سونيا العلي *
تنشغل ’أم أحمد‘ بتغليف ثمار التين في أكياس، وتعمل بهمة ونشاط لتؤمن لقمة العيش لأسرتها . “يبقى العمل رغم مردوده القليل أفضل بكثير من انتظار سلة الإغاثة أو المساعدة من الآخرين” بهذه الكلمات عبرت أم أحمد (31 عاماً) من قرية “كورين” بريف إدلب الجنوبي الغربي، عن رغبتها بالعمل والإنتاج، حيث تتوجه كل صباح برفقة ابنتها إلى العمل في ورشة لتعليب التين المجفف، ورغم التعب والأجر المتدني، وامتداد العمل لساعات طويلة، إلا أنها تحمد الله لحصولها على فرصة عمل في هذا الوقت العصيب، تخلصها من شبح العوز والبطالة .
أم أحمد هي أم لأربعة أولاد، تعرض زوجها لإصابة حربية منعته من العمل منذ ثلاث سنوات، فاضطرت للسعي أمام أسرتها، والعمل مع نساء أخريات في ورشة للتين المجفف، حيث يقمن بتنظيفه وتعقيمه ثم وضعه في قوالب متنوعة، استعداداً لطرحه في الأسواق، أو تصديره خارج البلاد .
وجدت الكثير من النساء في إدلب أنفسهن مضطرات للعمل جراء فقدان السند والمعيل بالموت أو الإصابة أو الاعتقال في سجون نظام الأسد، مما أجبرهن على الخروج من منازلهن بغية البحث عن رزقهن ومصادر دخل مناسبة لإعالة أسرهن، وتحدي قلة الأجور وغلاء المعيشة، إضافة إلى الضغوطات النفسية والاجتماعية التي تلاحقهن .
أم أحمد تتحدث لإشراق عن عملها بالقول: “يبدأ عملنا في الورشة من فصل الصيف، ويمتد حتى نهاية فصل الشتاء، ونتوزع العمل فيما بيننا، حيث تختص نساء بفرز ثمار التين اليابس، وتتولى أخريات مهمة التنظيف والتعقيم، وصولاً إلى مرحلة التعليب في صحون ورقية أو الضم في قلائد” .
وتبين أم أحمد أن عملها هو تغليف علب التين المجفف بأكياس شفافة، لكنها تشكو من قلة الأجر الذي تحصل عليه مقابل عملها، مبينة أنها تعمل لمدة 6 ساعات يومياً مقابل 15 ليرة تركية، أي ما يعادل “دولار أمريكي ونصف” .
وتضيف بنبرة لا تخلو من الحزن: “عائلتي كبيرة وزوجي معاق، صحيح أن أهل زوجي يساعدوننا في تأمين بعض النفقات، غير أنها لا تسد الرمق” .
أما ’حنان الشردوب‘ (39 عاماً) النازحة من “معرة النعمان” إلى مدينة “أريحا”، فتعمل في ذات الورشة بعد أن اجتمع عليها الفقر والنزوح، تحدثت لإشراق عن الظروف التي أجبرتها على العمل بالقول: “فقدت زوجي منذ سنتين، ولا أحمل شهادة ولا أتقن أي مهنة، مما دفعني للعمل في هذه الورشة لتأمين المتطلبات الأساسية لأسرتي المكونة من سبعة أفراد، وإبعاد شبح الجوع الماثل أمام أعيننا” .
وتؤكد الشردوب أن عمل المرأة خارج المنزل محفوف بالتحديات والمصاعب، منها محدودية فرص العمل وقلة الخيارات، وتضيف: “أضطر لترك أولادي طوال اليوم دون رعاية، وأعود في المساء متعبة، دون أن تنتهي مهمتي، حيث أبدأ بطهي الطعام وتنظيف المنزل والاهتمام بالأولاد وتعليمهم” .
وتشير الشردوب أنها لا تسلم أيضاً من نظرة المجتمع الذي يستعيب خروج المرأة الأرملة من المنزل للعمل، ويراقب تحركاتها، وألسنة الناس التي تلوكها دون رحمة، مؤكدة أنها لا تهتم، لأن كل ما يهمها في هذه الحياة هو إبعاد أولادها عن ذل الفقر، ومد يد الحاجة لأحد.
وكذلك الطفلة ’مريم الجمول‘ (13 عاماً) النازحة من مدينة “سراقب” إلى قرية “كورين”، تركت المدرسة وتوجهت للعمل في ورشة التين، لتساعد والدها المسن في تأمين مصروف المنزل، وعن ذلك تقول لإشراق: “لم يعد والدي المسن قادراً على العمل، وأخي من ذوي الاحتياجات الخاصة، لذلك تركت مقاعد الدراسة، وتوجهت نحو العمل بسبب الحاجة والفقر والنزوح” .
’محمود زكريا‘ (38 عاماً) من بلدة “كورين” بريف إدلب، صاحب ورشة لتعليب التين المجفف، توفر فرص عمل لنساء معيلات في المنطقة، يتحدث لإشراق عن العمل بقوله: “يشكل التين مدخولاً رئيساً للمزارعين في إدلب، وتنتشر تجارة التين المجفف في مدينة إدلب وريفها، وتعتبر من المهن القديمة التي يعمل بها سكان المنطقة نظراً لغناها بأشجار التين، كما توفر فرص عمل لأكثر من 100 امرأة معيلة” .
ويشير زكريا إلى أنه يقوم بعد انتهاء موسم القطاف بشراء التين من المزارعين لإعداده للتصدير، ليبدأ عمل النساء في الورشة بفرز الثمار حسب الجودة والحجم والنوع، تليها مرحلة غسيل الثمار وتبييضها في أحواض الماء لإزالة الشوائب والأوساخ، ثم يعرض التين بعدها في الهواء الطلق لتجفيفه وتعقيمه، ثم تقوم النساء بتغليف التين المجفف ضمن أكياس خاصة باستخدام قوالب متنوعة.
وعن عمل النساء يضيف زكريا: “تمكنت النساء من إثبات قدرتهن على التكيف مع الظروف التي تمر بها البلاد، وأن تتغلب على التحديات من خلال إتقانها للعمل من جهة، وإصرارها على النجاح في أية تجربة تخوضها من جهة أخرى” .
تواجه النساء في إدلب مصاعب كثيرة وهموماً مضاعفة في ظل غياب المعيل، وتضيق بهن سبل الحياة، بعد أن وقع على عاتقهن مسؤولية العمل والإنفاق والنهوض بواقع أسرهن المعيشي، فيجدن في المشاريع الصغيرة فرص عمل لتحصيل القليل من النقود، وتوفير لقمة العيش بكرامة.
* كاتبة صحفية سورية
المصدر: اشراق
التعليقات مغلقة.