منى فرح *
مثلما يستعد المفاوضون الإيرانيون الذين يمثلون حكومة إبراهيم رئيسي إلى جولة مفاوضات فيينا السابعة، وهي الأولى التي يقودها فريق المحافظين، تضع الولايات المتحدة فرضيات تتراوح بين إحياء الاتفاق النووي أو عقد اتفاق مؤقت أو تشديد العقوبات ضد إيران، وهي الاحتمالات التي يعرضها هذا التقرير(1) الذي نشرته “نيويورك تايمز”.
على مدى الأشهر العشرين الماضية، نفذ عملاء المخابرات الإسرائيلية أكثر من عملية اعتداء ضد النظام في إيران: اغتالوا كبير العلماء النوويين الإيرانيين (محسن فخري زاده) https://www.nytimes.com/2021/09/18/world/middleeast/iran-nuclear-fakhrizadeh-assassination-israel.html ، واستهدفوا بمتفجرات أربع منشآت نووية ومصانع للصواريخ، على أمل أن يؤدي كل ذلك إلى شل أجهزة الطرد المركزي التي تنتج الوقود النووي، وبالتالي تأخير اليوم الذي يمكن أن تصبح فيه طهران قادرة على إنتاج قنبلة نووية.
لكن مسؤولي المخابرات الأميركية والمفتشين الدوليين يقولون إن الإيرانيين أعادوا بسرعة تشغيل المنشآت وركبوا آلات جديدة قادرة على تخصيب اليورانيوم بوتيرة أسرع بكثير. فعندما تعرض مصنع ينتج أجزاء رئيسية من أجهزة الطرد المركزي لانفجار مدمر في أواخر الربيع الماضي، ودُمر الكثير من مخزون المصنع وقطع غيار وكاميرات وأجهزة استشعار ركبها المفتشون الدوليون، جرى استئناف عملية الإنتاج بحلول أواخر الصيف.. وقد علَّق مسؤول أميركي كبير على الأمر بسخرية، قائلاً: “إنها خطة طهران لإعادة البناء بشكل أفضل”.
هذه اللكمة واللكمة المضادة جزءٌ من التصعيد الذي حصل في الأشهر الأخيرة بين إيران والغرب، وهي مواجهة توشك أن تبلغ ذروتها مرة أخرى في فيينا نهاية الشهر الجاري. فللمرة الأولى منذ تولي إبراهيم رئيسي منصب رئيس إيران https://www.nytimes.com/2021/06/19/world/middleeast/iran-election-president-raisi.html ، يُخطط المفاوضون الإيرانيون للقاء نظرائهم الأوروبيين والصينيين والروس لمناقشة مستقبل الاتفاقية النووية لعام 2015.
تحذير أميركي لإسرائيل:
المسؤولون الأميركيون حذروا نظرائهم الإسرائيليين من أن الهجمات المتكررة التي يشنونها على المنشآت النووية الإيرانية قد تكون مُرضية من الناحية التكتيكية، لكنها في النهاية تأتي بنتائج عكسية، وفقاً لمسؤولين مطلعين على المناقشات التي تجري خلف الكواليس. ورد المسؤولون الإسرائيليون بالقول إنهم لا يعتزمون الاستسلام، رافضين التحذيرات الأميركية (…).
في اجتماع فيينا المقبل، سيكون المسؤولون الأميركيون في المدينة ولكن ليس داخل قاعة المحادثات، ذلك لأن الإيرانيين لن يوافقوا على اللقاء بهم بعد انسحاب الرئيس السابق دونالد ترامب من الاتفاق قبل أكثر من ثلاث سنوات، تاركاً الصفقة في حالة يُرثى لها، في حين أنه قبل خمسة أشهر من الآن بدا هؤلاء المسؤولون متفائلين بالعمل مجدداً وفق اتفاق 2015، ومع النص المتفق عليه، ها هم يعودون اليوم إلى فيينا أكثر تشاؤماً مما كانوا عليه في حزيران/يونيو. واليوم يبدو نص الاتفاق ميتاً. كذلك يبدو أن الآمال التي وضعها الرئيس الأميركي جو بايدن؛ بأنه خلال عامه الأول في السلطة سيسعى لإعادة تفعيل “الاتفاق النووي”، ومن ثم بناء “تفاهمات أقوى وأكثر فعالية”؛ قد ولَّت حتى إشعار آخر.
إنها علامة على تغير المزاج العام أن كبير المفاوضين النوويين الإيرانيين؛ المعين حديثاً؛ علي باقري كني لا يشير على الإطلاق إلى المحادثات المقبلة على أنها مفاوضات نووية. كني، وهو أيضاً نائب وزير الخارجية، كان قد صرح مؤخراً من باريس بأنه “ليس لدى طهران ما يُسمى بالمفاوضات النووية.. إنها محادثات لرفع العقوبات غير القانونية واللاإنسانية”. وتقول إيران إنها ستصر على رفع كل من العقوبات النووية وغير النووية، وإنها بحاجة إلى ضمان عدم تمكن أي رئيس أميركي مستقبلي من التخلي عن الاتفاقية من جانب واحد، كما فعل ترامب. لكن المسؤولين في إدارة بايدن يؤكدون أن الرئيس لن يقطع مثل هذا الالتزام.
“قدرة عتبة”:
تنفي إيران، كعادتها، أن يكون لديها أي نية لصنع سلاح نووي. لكن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أنها تريد “قدرة عتبة” – موارد وكفاءات ضرورية تجعلها قادرة على إنتاج سلاح نووي في غضون أسابيع أو أشهر، إذا شعرت بالحاجة لذلك. بدورها، تُلمح الولايات المتحدة علناً إلى أنه إذا ماطلت إيران ورفضت التواصل في فيينا، فقد يتعين تعريضها لعقوبات جديدة.
وقال روبرت مالي، مبعوث وزارة الخارجية الأميركية والمسؤول عن الملف الإيراني، إن “الكرة في ملعب طهران، وعليها أن تختار.. وعلى واشنطن وباقي الحلفاء أن يكونوا مستعدين للتعامل مع المسار الذي ستسلكه طهران”، مشيراً إلى أن الرئيس بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكين أكدا أنه “إذا فشلت الدبلوماسية فإن لدى الولايات المتحدة أدوات أخرى تستخدمها لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي”.
واشنطن تشتري الوقت:
لكن داخل البيت الأبيض، كان هناك تدافع في الأيام الأخيرة لاستكشاف ما إذا كان التوصل إلى نوع من “الاتفاق المؤقت” ممكناً لوقف إنتاج إيران مزيد من اليورانيوم المُخصب وتحويل هذا الوقود إلى شكل معدني- وهي خطوة ضرورية في تصنيع رأس حربي. في المقابل، قد تخفف الولايات المتحدة بعض العقوبات. بالطبع هذا لن يحل المشكلة. لكنه قد يمنح واشنطن بعض الوقت للمفاوضات، ووقف التهديدات الإسرائيلية بقصف المنشآت الإيرانية.
قد يكون شراء بعض الوقت، وربما الكثير منه، أمراً ضرورياً. يشك العديد من مستشاري بايدن في أن فرض عقوبات جديدة على القيادة الإيرانية أو جيشها أو تجارة النفط، تُضاف إلى الـ1500 عقوبة فرضها ترامب، ستكون أكثر فعالية من الجهود السابقة للضغط على إيران لتغيير مسارها.
ومزيد من الخطوات العدوانية، التي نجحت منذ سنوات، قد لا تُحقق النتائج التي تفكر فيها واشنطن اليوم. داخل وكالة الأمن القومي والقيادة الإلكترونية الأميركية، هناك إجماع على أنه من الصعب جداً الآن تنفيذ هجمات إلكترونية مثل تلك التي شنتها واشنطن وتل أبيب منذ أكثر من عقد من الزمان، عندما تم إجراء عملية سرّية أُطلق عليها اسم “الألعاب الأولمبية” https://www.nytimes.com/2012/06/01/world/middleeast/obama-ordered-wave-of-cyberattacks-against-iran.html عطَّلت عمل أجهزة الطرد المركزي في موقع “نتانز” للتخصيب النووي لأكثر من عام https://www.nytimes.com/2012/06/01/world/middleeast/obama-ordered-wave-of-cyberattacks- against-iran.html .
ويشير مسؤولون أميركيون وإسرائيليون (حاليون وسابقون) إلى أن الإيرانيين عملوا على تحسين دفاعاتهم بشكل كبير منذ ذلك الحين، وأنشأوا قواتهم الإلكترونية الخاصة، التي حذرت الإدارة الأميركية من أنها نشطة بشكل متزايد حتى داخل الولايات المتحدة https://us-cert.cisa.gov/ncas/alerts/aa21-321a .
كما واصل الإيرانيون منع المفتشين من دخول المواقع الرئيسية، برغم سلسلة من الاتفاقات؛ مع الأمين العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية “رفائيل غروسي”؛ للحفاظ على البيانات من أجهزة الاستشعار التابعة للوكالة في المواقع الرئيسية. كما ان الكاميرات وأجهزة الاستشعار الخاصة بالمفتشين، التي دُمرت في الانفجار الذي تعرض له أحد المواقع في أواخر الربيع الماضي، لم يتم تعويضها.
وفي مقابلة أُجريت معه مؤخراً، قال “غروسي” إنه أمضى أسبوعاً كاملاً في واشنطن يتحدث مع المسؤولين هناك ويحذرهم من أن وكالته في إيران “تُصاب بالعمى.. وعلى البطيء”. وكان غروسي قد زار طهران في محاولة أخيرة لإحياء عمليات المراقبة والتفتيش قبل اجتماع مجلس محافظي الوكالة نهاية هذا الأسبوع قبل الأخير من تشرين الثاني/ نوفمبر.
فجوة التفتيش مُقلقة بشكل خاص لأن الإيرانيين يعلنون أنهم أنتجوا الآن ما يقرب من 55 رطلاً من اليورانيوم المُخصب حتى درجة نقاء 60 في المائة (درجة النقاء المطلوبة عادة لإنتاج سلاح نووي هي أقل من 90 في المائة).
وهذا الشهر، أشار المتحدث باسم وكالة الطاقة الذرية الإيرانية، “بهروز كمالوندي”، وبفخر، إلى أن الدول التي تمتلك أسلحة نووية فقط هي التي أظهرت أنها تستطيع تخصيب اليورانيوم إلى المستوى الذي وصلت إليه طهران (…).
وعندما تولى بايدن منصبه، كان لدى العديد من كبار مساعديه آمال كبيرة في إمكانية إحياء الصفقة الأصلية- التي تفاوضوا على أجزاء منها. في ذلك الوقت، كان الإيرانيون الذين وافقوا على الاتفاق لا يزالون في مناصبهم (الرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف) حتى لو تضاءلت سلطتهم بشكل كبير.
لكن الإدارة أمضت شهرين في تحديد كيفية التعامل مع المفاوضات، ويشكو المسؤولون الأوروبيون من أن الوقت الضائع كان ضاراً.
اتفق الجانبان على العودة إلى طاولة المفاوضات فقط في نهاية شهر آذار/مارس. وبدأت محادثات فيينا في أوائل نيسان/أبريل.
وقال مسؤول كبير في الإدارة إنه بحلول حزيران/يونيو، كان الاتفاق “قد اكتمل إلى حد كبير”. ثم أصبح من الواضح أن إيران كانت تماطل حتى انتخاباتها الرئاسية، التي جلبت رئيسي، رئيس القضاء السابق المتشدد، على رأس السلطة.
إحياء ميت!
في البداية، كان المسؤولون الأميركيون يأملون في أن يأخذ رئيسي الاتفاقية التي تم التفاوض عليها، وإجراء تعديلات طفيفة والاحتفال برفع معظم العقوبات الغربية، لكن ثبت أن ذلك خطأ في التقدير. في أواخر أيلول/سبتمبر، قال وزير الخارجية الجديد، حسين أمير عبد اللهيان، لصحيفة “نيويورك تايمز” إنه ليس لديه مصلحة في إجراء أي نوع من المفاوضات التفصيلية التي عمل سلفه عليها لسنوات.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، في مؤتمر صحفي عقده مؤخراً، إن إيران لديها ثلاثة شروط يجب أن تنفذها واشنطن إذا ما أرادت العودة إلى صفقة اتفاق 2015: الاعتراف بارتكاب خطأ في الانسحاب من الصفقة، رفع جميع العقوبات دفعة واحدة، تقديم ضمانات بأن أي إدارة أميركية في المستقبل لن تفعل ما فعله ترامب.
وقال “غيس قريشي”، مستشار السياسة الخارجية المقرب من الحكومة الإيرانية: “من المستحيل تماماً أن تقدم إيران للولايات المتحدة مستوى التنازل الذي قدمته حكومة روحاني. لن نكشف جميع أوراقنا ثم ننتظر لنرى ما إذا كانت واشنطن أو الاتحاد الأوروبي سيلتزمان بالصفقة أم لا؛ هذا لن يحدث بأي حال من الأحوال”.
وبينما يقول المسؤولون الأوروبيون إنهم لا يريدون التفكير في “الخطة ب” إذا تطورت المواجهة، فإن مجموعة متنوعة من هذه الخطط – بدءاً من العزلة الاقتصادية إلى التخريب – كانت موضوعاً منتظماً لاجتماعات جرت في البيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية. ومع ذلك، عندما سُئل عن مناقشات “الخطة ب” في مؤتمر صحفي قبل أكثر من أسبوعين، التزم بايدن الصمت للحظات قبل أن يجيب بالقول: “لن أعلق على إيران الآن”.
لكن الإسرائيليين يعلقون. فقد صرح رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، اللفتنانت جنرال أفيف كوخافي، مؤخراً، بأن الجيش الإسرائيلي “يسرّع خططه العملياتية واستعداداته للتعامل مع إيران وأي تهديد عسكري نووي”. وكانت هذه إشارة إلى حقيقة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، قد سمح بمزيد من التمويل للتخطيط وتنفيذ هجمات. ويصر مسؤولون إسرائيليون على أنهم طوروا قدرات قواتهم العسكرية على إنشاء غرف محصنة تحت الأرض وحمايتها بشكل جيد، ما يلغي حاجة إسرائيل لنوع المساعدة التي سعوا إليها من إدارة الرئيس الاسبق جورج بوش قبل 13 عاماً. ومن غير الواضح بعد ما إذا كان هذا صحيحاً أم أنه مجرد خدعة.
في مرحلة ما، يقول مسؤولو إدارة بايدن إنهم قد يضطرون إلى إعلان أن البرنامج النووي الإيراني متقدم للغاية بحيث يتعذر على أي شخص العودة بأمان إلى اتفاقية 2015. وفي إفادة قدمها الشهر الماضي، قال روبرت مالي: “هذه ليست ساعة كرونولوجية، إنها ساعة تكنولوجية.. في مرحلة ما، سيكون الاتفاق قد تآكل كثيراً لأن إيران ستُحرز تقدماً لا يُمكن التراجع عنه.. في النهاية لا يمكننا إحياء جثة ميت”.
(1) أعد تقرير “نيويورك تايمز” https://www.nytimes.com/2021/11/21/us/politics/iran-nuclear-standoff.html?referringSource=articleShare كل من كل من ديفيد سانجر (مراسل في البيت الأبيض والأمن القومي)، وستيفن إيرلانغر (كبير المراسلين الدبلوماسيين في أوروبا) ولارا جاكس (مراسلة دبلوماسية مركزها واشنطن).
ــــــــــــــــــــــ
* كاتبة صحفية ومترجمة لبنانية
المصدر: بوست 180
التعليقات مغلقة.