا في تاريخها، ابتداء من تفوّقها على السكّان الأصليين لتلك الأرض، و انتهاء بآخر شعب غزت الولايات المتحدة أرضه.

و ربما يضعُ ذلك المؤرخَ العربي أمام السؤال عن التاريخ و الهوية.. فما الهوية العربية في التاريخ و الحاضر؟ هل هي تاريخ الحكّام و الملوك أم هي تاريخ الناس؟ هل تُستمد تلك الهوية من معارك التحرير ضد الاحتلالات الأجنبية، أم تؤخذ من تاريخ الاستبداد الذي عانت منه الشعوب العربية طوال تاريخها؟ أين تكمن هويتنا؟ في حطين و عين جالوت، أم في المذابح التي ارتكبت في السنوات السبع الماضية في العشرات من المدن و البلدات السورية؟ أم إنها حاضرة في كلا الأمرين؟

* كاتب وروائي سوري

المصدر: العربي الجديد

التعليقات مغلقة.