أحمد المديني *
ليس من السهل على أحد، في أي موضع كان، أكاديميًا وإيديولوجيًا وتنظيمًا سياسيًا، أو مُشبَعاً فقط بفكرة الانتماء إلى العرب أمةً وتاريخا وثقافة، أن يقدم اليوم على طرح الموضوع المعلن في العنوان وخصوصا إعادة تفكيكه وقراءته في ضوء معطيات ونوازل العالم العربي بخلفياته المتراكمة ومآلاته في الحاضر، بغية فهم معناه في صورة الكائن منه والمتبقِّي، وربما كذلك إعادة تركيب تُوجه الأفهام نحو رؤية مستقلة خاصة عن النزوع الإيديولوجي ومُعقلنة نوعيا.
هذا ما جرؤ عليه منتدى “أصيلة” في موسمه الثقافي الثاني والأربعين ضمن أعمال جامعة المعتمد بن عباد (الدورة 38)، التي تنظم هذا العام في خريف (2021) يقّدم عليها، زيادة على أنشطته الصيفية الفنية.
وأراها بدءاً شجاعة فكرية اقتراح هذا الموضوع ومغامرة أيضاً، بالنظر الى الفُرقة والنزاعات المتشابكة التي يعيشها العالم العربي راهنًا، ولافتقار الدارسين والمحللين إلى رؤية مستقرة ومنظورة قابلة للاستيعاب وتسمح حقاً بالتحليل بأكبر وأبعد من القراءة السطحية وكذا المقاربة الشعاراتية الغالبة في هذا النوع.
العروبة والبناء الإقليمي:
هكذا، أحب الوقوف ضمن أعمال الدورة المذكورة عند ندوة عنوانها الكبير: “العرب والتحولات الإقليمية والدولية الجديدة: العرب إلى أين؟” (08 إلى 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021). هو عنوان جامع لقضايا كبرى وإشكاليات متفرقة نذكر أهمها: “فكرة العروبة والبناء الإقليمي العربي: التجربة والآفاق“؛ “الهوية والانتماء القومي في الفكر العربي المعاصر: الخلفيات والمآلات“؛ شارك في تأملها وتحليلها باحثون جامعيون ومفكرون ودبلوماسيون من ذوي الخبرة ينتمون إلى عديد بلدان عربية وإلى آفاق فكرية مختلفة، وبذلك يجسّدون تعددية الآراء والمواقف حول قضية باتت موضع خلاف حاد، وعند بعضهم صارت، يا للمقت، موضوع تندّر واستخفاف.
تحصيل حاصل في البدايات الاهتمام بالتعريفات التي قد تبدو مسلمات، وإما معطاة سلفاً في ظرف زمني تملّكَ فيه شعور الانتماء إلى العروبة النفوس واستغرق العقول وغدا مدماكاً سياسياً في دول محددة، حتى إن الشعور بهذا الانتماء والعيش في كَنَف أحاسيسه وظلال معانيه سابقٌ على التفكير به والوعي بمحدداته. لقد انشغل أكثر من مفكر عربي بمهمة التعريف والتمييز لِما يُعَدّ حقلاً لغويًا ثقافيًا ووجدانيًا، وأحيانًا بالتباس عرقيًا، ثم إيديولوجياً، ووقع في هذا الشأن غير خلط والتباس، إذ بينما تحيل العروبة في جذرها اللغوي إلى مكوّن وأقوام لغتهم العربية وتاريخها وثقافتها، وربطه ابن منظور في لسان العرب “إلى الذي يُعرف نسبه، وعكسه الذي لا يعرف نسبه”، تنقلنا العروبة فكرةً في الحقل التداولي الإيديولوجي إلى نهج سياسي، وبالضبط ما يصطلح عليه بـ”القومية العربية”، وهي ليست مرتبطة بالعرق البتة، بل ببرنامج ذي أهداف محددة، انصبت على تحقيق الاستقلال، وتحرير فلسطين، والتحرر من الهيمنة الأجنبية وإقرار العدالة والمساواة. وبالجمع، يمكن اختزالها في حركة للتحرر وإنجاز الوحدة العربية على قاعدة نهضة الأمة. وهي مطامح ثابتة وقائمة بإلحاح، بمعنى محاربة التجزئة، ومناهضة الاستبداد، وتحقيق العدالة والتنمية ضد الفوارق وغول التخلف.
ولن يلغيها بتاتاً تراجع النهج القومي العربي وانكفاؤه أمام سياسات وممارسات نقيض له. لكن، دون أن يطفئ جذوته، باعتبار أنه يظل حياً بفكرة العروبة كمفهوم ثقافي، وُجد في الماضي وكانت تجلياته قوية في حركة النهضة العربية الأولى، سعت لبلورة هوية ثقافية مميزة بالاتصال بآخر قدَح زنادها وسعت عبر التأثر والمثاقفة إلى تجديد الفكر العربي.
التراث والمعاصرة:
لقد استعرضت بعض مداخلات ندوة أصيلة بتمحيص وأمثلة مراحل ومفاهيم وسياقات التحديد المنشود، ولعل منها مسألة حظيت بعناية بالغة تخص العلاقة بين العروبة والإسلام، وهل هي مقترنة، أم أنهما حدّان مستقلان، وهنا وقع التمايز بين السلفيين والعلمانيين والليبراليين، نعرف أن المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري أشبع الموضوع درساً ونظم إبستميته، وهو الذي استغل دائماً ضمن جدلية التراث والمعاصرة، والعقيدة مكوّنٌ أساسٌ فيه، بينما فصم آخرون في المشرق العربي أيّ عُروة بين الحدين، ناظرين إلى العروبة (ساطع الحصري) من البداية حركة نهضوية لمواجهة العثمنة والتتريك ومعهما الاستبداد، وهلم صُعداً زمنياً. وبما أن المفهوم انهزم سياسيًا وتلاشى مشروعه تحت ضربات الفرقة والتشتت وعودة الأطماع الأجنبية أقوى من السابق، وبلوغ التفكك حداً أقصى ضمن المجموعة العربية التي ما تزال مهيكلة شكلياً على صعيد جامعتها في القاهرة (أنشئت سنة 1945) يسقط كيان الدولة الوطنية، تخرج أصوات، وتنبثق مبادرات، وكذلك تلُوح شعارات، من منطلق غيرة واستصراخ لنزع التراب عن أشلاء الأمة المدفونة تحت حطام الفرقة وتضارب المصالح وتناسي هويتها.
ذلك أن سؤال الهوية يبقى في قلب بحث تجديد الفكر العربي وإحياء العروبة بروح مغايرة. كيف؟ الأجوبة على سؤال مماثل اقتضت عند المتدخلين في الندوة، والمهمومين عامة بالشأن مُسائلات حول مفهوم الهوية ومحتوياتها بتساوق مع ظروف تكوينها وفي تبدلها الدائم، بمعنى تبلورها في صيرورة التبدل الحتمي والشامل للمجتمعات والثقافات، فتطرح معها بالتبعية إشكالية الانتماء.
لم يكفْ العرب منذ بدايات مشروعهم النهضوي وامتداداً في التصورات والمشاريع الفكرية والإيديولوجية والتي نزعوا إليها عن طرح هذه القضية في صيغة توتر وصدام مباشر وغير مباشر مع الآخر الغربي الذي فرض مفاهيمه ومناهج النظر والتحليل وعاش الفكر العربي والعروبي موزعاً بين بحثه عن إبدالات تخصه وتصله بالمعاصرة.
وفي الوقت عينه السعي لتمثل النماذج الخارجية المهيمنة. إنه توتر دائم، ذهب شأواً بعيداً في انعدام التكافؤ وغلبة الهيمنة، إلى الدرجة التي أصبح فيها الحديث عن انهيار مكون العروبة والمشروع القومي تحصيل حاصل تغذيه الصراعات البينية سياسيًا وحتى عسكريًا بين البلدان العربية وتخلق أوضاعًا من الشقاق والتشرذم وتصدّع البنيان العربي المفترض حدّا يكاد يصبح غير قابل لأي ترميم.
بالنسبة لمتدخلي ندوة منتدى أصيلة، بالنسبة إليّ وأنا أحدهم، وكانت لي مداخلة عنونتها: “كيف يمكن أن تصبح كاتبا عربيا؟“، هل من أمل وأفق للمستقبل؟ أولن تنهض الشعوب العربية من عترتها؟ هل هو شتاء الأمة أم خريفها، أي طريق نحو زوال وتفتت ما يجمعها، وغيره أسئلة؟ أقول، تتفاوت الإجابات والتكهنات، فلا يقين، بين التشاؤم، إذ الواقع في صورته المحزنة، لا يسمح بانفراج سريع؛ وإما اليأس التام في ضوء ما يعصف بالكيان العربي عصفاً.
بالطبع، ليست مهمة الفكر تقديم إجابات فورية، وإنما جملة تأملات واختبار للقضايا والإشكاليات التي تواجهها الأمم والمجتمعات بين أطوار النشوء والتكون والارتقاء وحتى الانهيار وأسبابه. بهذا المعنى، فإن ندوة أصيلة فتحت نوافذ شتى على واقعنا العربي داعية إلى امتلاك الشجاعة لتسمية الأشياء بمسمياتها والتماس ما يمكن من حلول تجدد فكر واجتماع ونهضة العرب من جديد بتكافل وتكامل، ويلعب المفكرون والمبدعون العرب، ومنتدياتهم في البلدان كافة دوراً محورياً لإعادة بناء الأمل.
أحسب أن هذه بعض تطلعات منتدى “أصيلة” كما عبّر عن ذلك أمينه العام الأستاذ محمد بن عيسى بقوة وعزم مستمدًّا من تجربة طويلة في الشؤون الثقافية والدبلوماسية، بلورها في الدورة الخريفية الجديدة للموسم الدولي لهذه المدينة الصغيرة الوديعة على المحيط الأطلسي، تحلم بالنيابة عن العرب جميعا بفجر جديد؛ مرحى.
* كاتب وأديب وناقد مغربي
المصدر: النهار العربي
التعليقات مغلقة.