الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

البرهان وحمدوك.. من كسب ومن خسر؟

عبد الله السناوي *

لم يكن الاتفاق السياسي، الذى عاد بمقتضاه «عبدالله حمدوك» إلى منصبه رئيساً لوزراء السودان، مفاجئا تماما، فالشارع الغاضب يدعو إلى عودته والقوى الدولية تضغط من أجل تلك العودة، والجيش نفسه لا يتحفظ على شخصه بل على من حوله.

ولم يكن ذلك الاتفاق إعلاناً مصدقاً بعودة الأمور إلى سابق عهدها قبل إقدام قائد الجيش «عبدالفتاح البرهان» على فض الشراكة بين المدنيين والعسكريين بالقوة.

نحن أمام تسوية اضطرارية تحت ضغط الداخل والخارج معاً، عباراتها عامة والتزاماتها تحوطها تساؤلات قلقة عما قد يحدث تالياً.

أي استنتاج أننا أمام عملية استئناف للمرحلة الانتقالية بشراكة ندية وحقيقية بين المكونين المدني والعسكري فهو قفز بالأماني المفرطة فوق الحقائق الماثلة.

لا المجلس السيادي الذى تشكل وفق آلية تشاركية سيعود، فهناك مجلس آخر جرى إعلانه من طرف المكون العسكري وحده لا وفق الأسس التي نصت عليه «الوثيقة الدستورية»، ولا نقل رئاسته إلى شخصية مدنية وفق التزاماتها سوف يحدث!

كان منع نقل رئاسة المجلس السيادي إلى شخصية مدنية مكسباً حقيقياً لقائد الجيش «البرهان»، لا يمكن إغفال دلالته ورسائله فى صراعات القوة والنفوذ.

بنص الاتفاق السياسي بين «البرهان» و«حمدوك» فإن عودة رئيس الحكومة إلى منصبه تتعلق به وحده، فالحكومة الانتقالية قد حُلت، ولا مجال لعودتها.

بترجمة سياسية فإن ذلك معناه أن «قوى الحرية والتغيير»، رافعة ثورة كانون الأول/ ديسمبر (2019)، لن يكون لها دور حقيقي أو شبه حقيقي فى تشكيل أية حكومة مقبلة.

بصياغة أخرى، فإن الاتفاق يلغي ما نصت عليه الوثيقة الدستورية من دور جوهري لـ«قوى الحرية والتغيير» فى تشكيل المجلس التشريعي، المخول بوضع الدستور وقانون الانتخاب.

هكذا ألغى أحدى أهم ركائز الشراكة بين المدنيين والعسكريين وفرغت فكرة الشراكة نفسها من جوهرها.

ما هو مطروح الآن على «حمدوك» أن يشرع فى تشكيل «حكومة كفاءات» دون أن يكون ملزماً بأية مشاورات لها صفة الجدية مع «قوى الحرية والتغيير»، التي رشحته ودفعت به إلى رئاسة الحكومة عقب الثورة.

إنه تقليص الحضور السياسي والتنفيذي لـ«قوى الحرية والتغيير»، الطرف الآخر فى إقرار وتوقيع «الوثيقة الدستورية» مع المكون العسكري.

الصياغة الفضفاضة أوحت ولم تجزم انتظارا للتفاعلات والضغوطات المحتملة.

دعا الاتفاق السياسي إلى تشكيل «حكومة كفاءات» «مع المشاورة ببقية القوى السياسية عدا حزب المؤتمر الوطني».

تعبير «مع المشاورة» لا يعنى شيئاً محدداً أو ملزماً، الصياغة تعني كل شيء ولا شيء.

لو استخدم البيان السياسي عبارة «بالتشاور» لكان أكثر إلزاماً ووضوحاً نسبياً.

كان استبعاد الحزب الحاكم السابق على عهد «عمر البشير» في أي حوار مفترض عند تشكيل الحكومة رسالة إلى الداخل أنه لا عودة للماضي، ورسالة ثانية إلى الإقليم أنه من غير الوارد عودة «الإخوان المسلمين» بداعي توفير غطاء شعبي تحتاجه القوة العسكرية إذا ما حدث طلاق نهائي مع القوى المدنية.

كان إطلاق سراح جميع الوزراء والسياسيين المعتقلين منذ فض الشراكة بالقوة يوم (25) تشرين الأول/ أكتوبر أفضل ما ينسب إلى ذلك الاتفاق السياسي، الذى نص فى ذات السياق على التحقيق العادل والشفاف فى جميع الأحداث التي جرت أثناء التظاهرات من إصابات (للمدنيين والعسكريين) وتقديم الجناة إلى المحاكمة.

لم يكن ذلك التعهد بصياغته المراوغة قابلاً للتصديق بالنظر إلى السوابق التي حجبت حقائقها، ولم تجرِ أية محاكمات للمتورطين فيها، لكنه بدا ضرورياً لتسويغ الاتفاق عند الرأي العام باعتباره وقفاً لنزيف الدماء والتزاماً بالعدالة.

فى جولة الاتفاق السياسي فاز «البرهان» بالنقاط، لا بالضربة القاضية، فالصراع ما زال على الحلبة.

الكلام على مرجعية «الوثيقة الدستورية» بالألفاظ المراوغة تأكيد على أنها الشرعية الوحيدة فى البلد، وهذا مكسب معنوي يستدعى التمسك به والاحتكام إليه.

والكلام عن استئناف المرحلة الانتقالية بألفاظ مراوغة أخرى تأكيد إضافي على استحالة تجاوز استحقاقاتها، هذا مكسب معنوي ثانٍ صاحبة الفضل الأول فيه مليونيات الشوارع.

فى محاولة لتسويغ الاتفاق وصفه «حمدوك» بأنه «يضع الأسس الصحيحة للمرحلة الانتقالية».

كان ذلك تجاوزاً للحقائق ونصوص الاتفاق نفسه وحدود الدور الذى سوف يلعبه فى المستقبل.

إثر إعلان الاتفاق انقسمت صفوف القوى المدنية وخفتت التظاهرات الاحتجاجية، هناك من وصفه بأنه «خيانة تمنح الانقلاب غطاء سياسيا»، وهناك من أيده ودعمه وتفهم ظروفه ودواعيه.

النزاع المحتمل بين «رفاق الماضي القريب» يضعف بوقت واحد الحكومة المقبلة والقوى المدنية الغاضبة.

لا الحكومة بوسعها أن تكون شريكاً حقيقياً فى السلطة تتولى وحدها المهام التنفيذية على ما تنص الوثيقة الدستورية التي يقال الآن إنها مرجعية الحكم، إذا لم يكن هناك سند شعبي قوي وحاضر.

ولا القوى المدنية بوسعها أن تحافظ على حضورها وتأثيرها إذا لم تكن مقنعة للشارع الغاضب أن لديها خطة عمل تتجاوز شعار: «لا تفاوض ولا شرعية».

قد يحاول «حمدوك» أن يستثمر فى الدعم الدولي لترسيخ دوره وتوسيع نفوذه، وأن يعمل بالوقت نفسه على تخفيض فاتورة تراجع شعبيته دون أن يدخل فى صدام جديد مع المكون العسكري.

فى التوازنات الحرجة بين «البرهان» و«حمدوك» يتبدى لاعبان كبيران على مقدمة المسرح السياسي:

الأول- الشارع الغاضب الذى يبحث دون كلل عن رفع مستوى معيشته وتحسين أحواله الاقتصادية وفتح صفحة جديدة للسلام الداخلي فى ربوعه الممزقة، وهو مستعد كما أثبت ذلك فى انتفاضاته وثوراته المتعاقبة لأية تضحيات.

والثاني- الضغوط الدولية، التي تجلت فى الأزمة الأخيرة كعامل رئيسي فى الاتفاق السياسي.

لم يكن أحد فى العالم مستعد أن يتحمل تكاليف انفجار الوضع فى السودان، إذ إنه قد يفضي إلى انهيارات أوسع تتجاوزه إلى ما حوله فى القرن الإفريقي وعند منابع نهر النيل فى إثيوبيا التي تقف على حافة هاوية التقسيم.

كان الترحيب الأمريكي الحذر بالاتفاق تعبيراً عن خشية انفجار الشارع مجدداً، فتنقلب المعادلات الاستراتيجية فى القرن الإفريقي كله.

الأطراف المتداخلة فى الأزمة السودانية تحاول بقدر استطاعتها أن تنظر إلى المستقبل المنظور وما قد يحدث فيه، والسؤال الذى يطاردها جميعها: كيف تتصرف وفق مصالحها بما لديها من أوراق قوة وضغط؟

هذا هو سؤال اللحظة فى السودان المأزوم.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.