الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الوحدة.. وما بعدها.. (1/4)


يمرّ الزمن طويلًا، وقد ينسى الناس – ولا سيّما الأجيال الجديدة – بعضَ صفحات التاريخ التي تركت آثارها في مسيرة سورية، والحاضرة بقوة، حتى اليوم، في حياتنا السياسية.. فلقد ذكرنا من قبل أن ما نقوم به هو تصوير تاريخي، باعتباره فعل تسجيلي وصفي بحت، دون التصوير التقييمي، وهو ما يمكن اتباعه في مقامٍ وجهدٍ آخر.
لا بد من استخلاص الدروس من التجربة التي مرت بها سورية، بدءاً من العهد العثماني مما ذكرنا قبلاً، حتى سقوط الجولان ونكسة/هزيمة 1967 وهو ما سنسطره الآن؛ قبل الولوج في تقديم تقارير مؤتمرات حزب الاتحاد والتي سنبدأ بأهمها وهو التقرير العام للمؤتمر الرابع نهاية عام 1967 وبداية 1968 .
إن حركة التاريخ، وفي أحيان كثيرة، لا تكون تكراراً على الاطلاق ، بل وغالباً ما تكون تجاوزاً لحدث قائم .. وهكذا كان الانفصال عملاً هداماً واجرامي وتجاوز مؤقت وعرضي لواقعة الوحدة.
كانت الجماهير السورية في مطلع سنة 1958، تردد بصوت واحد كالرعد، هتافها التاريخي، الذي يحمل كل المشاعر الفوارة التي فجرها ظهور شخصية البطل: «عبد الناصر يا جبار… يا محطم الاستعمار»، وبدأت أصداء هذا الهدير الشعبي الجماهيري، تصل إلى كل مكان داخل سوريا، إلى دوّر الأحزاب المتصارعة إلى ثكنات الجيش الخائفة المتربصة، إلى الجالسين منهمكين في ـ طق الحنك ـ بنادي الشرق، وفي مقاهي دمر، وإلى المتحدثين بالسياسة في علب الليل في بيروت.
فحين قام مجلس قيادة ثورة 23 تموز/ يوليو 1952 بقيادة جمال عبدالناصر، بتنفيذ أحكام الإعدام التي أصدرتها «محكمة الشعب» الاستثنائية الثورية برئاسة «جمال سالم»، بحق عدد من ألمع قياديي الصف الأول في جماعة الإخوان المسلمين بمصر، على خلفية حادثة ميدان المنشية الإخوانية الاجرامية بمدينة الإسكندرية في 22 تشرين أول/اكتوبر 1954 «بمحاولة أعضاء الجهاز الخاص للجماعة اغتيال عبدالناصر»، حينها لم تكن صورة المجلس في الرأي العام السوري، بسبب الدعاية الإخوانية، أكثر من «عصابة» عسكرية، انقلابية استولت على السلطة بدعم بريطاني، لتمرير ما سمي باتفاقية الجلاء التي تم ابرامها في 19 تشرين أول/اكتوبر 1954 ما بين مصر وبريطانيا، والتي شُجبت من قبل ممثلي الرأي العام السوري بوصفها اتفاقية بيع مصر للبريطانيين، وكانت كراهية الرأي العام مُنصبة بشكل أساسي على البكباشي جمال عبد الناصر!، إذ لم يفهم الرأي العام السوري بتأثير الدعاية الاخوانية المركزية والمُركزة في سوريا يومئذ ضد الثورة ومجلس قيادتها من الضباط الأحرار، سوى أنه اختطف «الثورة» من اللواء «محمد نجيب» – المتعاطف بالأصل مع الإخوان – وأقصاه، ومن هنا كان الرأي العام السوري مجّمعاً بكافة أحزابه العقائدية الراديكالية مثل البعث والشيوعيين، والبرلمانية الليبرالية مثل الحزب الوطني وحزب الشعب، وبرلمانه وحكومته على إدانة الاعدامات، ولقد وصل الحال بهم لتسيير تظاهرات احتجاجية في كل المدن السورية تحت يافطات عديدة تكررت فيها يافطة رئيسية حملت عنواناً بالخط العريض هو «لتسقط حكومة البكباشية» وهو ما يُفسر أن قواعد حزب البعث العربي الاشتراكي النافذ يومئذ في أوساط الشباب والمثقفين والفلاحين، «كان له 19 مقعدا في البرلمان»، قد شاركت بمعظمها في هذه التظاهرات الحاشدة – رغم محاولة «أكرم الحوراني» «قائد جناح العربي الاشتراكي» الذي اندمج مع البعث ليتم تشكيل حزب البعث العربي الاشتراكي في عام 1953، بتأثير الصدام الحاد المستدام ما بين «الاشتراكيين» و«الإخوان» في مدينة حماة السورية، معقل الاشتراكيين، الضغط على قيادة البعث لعدم المشاركة في هذه التظاهرات الداعمة لـ «عصابة» رجعية حاقدة كما وصفها «الحوراني» – ولقد تدهورت بتأثير ذلك العلاقات المصرية – السورية، إذ قامت الحكومة السورية بمنح حق اللجوء السياسي للقادة المصريين المُعارضين الستة «خمسة من الإخوان وواحد من الوفد» الذين كانوا في سوريا، حين تم اسقاط الجنسية المصرية عنهم؛ وانعكس العطف السياسي الشعبي والحكومي السوري على الإخوان كـ «ضحايا» حسب رؤية تلك الأيام!، في إلغاء الحكومة السورية في 8 حزيران/يونيو 1955 للقرار السابق للرئيس «اديب الشيشكلي» بحل جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وعودة الجماعة بالتالي إلى إطار العمل القانوني الشرعي؛ لم تتغير الصورة النمطية – الانقلابية للمجلس الثوري المصري عموماً ولـ جمال عبدالناصر خصوصاً في الرأي العام السوري، إلا مع وقوف مصر الحازم ضد سياسة حلف بغداد التي تبناها رئيس الوزراء العراقي «نوري السعيد»، والتي كانت تقوم على ربط معاهدة الدفاع العربي المشترك التي تُمثل النظام الامني الاقليمي للجامعة العربية بالحلف التركي – الباكستاني المتكامل مع خطة تطويق الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة، ولقد دمج «نوري السعيد» يومئذ مشروعه القديم (الهلال الخصيب) في خطة الحلف، كي يستولي على سوريا، ويتم تنصيب «الامير عبدالإله» الوصي السابق على العرش في العراق ملكاً عليها، في حين تبنى عبدالناصر سياسة عدم الانحياز، وتفعيل معاهدة الدفاع المشترك العربية كأساس للناظم الأمني الاقليمي العربي، ورفض أي ربط لهذا النظام مع الأحلاف العربية ضد الاتحاد السوفييتي.

يذّكر الدكتور «جمال الأتاسي» وفي عام 1954، أنه خلال اجتماع في بيروت ضمه إلى جانب «ميشيل عفلق» و«صلاح البيطار» و«كمال جنبلاط»، وكان اللقاء لتقييم الوضع في مصر بعد إبعاد «محمد نجيب» حيث اقترح كل من «ميشيل عفلق» و«كمال جنبلاط» إرسال برقية مشتركة باسم حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب التقدمي الاشتراكي، إلى جمال عبد الناصر آملين فيها أن ينص دستور مصر الذي يجري إعداده على الانتماء القومي العربي لمصر وعلى الالتزام بقضية الوحدة العربية.. قال الدكتور «جمال الأتاسي».. لكن جمال عبد الناصر كان سباقاً إلى ذلك فقد خرج الدستور وهو ينص على أن مصر جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، قبل أن تصل البرقية .

لقد كان حلف بغداد يومئذ حلقة أساسية من حلقات أحلاف الحرب الباردة، وحوّل هذا الحلف سوريا إلى عقدة الصراع والاستقطاب الدوليين؛ صحيح أن صفقة الاسلحة التشيكية التي تمكن عبدالناصر من ابرامها في 27 أيلول/سبتمبر 1955 قد فتحت الباب على مصراعيه أمام تغير نظرة السوريين جذرياً لضباط 23 تموز/يوليو، من ضباط انقلابيين متعطشين للسلطة إلى ثوار تحرّرُيين، إلا أن الموقف المصري من حلف بغداد، وإبرام اتفاقيات دفاعية مصرية – سورية لمعارضته بالقوة قد فتح الباب أمام تأميم عبدالناصر لقناة السويس ووقوع العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956؛ وتغيرت صورة عبدالناصر هنا، في سورية، جذرياً إلى بطلٍ قومي عربي؛ لقد سبق لـ «محمود رياض» الذي عينه عبدالناصر سفيراً مصرياً في دمشق كي يتصل بممثلي الرأي العام السياسي السوري، ويوضح حقيقة مبادئ السياسة التحررية المصرية في المجال الخارجي، القائمة على التكتل العربي ومحاربة الاستعمار وتصفيته في افريقيا، أن لعب دوراً مهماً في توضيح سياسة مصر العربية، لقد كانت هذه السياسة غامضة لدى مجلس قيادة ثورة 23 تموز/يوليو، ولم يحسمها إلا عبد الناصر في فبراير 1954 حين تم إعلان مبادئ تلك السياسة ولم يكترث السوريون بذلك الإعلان لكن الوقوف ضد حلف بغداد، وصفقة الاسلحة التشيكية وتأميم القناة ومبادئ باندونج جعلتهم يُدركون بشكل ملموس ماذا تعنيه .

إثر العدوان الثلاثي، وبعد أن مزق عبدالناصر اتفاقية الجلاء إرباً، وهي العنصر الحاسم في صدامه الدموي مع الإخوان في مصر، كان الإخوان المسلمون في سوريا هم أبرز من غيّر نظرته إلى عبدالناصر، و أعلنوا وقوفهم خلفه في مقاومة العدوان الثلاثي، وتصدر البعث في هذه الفترة شعار الاتحاد ما بين سوريا ومصر أولاً ثم حوله إلى شعار الوحدة ما بين القطرين؛ كانت سوريا يومئذ محكومة بجبهة مدعومة من الجيش، وأدى التحالف السياسي والدفاعي (السوري- المصري) ثم (السوري- المصري- السعودي) فـ (السوري- المصري- السعودي- الأردني)، وطرد «غلوب باشا» من الاردن، وإلغاء الاتفاقية الأردنية- البريطانية، إلى ازدياد الضغط العراقي إقليمياً والأميركي دولياً على سوريا لإسقاط الحكومة السورية إنقلابياً ومؤامراتياً، وجرّها إلى حلف بغداد، بقدر ما سارت سوريا بعيداً في توقيع اتفاقيات عسكرية واقتصادية مع الاتحاد السوفييتي رأى الأمريكان أنها تهدد بتحويل سوريا الى قاعدة شيوعية.. لقد مزق هذا الصراع النخب العسكرية والسياسية السورية، وشكلت هرولة الرأي العام السوري بكل قواه وجيشه وحكومته وبرلمانه (باستثناء أصوات محدودة) نحو الوحدة مع مصر، مخرجاً وحيداً في هذا التمزق، في سياق تحول حركة القومية العربية الى قوة ضاغطة ملموسة؛ وكان قيام الجمهورية العربية المتحدة في 22 شباط/فبراير 1958 تتويجاً لذلك، إذ تحولت سوريا إلى إقليم شمالي في دولة واحدة، ولقد أيد كل أطراف الرأي العام السوري حل الأحزاب وقيام الوحدة، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين ولجان الحزب الشيوعي السوري التي باتت تقود العمل بعد مغادرة أمين عام الحزب «خالد بكداش» إثر جلسة البرلمان السوري بالمصادقة على الوحدة مع مصر.

وبذلك، تُرجم شعار «ارفع رأسك يا أخي، لقد مضى عصر الاستعباد» ترجمة عملية وإنسانية، ولأول مرة منذ آلاف السنين تتغير العلاقات الاجتماعية في الريف والحَضَر، ويحل «تحالف الشعب العامل»؛ تحالف الأغلبية، محل «تحالف النصف في المئة»، وأتاحت الثورة للتحالف الأول أن يتبوّأ مكانته المُسْتحَقة، واستهدفت بذلك تذويب الفوارق بين الطبقات، والتوسع في الحيز الذي تشغله القوى المنتجة، وزيادة المساحة المتاحة لنمو الطبقة الوسطى؛ بما لعبت من دور تاريخي، حوَّل مصر لورشة كبرى للإنتاج الزراعي والصناعي والعسكري، الخفيف والثقيل، والمنزلي والنفطي والإلكتروني؛ وغذت بذلك «حراكاً اجتماعياً» كان جامداً، وسيولة اجتماعية سمحت بالانتقال من طبقة أدنى إلى طبقة أعلى، وارتفع مستوى وعي الفلاحين والعمال والحرفيين وصغار الكسبة، وساعد على ذلك الدور المتميز للأكاديميين والعلماء والمثقفين والخبراء والمبدعين في كل مجال، ووصل الأمر لكل ما كان يُستهلَك من إنتاج مصر تقريباً.. و حين تيقن حلف النصف في المئة من صحة مقولة شمول الإنتاج «من الإبرة إلى الصاروخ»؛ سَخِروا وتندروا من ذلك، وواكب ذلك ارتقاء الثقافة والفنون والآداب والمعارف بأنواعها .

وعلى مستوى آخر، تولى ثلاثي الهند ومصر ويوغوسلافيا؛ الدعوة لقيام تجمعات إقليمية وقارية ودولية مستقلة؛ بعيداً عن استقطابات الكتل والأحلاف الغربية المتصارعة والمتناقضة؛ بدأت بمؤتمر التضامن الأفرو آسيوي في باندونج 1955، وولادة تجمع الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وجمع دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وبعض دول أوروبا، وصار له صوت مسموع في المحافل والمنتديات الإقليمية والقارية والدولية، وبذلك الحضور المكثف استشعرت القوى الاستعمارية الخطر، وبتأثير العرب ـ وفي القلب منهم مصر ـ تحت أعلام ثورة 23 تموز/يوليو ودعمها لقوى التحرر والثورة والتغيير، وكانت فترة مّـادت فيها الأرض من تحت أقدام الاستعمار وإفرازاته العنصرية والاستيطانية .

ولما كانت مصر في ذلك الوقت رقماً صحيحاً؛ يمثل إضافة كبرى لقوى التحرر والتنمية والوحدة القومية، على المستويات العربية والعالمثالثية، وقتها وجد الاستيطان الصهيوني في فلسطين من يقاومه و يندد به ويدين تشريده شعبها وطرده من أرضه ودياره، وكان لزعيم ثورة يوليو وقائدها عبد الناصر حضورٌ طاغٍ وتأثيرٌ بالغ، بدرجة أقلقت الحركة الصهيونية وظهيرها اليورو أمريكي، واستشعرت خطر الأفكار والمبادئ التي عمل جاداً على تحقيقها، فحيكت المؤامرات ضده.. و عملت الحركة الصهيونية ورديفها الغربي والعربي والإسلامي على تصفيته، والقضاء عليه، والوقائع أكبر من أن تُحصر.

الكيد للوحدة قبل بزوغ فجرها:
لقد تواصلت اجتماعات مجلس حلف بغداد في العاصمة التركية أنقرة ليومها الثالث والأخير، الذي كان 30 كانون ثاني/يناير، من عام 1958، لمناقشة خطط إفشال وحدة مصر وسوريا التي كانت تمضي في خطوات إنجازها، كل ذلك قبل أن ترى الوحدة النور؛ ومن واقع محاضر الاجتماعات، قال وزير الخارجية البريطانية «سلوين لويد»، إن هناك ثلاثة بدائل مطروحة أمامهم، أولها – على حد تعبيره – «أن نقبل الوحدة المقترحة، وثانيها، أن نعارضها بضراوة، مستخدمين كل الوسائل المتاحة لنا، ونحاول أن نمزقها على الفور، وثالثها، أن نقبل الوحدة ظاهريا ونعمل على تحطيمها النهائي»، وإن «لويد» شرح تقديره لطرحه، قائلاً: «برغم أن البديل الثاني بالتأكيد الحل المثالي الذى ننشده، إلا أن الفشل في تحقيقه وانعكاسات هذا الفشل المحتمل سيكون نصراً دبلوماسيا للروس، أما إذا تبنينا البديل الثالث وهو «قبول الوحدة ظاهريا والعمل على تحطيمها» فسيكون أمامنا مجالات عديدة للعمل، منها أننا نستطيع تأييد وحدة عربية بين الأردن والعراق والسعودية، وتشجيع المعارضة داخل سوريا، والقيام بحملة إعلامية لتصوير الوحدة على أنها صفقة خاسرة للشعب السوري، الذى سيفقد بالتأكيد استقلاله بعد الوحدة، نتيجة لما سيترتب عليها من إذابة سوريا في مصر» .

بعد أن تحدث «لويد»، طرح وزير الخارجية الأمريكي «فوستر دالاس» وجهة نظره قائلاً: «الوحدة سيكون لها آثاراً خطيرة على المصالح الغربية والدول العربية الأخرى، والأمر لن يكون مجرد سيطرة عبد الناصر على العالم العربي، بل سيطرة السوفيت، إذ إن هناك احتمالاً كبيراً بأن عبدالناصر قد تحرك بتأييد من السوفيت»، وأكد «دالاس» على أنه إذا ما تبنى الغرب موقفاً سلبياً إزاء الوحدة المقترحة، فسيكون هناك خطر كبير لابتلاع الأردن ولبنان يليهما العراق والسعودية، وأضاف «دالاس»: «من الضروري مقاومة هذه الوحدة، ولا بد أن يتم ذلك بشكل عاجل جداً، وأقر «دالاس» ما ذكره «سلوين لويد» عن خطورة العداء المكشوف للوحدة، وأنه لا ينبغي الإقدام على تلك الخطوة إلا إذا كانوا على ثقة تامة من قدرتهم على إحباط هذه الوحدة».
على هذا النحو، كان القلق والخوف والرفض، هو ما ربط بين جميع المتحاورين، وأنشأ فيما بينهم تحالفاً قوياً على هدف محدد، هو ضرورة مقاومة الوحدة، وكان السؤال هو: كيف؟ .

لقد كان هناك ثلاث خصائص أساسية للمنهج الذى قررت الولايات المتحدة – حسب ما أعلنه «دالاس» – أن تتبناه:
1-  أن الولايات المتحدة لن تتخذ المبادرة في مواجهة الوحدة .
2 – أي مبادرة لا بد أن تأتى من قبل دولة عربية وليس من جانب دولة غربية .
3 – الولايات المتحدة ملتزمة بمساندة أي مبادرة عربية في هذا المجال .
وأكد «دالاس» على أن الموقف الأمريكي من هذه الوحدة سيُرتهن إلى حد كبير على مواقف الدول العربية منها، وإذا لم يكن هناك دولة عربية مستعدة للعمل ضد الوحدة، فلن يكون هناك ما تستطيع الولايات المتحدة القيام به إزاءها؛ وأن دالاس لم يُخفِ شكوكه في وجود طرف في المنطقة تستطيع الولايات المتحدة العمل معه، والاعتماد عليه في تحقيق أهدافها، بل إنه أعلن ذلك بقوله: «لسنا واثقين من أن هناك دولة عربية مستعدة أن تعمل بتأييد من الولايات المتحدة»، و«في الواقع، الشخصان الوحيدان اللذان على استعداد للقيام بعمل فعال في المنطقة هما عبد الناصر، و«بن جوريون» رئيس وزراء اسرائيل» .

إن البريطانيين وافقوا على هذه السياسة الأمريكية، التي ترتكز على أصدقاء الغرب في المنطقة ومساعدتهم، فأقر «سلوين لويد» ما ذكره «دالاس» بأن عملية إجهاض الوحدة لا بد أن تجرى على أيد عربية بدلاً من أيدٍ غربية، وأعلن أن موقف بريطانيا يتطابق مع موقف الولايات المتحدة كل التطابق، بقوله: «لن نقوم بأي مبادرة، حاولنا ذلك في العام الماضي ولم ننجح في تحقيق أي شيء.. و أن رد الفعل إذا ما جاء من جانب الدول الغربية، فلن يتيح سوى اتهامها بالإمبريالية، ولهذا فإن المطلوب هو رد فعل عربي موحد، يؤدى إلى نموذج جديد للتعاون العربي وإلى تجمع عربي آخر، وإذا حدث هذا فإن بريطانيا سوف تؤيده» .

ولمنع انضمام الأردن، إلى الجمهورية العربية المتحدة، نقلت بريطانيا معلومات مضللة إلى الملك «حسين» عن تقديم جمال عبد الناصر الدعم إلى مجموعة من القوات المسلحة الأردنية، للقيام بانقلاب عسكري ضده في ‏17 ‏ آب/أغسطس ‏1958،‏ وقد طلبت الحكومة البريطانية من سفيرها في الأردن ضرورة مقابلة الملك «حسين» بصورة عاجلة‏،‏ وتقديم النصح له بطلب المساعدة العسكرية من بريطانيا لحماية عرشه من أي انقلاب عسكري ضده يقوم جمال عبد الناصر بتدبيره‏ .‏
وقال وزير الخارجية البريطانية «سلوين لويد» للسفير الفرنسي في لندن في‏23‏ تموز/ يوليو‏1958‏:‏ إن انضمام الأردن الي الجمهورية العربية المتحدة يُلحق ضرراً شديداً بالمصالح الإنجليزية والغربية في المنطقة‏، كما أنه يضع الجيش المصري على حدود إسرائيل من ثلاث جبهات‏،‏ وهذا قد يدفع إسرائيل إلى القيام بعمل عسكري ضد الأردن أو الاستيلاء على الضفة الغربية على الأقل ‏.

وتفضح الوثائق البريطانية أيضاً الضغوط الضخمة على لبنان من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا لكي يقبل الوجود العسكري الأمريكي على أراضيه‏، تحت زعم حمايته من هجوم مسلح تقوم به قوات الجمهورية العربية المتحدة‏ !

وقد تزامن ذلك مع حملة دعائية منظمة ضد الجمهورية العربية المتحدة في أوساط المسيحيين اللبنانيين كي لا يوافقوا على اقتراح بعض الطوائف السنية بالانضمام الى الوحدة‏، وفي نفس الوقت لعبت بريطانيا دوراً كبيراً في إثارة مخاوف العراق من دولة الوحدة، بدعوى احتمال قيام جيش الجمهورية العربية المتحدة بغزو العراق عسكريا لضمها للاتحاد .

ففي مقابلة بين «نوري السعيد» ـ رئيس وزراء العراق ـ و«سلوين لويد» في لندن في آب/أغسطس‏1958،‏ أيد فيها الأخير مقترحات «نوري السعيد» بضرورة إجهاض الوحدة بين مصر وسوريا‏، على أن يكون الانفصال ناجماً من تحرك سوري منفرد يحظى بدعم دول الجوار‏،‏ واقترح «نوري السعيد» إقامة اتحاد فيدرالي بديل بين كل من العراق وسوريا والأردن ولبنان‏، وأوضح أن الهدف من ذلك هو عزل مصر داخل حدودها فقط‏،‏ وتوجيه ضربة قاضية لدور مصر العربي‏ .‏

وفي واقع الأمر لقد اعتبرت الدول الكبرى قيام الوحدة المصرية السورية انقلاباً خطيراً في منطقة الشرق الأوسط يهدد مصالحها تهديداً مباشراً،‏ مما حفز «هارولد ماكميلان» ـ رئيس الوزراء البريطاني ـ إلى دعوة كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي وفرنسا لاجتماع قمة رباعي يتم خارج نطاق الأمم المتحدة لمناقشة أزمة الشرق الأوسط‏ على حد زعمه، كما كان يُطلق عليها في ملفات وزارة الخارجية البريطانية‏!‏؛ ويتضح من الوثائق البريطانية كيف تلاقت مصالح كل من الكتلتين الشرقية والغربية ضد تجربة الوحدة المصرية السورية،‏ فقد ضاق الاتحاد السوفيتي ذرعاً بالقيود التي فرضها جمال عبد الناصر على الشيوعيين الذين قاموا بأنشطة معادية للوحدة منذ بدايتها‏،‏ ولقد كان ذلك هو السبب الرئيسي في الخلاف الشديد الذي حدث بين جمال عبد الناصر والاتحاد السوفيتي‏،‏ والذي بلغ ذروته في 1959 .

وبذلك وجدنا أن الخطوط الأساسية للمنهج الأمريكي البريطاني المشترك قام على تحميل أصدقاء الغرب في المنطقة مهمة التصدي للوحدة، والنهوض بمسؤولية مواجهتها، دون أن يكون للغرب دورٌ ظاهر فيها، فاللعبة ستكون مباراة غربية بين مصر والدول العربية الأخرى، والغرب سيكون جزءاً غير مرئي من هذه اللعبة، ولن يكون جزءاً مشاركاً بالفعل، وإنما سيكتفى برد الفعل.. وفي ضوء ذلك سعت الأطراف الغربية إلى العراق ليحارب مصر وسوريا ويتصدر هو ترتيب عملية تمزيق الوحدة .

إن إعصاراً جماهيرياً أقام صرح الوحدة.. وزوبعة انفصالية هدمتها؛ فلم تدم الوحدة سوى ثلاث سنوات ونصف السنة، ولدت في الثاني والعشرين من شباط/فبراير 1958، وأسقطها في الثامن والعشرين من أيلول/سبتمبر عام 1961 انقلاب سوري، مهدت له عوامل وظروف عدة شديدة الخطورة.

لقد استمع الرئيس جمال عبد الناصر إلى الضباط السوريين من أعضاء المجلس العسكري حول مطلبهم الفوري بالوحدة بين مصر وسوريا، وذلك في الاجتماع بمنزله بمنشية البكري مساء 15 كانون ثاني/يناير 1958 . وقال عبد الناصر: «الوحدة ليست عملاً سهلاً، ولستُ أخفى عليكم أننا بدأنا بالكاد بعد معارك عنيفة ضد الاستعمار أن نوجه كل طاقتنا لبناء مصر، وأملى في بناء مصر أن تكون قاعدة قوية من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لنضال بقية الشعوب العربية؛ إن أملي أن نجعل من مصر نموذجاً لإمكانيات العمل الوطني، وبرغم ما في ذلك من مشقة فاعتقادي أن هذا هو طريقنا الوحيد ليس فقط لتطوير مصر، ولكن للوحدة أيضاً، فعندما نجعل مصر بلداً نواة لإمكانيات التطور العربي، فإن ذلك سيكون له أثره في تدعيم الدعوة إلى الوحدة عملياً وواقعياً وإيجابياً».. قاطع أحد الضباط الرئيس جمال عبد الناصر قائلا: “ سيادة الرئيس تريد أن تعمل لمصر وتترك سوريا التي علقت آمالها على مصر وعليك، أنا أقول وأمرى إلى الله إنك بذلك تتخلى عن دعوة القومية العربية من أجل مصر وحدها ”؛ وابتسم عبد الناصر ثم قال لمحدثه: «ما دُمتَ قد أثرت أن تتكلم معي بهذه الصراحة، فلا بد لي أن أبادلك القول بمثلها؛ فإذا تكلمنا بوضوح، وإنني أعرفكم جميعاً، وأعرف حسن مقاصدكم، ولكن لدي سؤال واحد محدداً يُلحُ علىَّ منذ أن بدأتم تتكلمون، وسؤالي هو: ما هي صفتكم التي تبيح لكم أن تتحدثوا معي في هذا الأمر، وأنتم غير مسؤولين سياسياً؟ وسؤال آخر: هل تعرف الحكومة في دمشق أنكم سوف تتحدثون معي عن الوحدة؟ وإذا كانت الحكومة لا تعرف، فمن حقي إذاً أن ألح على سؤالي وهو من أنتم وما هي صفتكم؟ هل يعرف الرئيس «شكري القوتلي» بما جئتم تحدثونني فيه؟.. رد أحد الضباط قائلاً: ’’ إننا بعثنا «أمين النفوري» “أحد أعضاء المجلس العسكري ونائب رئيس هيئة أركان حرب الجيش” إلى «شكري القوتلي» ليُخطره بأننا هنا، وليحيطه علماً بالسبب الذى جئنا من أجله وهو يمثل رأي الجيش، وليس أمام «القوتلي» إلا أن يقبل، فهو لا يستطيع أن يعارض أي شيء نطلبه‘‘ . مد عبد الناصر يده وأمسك بالمذكرة التي وضعها تحت المنفضة على المائدة، وقال: «متأسف؛ لا أستطيع أن أقبل هذه الأوضاع، وأنا أعرف أنكم تُمسكون بأيديكم بزمام القوة الحقيقية في سوريا، ولكني من ناحيتي لا أقبل في مثل هذه الأمور أن أتحدث، أو أبحث إلا مع حكومة مسؤولة شرعياً ودستورياً»، ومن ثم «ساد صمتٌ قطعه أحد الضباط بقوله: سيادة الرئيس هل تعطينا وقتاً نتصل بالحكومة؟ سوف نبعث إذا وافقت، برسول منا بالطائرة إلى الحكومة، يعرض عليها الموقف ويستطلع رأيها، وسنبقى نحن هنا حتى يعود الرسول برأي الحكومة الرسمي، ولا نريد أن نمشى من هنا إلا ونحن نعرف قرارك إلى أين» . بعد ذلك دعا عبد الناصر الضباط إلى الانتقال معه إلى مائدة العشاء، ويتحدثون معه فيما يشاءون إلا موضوع الوحدة؛ في « فجر 16 كانون ثاني 1958 قامت طائرتهم من القاهرة متوجهة إلى دمشق، وفي عصر اليوم نفسه عادت الطائرة وعليها “صلاح البيطار” وزير الخارجية السورية ممثلاً للحكومة السورية» . و ما حصل أن بعض الضباط عادوا إلى سوريا ناقلين ما تم بينهم وبين عبد الناصر، وأن «القوتلي» علم أن عبد الناصر لم يوافق على طلب الضباط إلا بعد موافقته والحكومة السورية فارتاح نفسياً، وعلى إثرِ ذلك اجتمعت الحكومة برئاسته وقررت الموافقة على الوحدة، وأوفدت «صلاح البيطار» و«عبد الحميد السراج».

وقد كانت المظاهرات تعم المدن السورية بهتاف: «بدنا الوحدة باكر، باكر، مع هالأسمر عبد الناصر»، وبنفس اليوم «16 كانون ثاني» فإن مجلس الأمة المصري برئاسة «عبد اللطيف البغدادي» كان يقيم احتفالاً، وأقام مأدبة عشاء دعا إليها الوفد السوري الموجود في القاهرة، وأحدث وجودهم جواً من الحماسة، وحين دخل عبد الناصر إلى مبنى المجلس للمشاركة، فوجئ بأن المجلس كله تحول إلى مظاهرة عارمة تطالبه بالوحدة، وتقدم «صلاح البيطار» من عبد الناصر يقول له: «جئتُ ممثلاً للحكومة السورية أحمل طلباً رسمياً منها بإقامة دولة الوحدة»، وكان هذا على مسمع من الجميع؛ فانفجرت القاعة حماسة إلى درجة أن البعض أجهش بالبكاء وانتابت بعضهم نوبة هستيرية، وتعالى الصراخ طلباً للوحدة، واستطاع عبد الناصر تهدئة المشاعر، وقال للضباط إنه سيجتمع بهم غداً للمناقشة؛ لكنهم صمموا على الاجتماع في نفس الليلة، وفي الساعة الثانية عشرة والربع بعد منتصف الليل كانوا جميعاً جالسين حول عبد الناصر في صالون بيته» .

يتبع.. بـ (صفحات ومشاهد وحدوية جماهيرية مُشرقة.. لا تُنسى)…

التعليقات مغلقة.