سمير العيطة *
اختار لبنان وسوريا، منذ استقلالهما، مسارين مختلفين على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لكن البلدين بقيا على ارتباط وثيق على هذه الأصعدة الثلاث. وهكذا تكشف أزمتاهما الحالية العميقة أن كلا منهما صورة للآخر فى مرآة وإن كانت بملامح مختلفة.
الصعيد الاقتصادي هو الأكثر وضوحا. فأزمة لبنان الاقتصادية والمالية التي تفجرت فى أكتوبر 2019 وانهار معها سعر صرف الليرة اللبنانية قد أدت إلى انهيارٍ موازٍ لسعر صرف الليرة السورية أكبر بكثير من التدهور التدريجي الذى أخذت إليه ثماني سنوات من الصراع المسلح. هذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها هذا الانهيار المتوازي. فقد جرى الأمر ذاته عام 1986 بُعَيد الانهيار الكبير لأسعار النفط وخلال الحرب الأهلية اللبنانية بينما كانت سوريا تعيش فى ظل عقوبات اقتصادية غربية. اختلف مسارا البلدين للخروج من تلك الأزمة السابقة، لكن المسارين أسسا، بالتوازي، للإشكاليات التي تعرضا لها لاحقا.
اختارت سوريا، منذ الأربعينيات، إدارة محكمة للاقتصاد من قبل الدولة، فى حين اختار لبنان صيغة الاقتصاد «الحر». لكن لبنان بقى دوما ملجأ مدخرات السوريين وتمويلات تجارة القطاع الخاص الدولية. وبقى لمرفأ بيروت دور أساسي فى الاقتصاد السوري. كما أن كُثرا من أصحاب المصارف اللبنانية سوريون وإن حملوا الجنسية اللبنانية، وكانوا أول من افتتح مصارفَ خاصة فى سوريا خلال سنوات الألفين. أضِف أن العمالة السورية شكلت دوما جزءا ملحوظا من قوة العمل اللبنانية، وقد وصلت إلى ثلثها، حتى قبل موجة اللجوء السوري الأخيرة.
اللافت أن النموذجين الاقتصاديين أديا إلى نتائج متشابهة، مثلا من حيث انعدام كبير للتوازن فى التنمية بين العاصمة والمدن والأطراف الأخرى. وكأن هم نخبهما بقى دوما وحصريا تنافسا بين صورة دمشق وصورة بيروت، وحدهما.
- ••
الصعيد السياسي أقل بروزا للعيان. إلا أن البلدين وصلا إلى صيغتي حكمٍ متشابهتين: ذلك من حيث قيام سلطة سياسية فوق الدولة ومؤسساتها واستغلت هذه الدولة وأضعفتها فقط بهدف البقاء فى السلطة. الفارق أن السلطة فى سوريا مركزة فى شخصٍ ودائرة صغيرة، فى حين تتوزع فى لبنان على بضعة زعماء طوائف. واللافت أن هذه السلطة فى كلا الحالتين أثبتت قدرتها على إعادة إنتاج نفسها باستمرار، وعلى الهيمنة ومقاومة أى تغيير أو تداول، وعلى التلاعب بالدستور والقانون، وعلى خلق الريوع الاقتصادية لشراء الولاءات. ذلك، مهما حدث من أزمات وحتى لو كلف ذلك صراعا أهليا مسلحا واستدعاء قوى خارجية.
لا يُمكِن فى البلدين محاسبة السلطة على ممارستها ولا التطاول فى القول أن «العيب فى ذات أفندينا»، أى أن المشكلة والمسئولية تكمُن فى رأس السلطة. وفى البلدين، تظهر اليوم هشاشة مؤسسات الدولة وضعف قدراتها على أن تكون ضامنة لحقوق جميع المواطنين والمواطنات مهما كانت انتماءاتهم الموروثة. بل إن السلطة تعبث بآليات المجتمع التفصيلية المحلية كي تُحبِط أية محاولات إصلاح أو نهوض. فالاستزلام هو القاعدة. هكذا بقيت «ديموقراطية» لبنان صورية عصية على الاختراق السياسي رغم حرية الإعلام وانتشار وسائله ضمن الفضاء اللبناني. وآليات الانتخابات تدار بدقة شديدة من قبل السلطة، كما فى سوريا حيث تُعتمَد قوانين تُعطى نصف المقاعد لمرشحي «العمال والفلاحين»… حتى فى وسط المدن. الاختلاف يكمُن فقط فى شكل «المهرجان» الانتخابي.
اللافت أيضا هو عمق التغلغل الخارجي فى الآليات السياسية فى كلا البلدين، سواء على صعيد السلطة… أو حتى المعارضة. فهذا يحظى على دعم إيران وآخر على دعم تركيا أو على الخليج، هذا على دعم روسيا والآخر على الولايات المتحدة، دون ذكر العبث الضمني غير المباح… لإسرائيل. وفى الحالتين، يتم التذرع بالتدخلات والمؤامرات الخارجية لترسيخ الهيمنة. وقد وصل التغلغل الخارجي اليوم إلى حد أن حل أزمتي البلدين بات يُربَط بشرط وإمكانية حل التصادم بين روسيا وأمريكا، وبين أمريكا وإيران، وبين السعودية وإيران، وبين تركيا ومنافسيها،… وقبل كل شيء بموافقة إسرائيل!!!
- ••
إن مجتمعي البلدين باتا يعيشان حالة تجاذب شديدة، طائفية ومناطقية وغيرها. هذا فى حين تستمر هجرة الموارد البشرية من كليهما، كي تُصبِح هذه الهجرة أساسا للنموذج الاقتصادي القائم على إرسال التحويلات من الخارج لإعالة الأهل والأقارب. بحيث باتت معيشة السكان وجزء كبير للاقتصاد يقومان فى كلا البلدين على تحويلات المغتربين واللاجئين وعلى المساعدات الخارجية.
البلدان يحتاجان اليوم إلى إعادة صياغة عقد اجتماعي جديد، يُطلِق صيغة جديدة للعلاقة بين السلطة السياسية والدولة والمجتمع، ويؤسس لعلاقة متوازنة بين المركز… والأطراف. والبلدان يحتاجان أيضا إلى «إعادة إعمار»، ما يعنى ما هو أهم من بناء المساكن، وهو إعادة خلق دورة اقتصادية ناجعة فيهما.
لبنان فقد دوره المالي والتجاري الاقتصادي السابق لصالح دبى ودول الخليج. ولا بد من دورٍ اقتصادي جديد له، ضمن حدوده وإلى حدٍ ما أبعد منها. ولا يُمكن لهذا الدور الجديد أن يبرُز دون عودة سوريا للنهوض الاقتصادي و«إعادة إعمارها». والعكس أيضا صحيح، لما فى لبنان من قدرات… سورية فى النهاية. والفترتان الزمنيتان لإعادة نهوض اقتصادي البلدين مرتبطتان ارتباطا وثيقا.
والبلدان يحتاجان اليوم، أولا وأساسا، إلى إعادة إرساء دولة قادرة، يتم فيها التداول على السلطة دون أزمات. دولة مهمتها الأساسية خدمة المواطنين والمواطنات بفعالية والخروج من الأزمة المستعصية. فى الحالتين، لا بد من ضبط السلاح بيد الدولة والتحرر من تغلغل الخارج والتعامل بعقلانية مع جميع الدول الصاعدة فى الجوار، خاصة إيران وتركيا والخليج، والتصرف بثقة تجاه المشروع الصهيوني الذى لا يحتل الأرض فقط وإنما يشكل نقيضا فى العمق لمشروعي دولتي مواطنة متساوية فى لبنان وسوريا.
المشكلة أن البلدين ضعيفان اليوم، ويحتاجان إلى مشروع مشرقي إقليمي تنخرط فيه مصر والأردن والعراق. فهما ليسا وحدهما المعرضين للأزمات الداخلية والتغلغل الخارجي، وفى النهاية لأزمة وجودية.
وصور المرآة المشوهة لا تعكس فقط ما هو أسوأ ما فى لبنان وسوريا فحسب.
* كاتب سوري، رئيس منتدى الاقتصاديين العرب
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.