الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الأراضي العربية في المساومات السياسية الدولية

رياض معسعس *

الأرض كأحد عناصر الدولة (أرض، شعب، سلطة) ولا سيادة بدونها، لها أيضا قدسيتها في قلب كل من ولد وعاش فوقها، وحنينه أبداً ” لأولِ منزلِ “. والأراضي العربية تنسحب كالبساط من تحت أقدامنا بتواطؤ الأنظمة حينا، أو القوى الخارجية أحيانا لصالح دولة الاحتلال.

جوهر الصراع:

الأرض كانت ولا تزال هي جوهر الصراع بين الدولة المغتصِبة، والمغتصَبة. فعصابات الصهاينة الذين احتلوا جزءا من الأراضي الفلسطينية ليرفعوا عليه علم دولتهم المغتصِبة، ما فتئت تتمدد فوق الأرض العربية بدعم أمريكي، وتواطؤ عربي، وصمت دولي.

بعد احتلال أراضي فلسطين بعد قرار التقسيم في العام 1947 كانت دولة الاحتلال تنتظر فرصة مناسبة لتنقض على باقي الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، ولم تكن تتوقع ذات يوم أن تحتل أراضي من دول الطوق (سوريا، مصر، لبنان).

وهذه الفرصة المنتظرة من قبلها كلص مختبئ وراء أكمة ينتظر اللحظة، هذه اللحظة قدمتها لها هذه الدول نفسها على طبق من فضة. ففي الملهاة ـ المأساة الحزيرانية خسرت مصر سيناءها بعد تدمير سلاح الطيران في الساعات الأولى من المعركة، ووصلت آليات موشي ديان سريعا إلى قناة السويس. واحتلت ما كانت تصبو إليه (الضفة الغربية وغزة) أي كل الأراضي الفلسطينية.

الجولان وحرب حزيران:

أما الجولان فقد تم احتلاله دون مقاومة بعد أن أمر حافظ الأسد ( وزير دفاع آنئذ) الجيش السوري بالانسحاب طوعيا من منطقة تعد الأكثر تحصينا من كل الجبهات العربية، دون أن يطلق طلقة واحدة باتجاه دولة الاحتلال.

ومعظم من شهد الواقعة قال: كان من الصعب جدا على أي قوة اختراق الجبهة السورية المتمترسة في أعالي الجولان، وعزا البعض هذا القرار أن حافظ الأسد قدمه “كمقايضة سياسية” لدولة الاحتلال مقابل دعمه في اعتلاء السلطة في سوريا، وبقيت معظم مساحة الجولان محتلة إلى يومنا هذا بعد مفاوضات استرد فيها نظام الأسد مدينة القنيطرة. لكن المساومات في الجولان لم تنته. فدولة الاحتلال ضمت الجولان بقرار من الكنيست في العام 1982 دون رد فعل يذكر من قبل النظام السوري، ومنذ حوالي نصف قرن بقيت الجبهة السورية صامتة وكأنها تحولت إلى مقبرة يرين فيها صمت مريب إزاء هذا الاحتلال.

وجاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليزيد في الطنبور نغما ويعلن في العام 2019سيادة إسرائيل على الجولان في مساومة سياسية أخرى كشف عنها في مقابلة مع صحافي إسرائيلي قائلا: لقد اعترف ترامب أن قراره بالاعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان السورية عام 2019، كان بهدف إعطاء دفعة لصديقه “بيبي” في الانتخابات التشريعية، في حينه.. ونقل عن ترامب قوله: “كان سيخسر الانتخابات لولاي أنا” قام بهذا الاعتراف . وبالطبع فإن ترامب أيضا اتخذ القرار ليدعم ترشيح نفسه في الانتخابات الأمريكية التي كان سيخوضها ضد جو بايدن بإرضاء اللوبيات اليهودية والإنغليكانية.

وهكذا باتت أراضي الجولان ورقة في أيدي ترامب، والإدارة الأمريكية تستخدمها لأغراض سياسية داخلية، أو لدعم حليف لها في دولة الاحتلال، وكأن أراضي الجولان ملك ترامب وإدارته. ورغم كل هذه التطورات لم نسمع من النظام السوري المنشغل بدك المدن السورية أي ردة فعل تذكر على مستوى هذه المأساةـ الملهاة.

مطالبة النظام بلواء إسكندرون:

ومن المضحكات اليوم أن رئيس النظام السوري يطالب ليس باستعادة الجولان (الذي رفض أبوه استعادتها في العام 2000 بعد أن تقدم الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، ورئيس وزراء دولة الاحتلال إيهود باراك بمبادرة تنص على استعادة الجولان كاملا عدا بعض الكيلومترات على ضفة طبريا مقابل التطبيع كاتفاقية كامب ديفيد مع مصر، ووادي عربة مع الأردن)، وإنما باستعادة لواء اسكندرون من تركيا (لواء إسكندرون بدوره دخل في المساومات السياسية إذ منحته فرنسا، الدولة المنتدبة في سوريا، في العام 1938 مقابل عدم دخول تركيا الحرب العالمية إلى جانب حليفتها ألمانيا) مع علمه أن أباه قد وقع على اتفاقية “أضنة” مع تركيا في العام 1998 تخلى فيها عن المطالبة به (أحد بنود الاتفاقية التي كشف عنها الرئيس فلاديمير بوتين في لقاء له مع الرئيس التركي رجب أردوغان في بداية كانون الثاني/ يناير 2019 وكانت سراً كتيماً) والتي تنص في أحد بنودها:” اعتباراً من الآن، يعتبر الطرفان أن الخلافات الحدودية بينهما منتهية، وأن أياً منهما ليست له أي مطالب أو حقوق مستحقة في أراضي الطرف الآخر”. بمعنى آخر كفاكم المطالبة بإسكندرون، ورحم الله إسكندر المقدوني الذي بناها.

الأرض مقابل السلام:

المهزلة الحزيرانية أثبتت أن الجيوش العربية مجتمعة لا حول لها ولا قوة في مواجهة دولة الاحتلال، ما دفع أنور السادات للتوقيع على اتفاق كامب ديفيد في العام 1977 لاسترداد أرض سيناء مقابل التطبيع، وهذه المساومة أسعدت دولة الاحتلال لأنها من ناحية اعتراف بها من قبل أكبر دولة عربية، وتحييد مصر من الصراع العربي الإسرائيلي، وتبعها الأردن بتوقيع اتفاقية وادي عربة في 1994. وكذلك الفلسطينيون الذين وقعوا على اتفاق أوسلو باسترداد الضفة الغربية وغزة مقابل الاعتراف. وقد قدم العرب مجتمعين في مؤتمر قمة بيروت 1992 مساومة كبرى تحت مسمى الأرض مقابل السلام (خطة الملك عبد الله)، على أن تعيد إسرائيل كل الأراضي المحتلة قبل حرب حزيران-يونيو وقيام دولة فلسطينية، لكن دولة الاحتلال رفضت الخطة جملة وتفصيلا، واستمرت في غيها واحتلالها للأراضي الفلسطينية، والجولان، ومزارع شبعا في لبنان، وتخلى العرب عن المساومة في خطة الأرض مقابل السلام، بعد أن فقدوا الأرض، وفقدوا السلام، مقابل التطبيع المجاني على حساب الأرض والشعب، وتحول الشعار (غير المعلن)، الأمن مقابل التطبيع. فلبعض العرب عدو آخر يحتل قطعا من أراضيهم، ونفوذه يمتد إلى أربع دول على أقل تقدير ويخشى أن يتمدد أكثر، أما البعض الآخر فهم الذين جلبوا هذا العدو الجديد إلى ديارهم بمحض إرادتهم وخاصة في سوريا بطلب من النظام المستغيث لمنع سقوطـه: النجدة.

* كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.