الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ما بعد محاولة اغتيال الكاظمي!

عبد الله السناوي *

تبدت فى محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي «مصطفى الكاظمي»، بالأجواء التي أحاطتها والطريقة التي جرت بها، صراعات على القوة والنفوذ وتفلتات سلاح قد تأخذ مداها إلى مواجهات دموية محتملة لا يمكن تجنب عواقبها الوخيمة.

الأوضاع السياسية الحالية لم يعد ممكنا أن تستمر، فقد تآكلت صلاحيتها إلى حدود يصعب إصلاحها.

فى اللحظة التي قصفت فيها طائرة مسيرة انطلقت من داخل الأراضي العراقية منزل رئيس الوزراء سقطت أية شرعية مدعاة، وأية هيبة للحكم، وفكرة الدولة نفسها.

فى بلد إرثه ماثل بالذاكرة العامة فإن استهداف «الكاظمي» ينبئ عن صراعات سلطة محتدمة ومستقبل غامض يلوح فى الأفق المأزوم.

كان استهداف حياة الرئيس العراقي الأسبق «عبدالكريم قاسم» فى (1959)، بطلقات رصاص أطلقتها مجموعة اغتيال من كوادر حزب «البعث»، ضمت رجلا صعد إلى نفس الموقع فيما بعد «صدام حسين»، تعبيرا عن صراعات سياسية وصلت ذروتها دون قدرة على حلحلتها.

فى ذلك اليوم الدموي أفلت «قاسم» من الموت، لكن نظامه أخذ يترنح رغم الاعتقالات والمداهمات وأحكام الإعدام التي صدرت دون أن تنفذ حتى جرى النيل منه هو نفسه بعد انقلاب عسكري أطاحه فى (1963).

فى محاولتيّ الاغتيال كل شيء يختلف، العصر والرجال والتوجهات والوسائل، لكن ما يجمع بينهما قوة الرسالة إلى المستقبل، أن ما هو قائم لا يمكن أن يستمر.

بالتوقيت فإن محاولة اغتيال «الكاظمي» رافقت اصطدامات شوارع بين القوى الأمنية وجماعات من المحتجين ينتمون إلى فصائل مسلحة على خلفية نتائج الانتخابات التشريعية.

لم تثبت تهمة التزوير، أو التلاعب فى النتائج، ولا توافر دليل على تورط «الكاظمي» فى أية خروقات تؤثر على سلامتها، حسب السلطات القضائية حتى الآن.

استدعت الأجواء المشحونة عنفا غير مسبوق فى أية محاولات اغتيال سابقة، هذه المرة استخدمت طائرات مسيرة للنيل من حياة رئيس الوزراء، الطموح إلى تجديد ولايته، كأننا فى وقائع حرب لا سجال سياسي وقانوني حول النتائج الانتخابية.

لم يعد ممكنا تجاهل التناقض الفادح ما بين الاحتكام إلى صناديق الاقتراع واللجوء إلى للطائرات المسيرة فى تصفية حسابات السياسة وترهيب المنافسين لتغيير نتائج الانتخابات، أو منع تشكيل حكومة أغلبية وطنية خارج المحاصصات الطائفية.

بعد فشل محاولة اغتياله مباشرة أعلن رئيس الوزراء أنه يعرف الجهة التي ارتكبتها، لكنه لم يقدم على أي تصرف أو إجراء يثبت جديته فيما صرح به، فالعواقب غير مأمونة إذا ما اندفع إلى مواجهات غير محسوبة مع الفصائل المسلحة.

هو رجل استخبارات، قبل أن يكون رجل سياسة، يدرك أن الإقدام على أية مواجهات عسكرية تستدعى تحالفات سياسية أكثر رسوخا وإحكاما يصعب تصورها قبل تشكيل حكومة جديدة وفق نتائج الانتخابات التشريعية.

إذا ما أقدم على المواجهة الآن بلا سند سياسي يخسر مقدما حظوظه فى تجديد ولايته.

بقاء التوازنات السياسية الحالية مشروع فوضى مؤجلة والاندفاع إلى المواجهات مشروع فوضى عاجلة.

نحن نتحدث عن (67) فصيلاً مسلحاً، يشكلون هيئة «الحشد الشعبي»، تختلف بنية تسليحها ومستويات قوتها ودرجة تشددها أو انفتاحها على المكونات السياسية، بالإضافة إلى ميليشيات أخرى لها حضورها العسكري بامتداد الخريطة العراقية بتنوعها المذهبي والعرقي.

بالتعريف القانوني فإن «الحشد الشعبي» قوات نظامية عراقية، جزء من القوات المسلحة، تأتمر بأوامر القائد الأعلى، الذى هو رئيس الوزراء، على ما ينص تشريع أصدره مجلس النواب بالأغلبية فى نوفمبر (2016).

المفارقة- هنا- أن رئيس الوزراء لا يقدر عمليا أن يجهر باسم الفصيل المسلح الذى تورط فى محاولة اغتياله، ويقول إنه يعرفه، فضلا عن أن يحاسبه قانونيا.

هذه أوضاع مرشحة للانفجار، الآن أو فى المستقبل المنظور، إذا لم تضبط العلاقات على قواعد قانونية وسياسية لها قوة الإلزام والاحترام.

«الحشد الشعبي» نشأ بفتوى «الجهاد الكفائي»، التي أصدرها آية الله «على السيستاني» المرجعية الدينية الأعلى فى النجف الأشرف عام (2014) لمواجهة قوات «داعش» التي وصلت فى ذلك الوقت إلى تخوم العاصمة بغداد.

باليقين فإن قوات «الحشد الشعبي» لعبت دورا جوهريا فى الحرب مع «داعش»، وارتكبت بالوقت نفسه أخطاء وخطايا فادحة فى مناطق السنة والأكراد.

هذه حقيقة مؤكدة على وجهيها الإيجابي والسلبى.

مبررات ودواعي «الجهاد الكفائي» انتفت تماما منذ دحر «داعش» وإعادة بناء الجيش والأجهزة الأمنية بصورة احترافية، غير أن «الحشد» بقى لاعبا سياسيا مسلحا له حساباته ومصالحه وارتباطاته الإقليمية.

نتائج الانتخابات أثبتت تراجع شعبيته بفداحة، فالأسباب التي استدعته لم تعد موجودة.

هناك شيء عميق فى بنية المجتمع العراقي يتغير، عبرت عنه انتفاضة الشباب التي جرت عام (2019)، ضد الفساد والبطالة وتردى الأوضاع الخدمية والصحية.

كانت تلك رسالة غضب أتت بـ«الكاظمى» رئيسا للحكومة فى العام التالي، لكن المهمة أثقل من أن يتحملها وحده، هو أو غيره، إذا لم تتوافر بنية توافقات عامة تمهد الطريق لتشكيل حكومة أغلبية وطنية خارج المحاصصات الطائفية، برئاسة «الكاظمي» أو غيره، على ما يدعو «مقتدى الصدر»، الذى حاز مرشحوه الأكثرية فى المجلس النيابي الجديد.

لا شيء سوف يمضى يسيرا فى العراق، الحسابات معقدة ومتداخلة، القوى الدولية والإقليمية تعيد حساباتها خشية انزلاقات غير محسوبة تضر بمصالحها الاستراتيجية.

كان مستلفتا ما كشفته الولايات المتحدة من دعم سياسي لرئيس الوزراء العراقي الحالي وإبداء الاستعداد للمساعدة فى أي تحقيقات تتقصى حقائق محاولة الاغتيال.

كان ذلك استطرادا فى سياساتها الاستراتيجية الجديدة بالقرب من انسحاب قواتها العسكرية المتوقع من العراق.

وكان مستلفتا بصورة أكبر ما سعت إليه إيران من زيارة قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري «اسماعيل قاآنى» إلى العاصمة بغداد، لمد الجسور مع «الكاظمي»، وتأكيد إدانتها لمحاولة اغتياله فضلا، وهذا هو الأهم، دعوة أنصارها فى الفصائل المسلحة إلى التهدئة وتقبل نتائج الانتخابات.

كانت تلك حسابات مصالح استراتيجية حاولت أن تتخفف من أي شكوك قبل الدخول إلى جولة جديدة فى مباحثات فيينا لإعادة إحياء الاتفاق النووي.

إذا لم تكن إيران متورطة بالتحريض على اغتيال «الكاظمي» فالمعنى أن هناك تفلتات سلاح قد تتكرر تاليا، إذا لم تحاسب الجهة التي أقدمت على استهدافه.

لا توجد قوة دولية أو إقليمية متداخلة فى الملف العراقي لها مصلحة الآن فى تفجير الوضع الداخلي، لكن لا أحد يضمن ما قد يحدث غدا إذا ما أفلتت الحوادث من عقالها بحماقات السلاح.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.