الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كلُ مَن يحكُم أفغانستان.. تنتظره اللعنات القبَلية!

منى فرح *

إذا كان بلد مثل أفغانستان هو “مقبرة الإمبراطوريات” تاريخياً، فإن حكمه وإدارته من أهله هو من أصعب المهام “ومن المُرجح أن تجد طالبان أن حكم أفغانستان أصعب بكثير من احتلالها”، كما يقول كارتر ملكاسيان، الكاتب الأميركي في “فورين أفيرز” ومؤلف كتاب “الحرب الأميركية في أفغانستان”.

كان للانتصار السريع الذي حققته حركة “طالبان” باستيلائها على أجزاء كبيرة من أفغانستان، مقابل الانهيار السريع أيضاً للحكومة الديموقراطية صدى مدوياً طغى على المشهد المحلي والإقليمي والعالمي خلال الأسابيع القليلة الماضية. هذا التحول المُذهل للأحداث، وما أعقبه من مشاهد الفوضى واليأس، أدى إلى طرح سيل من الأسئلة حول الكيفية التي ساءت فيها الأمور بهذه السرعة. ولكن، النجاح السريع الذي حققته طالبان يطرح الكثير من علامات الاستفهام والتوقعات حول نوع الحكم الذي ستمارسه الجماعة في إدارتها للبلاد، سواء لجهة الحرية المطلقة التي من المرجح أن تتمتع بها طالبان في سن رؤيتها الخاصة للسلطة خلال السنوات القليلة المقبلة، أو لجهة إدارتها للتحديات الحادة المرتقبة مع مرور الوقت.

لقد أظهرت حركة طالبان أنها أكثر المنظمات السياسية فعَّالية في أفغانستان. فعلى مدى عقدين من الزمان، وبينما كان الساسة الأفغان يتشاحنون، وتعثرت الديموقراطية، كانت طالبان تُبرهن عن ثبات في القيم والتنظيم والتعاضد بين صفوفها. وانطلاقاً من مفاهيمها الثابتة عن الوحدة والهوية الأفغانية، استطاعت الجماعة الصمود وتجاوز مرحلتين انتقاليتين أساسيتين للقيادة: صعود “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش)، والغزو العسكري الأميركي الذي دام 20 عاماً. وها هي الآن في موقع تولي “السلطة” من جديد، ومن المرجح أن تظل كذلك لفترة من الزمن.

لكن، هذا لا يعني أن انتصار طالبان يمثل نهاية لأعوام الحرب وعدم اليقين والصدمات المتتالية التي مرت بها أفغانستان على مدى الأربعين عاماً الماضية. كما أن طالبان اليوم تواجه مشاكل عديدة، أهمها الضائقة المادية، والصراعات الداخلية، والمحاصيل غير المشروعة، والجيران المتطفلين، والتهديدات بانتفاضات شعبية، وهي مشاكل جدّية ومُزمنة، وقد أثبتت أنها “لَعنةٌ” تحل على كل من يحكم أفغانستان.

في طور الإنتاج:

وبرغم أن استيلاء طالبان على أفغانستان بدا سريعاً ومدوياً بطريقة لا يمكن تصورها، إلا أن الجماعة كانت في الواقع تعمل منذ سنوات من أجل أن تكون على أتم الجهوزية لمثل هذه المرحلة. فمنذ العام 2014، بدأت تضغط على القوات الحكومية للخروج من الأرياف ومراكز المقاطعات المحيطة بها وكذلك من عواصم المحافظات. وبحلول نهاية العام 2020، كانت كل عاصمة إقليمية تقريباً في أفغانستان عُرضة لهجمات طالبان.. وصولاً إلى الهجوم الأخير الذي انتهى بسقوط كابول (…).

إن الانهيار الذي يبدو عفوياً ليس بأي حال من الأحوال غير مسبوق في التاريخ الأفغاني. فكما يوضح عالم الأنثروبولوجيا توماس بارفيلد، فإن الهزائم في المقاطعات لطالما كانت السبب الرئيسي والمباشر لانهيار الأنظمة في أفغانستان وبسرعة. فمن يُحسبون على أنهم “مؤيدون” للسلطة سُرعان ما يغيرون مواقفهم أو يلقون أسلحتهم بدلاً من القتال حتى الموت. وخير مثالين عن هذه الظاهرة ما حدث أثناء صعود طالبان إلى السلطة أول مرة في تسعينيات القرن العشرين، وسقوطها في عام 2001.

لم يكن لديهم خيار:

إن سرعة ومدى انتصار طالبان تعني أن لدى الجماعة الآن دوافع وأسباب لتقاسم السلطة أقل بكثير من اندفاعهم لإعلان نيتهم في استعادة الإمارة الإسلامية. لقد جعلهم انتصارهم في وضع يسمح لهم بنزع سلاح الغالبية العُظمى من المعارضين، كما يفعلون الآن. وأي طرف سياسي يتفاوض حالياً مع طالبان حول تشكيل حكومة جديدة، مثل الرئيس السابق حامد كرزاي والرئيس التنفيذي السابق عبدالله عبدالله، معرضٌ لأن يجد نفسه أمام فوهة بندقية طالبان. وقد شرح لنا أحد القادة الأفغان – بتهكم – سبب قبول سماسرة القوة الشمالية للنظام الجديد، قائلاً: “لم يكن لديهم خيار آخر”.

مع مثل هذا التسلط، بدأت الخطوط العريضة لدولة طالبان الجديدة تظهر للعيان. وتقول الجماعة إنها بدأت بصياغة دستور جديد، وأن زعيم الحركة المُلا عبد الغني برادر الموجود في كابول لمناقشة الحكومة المستقبلية مع كرزاي وعبدالله وآخرين. لكن، ومهما كانت نتيجة تلك المناقشات، فمن المرجح أن تُكرس الحكومة الجديدة الشريعة الإسلامية كأساس وحيد للنظام المرتقب، وتحصر السلطة بيد زعيم طالباني واحد، وتتقاسم قدراً رمزياً من السلطة مع القادة الأفغان الآخرين (ربما كرزاي أو عبدالله، ولكن قبلهما من المحتمل أن يكون الزعماء الدينيون والقبليون الأقل شهرة الذين تعاطفوا مع قضية طالبان). قد يسمح الدستور الجديد بإجراء انتخابات، لكن سيتم تنظيمها بطريقة تضمن سيطرة طالبان على الوظائف الرئيسية للدولة.

“نظامنا هو الطاعة”:

في الوقت نفسه، وعدت طالبان الخصوم بأنهم لن يُصابوا بأذى إذا ألقوا أسلحتهم. ومن المؤكد أنها ستواصل تقديم مثل هذه الوعود لضمان أوسع قبول ممكن للنظام الجديد المرتقب. وقد تقدم حتى بعض التنازلات بهدف شراء الخصوم القدامى. ومع ذلك، فإن السيطرة العسكرية التي تفرضها طالبان على البلاد تجعل مثل هذه الالتزامات بعيدة كل البعد عن المصداقية. فبمرور الوقت، لن يكون لقادة طالبان سبب وجيه لعدم استخدام قوتهم العسكرية من أجل تعزيز سيطرتهم وتوسيع احتكارهم للسلطة.

الجدير بالذكر هنا أن انتصار طالبان أظهر درجة من التماسك والتعاضد داخل صفوف الجماعة من المُرجح أن يستمر. فلطالما كان من الصعب معرفة مدى وحدة طالبان على وجه اليقين. فالجماعة يتألفون من حركة طالبان الرئيسية من جنوب أفغانستان، وشبكة حقاني من شرق أفغانستان، ومجموعة متنوعة من الجماعات القبلية المرتبطة بها وكوادر مسلحة أصغر. الهجوم الأخير الذي طال أنحاء أفغانستان كان منسقاً بدرجة مذهلة، وقد عكس التعاون والتعاضد بين هذه المجموعات المختلفة. وعلى عكس حركة المجاهدين في عام 1989، لم تنقسم طالبان إلى فصائل متناحرة عندما انسحب المحتل الأجنبي. وفي الأسبوع الذي سبق انهيار حكومة أشرف غاني، كان قادة الشمال يخبرون المسؤولين الأميركيين أنه “لا أحد يريد أن يموت من أجل أشرف غاني”. تبدو طالبان مُحصنة جداً ضد الإصابة بعطب ما أكثر بكثير مما كانت عليه الديموقراطية.

مثل هذا التماسك يُفترض أن يساعد طالبان على فرض درجة من النظام في نطاق سيطرتها، وخاصة المقاطعات الجنوبية والشرقية حيث تكمن جذور الجماعة. إن الأعمال الوحشية وحدها لا تفسر قدرة طالبان على إرساء النظام. أمراء الحرب الأفغان الآخرون متوحشون أيضاً. الفرق هو أن طالبان يمكن أن تمارس الوحشية دون أن ينشب أي قتال في صفوفها. فـ”طالبان تتبع أميراً.. ونظامنا هو الطاعة. نحن لسنا مثل الأفغان الآخرين”، بحسب قيادي في طالبان (عضو هيئة قيادة طالبان، مجلس شورى كويتا) قابلته في العام 2019.

ولعل الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن انتصار طالبان يشير إلى أن حكومتها المرتقبة يمكن أن تتمتع بدعم شعبي أوسع مما كانت عليه عندما كانت في السلطة أول مرة (1996 – 2001). فسنوات من القتال في الشمال تعني أن لديها درجة معينة من الدعم من الطاجيك والأوزبك، الذين عارضتهم في الماضي. أضف إلى أنه في المدن، بدأنا نشاهد اليوم شباباً أفغان حليقي الذقن وهم يلتقطون بشغف صوراً لهم مع عناصر من طالبان. كما يبدو أن بعض الأفغان المتعلمين في المناطق الحضرية يعملون مع الجماعة.

لعنة الحكومات الأفغانية:

مع ذلك، وعلى الرغم من كل نقاط القوة التي أظهرها الانتصار العسكري لطالبان، هناك تحديات ونقاط ضعف أخرى ستستمر- ومن المُحتمل أن تزداد بمرور الوقت لأسباب عديدة:

أولاً؛ السياسات المحلية والخلافات القبلية هي لعنة عانت منها جميع الحكومات الأفغانية المتعاقبة. وطالبان أيضاً ستُكافح من أجل إدارة هذه اللعنات. فالقبائل لديها منافسات طويلة الأمد، وغالباً ما تعطي الأولوية لقضايا الشرف الفردية على قبول الوساطة. وعندما يتعلق الأمر بقضايا مثل الأراضي والمياه، ستحاول طالبان إرضاء المزارعين الذين لا يملكون أرضاً والذين كانوا مصدراً رئيسيا للدعم الذي كانت تحصل عليه أثناء الوجود الأميركي وقبله. ولكن القرارات ذاتها سوف تُزعج زعماء القبائل الذين سيخسرون أملاكهم. فحتى في ظلَّ الشريعة الإسلامية، سيرغب زعماء القبائل في الدفاع عن أراضيهم، التي هي مصدر رزق عائلاتهم. الاشتباكات القبلية والدعوات للانتقام حتمية، وستكون مصدر إزعاج لطالبان، كما كان الحال في تسعينيات القرن العشرين.

ثانياً؛ ستجد طالبان نفسها مضطرة لتكافح من أجل تحقيق التوازن بين الضرورات عندما يتعلق الأمر بزراعة الخشخاش. فالضرائب المفروضة على هذا القطاع غير المشروع تُشكل مصدراً رئيسياً لإيرادات طالبان، وقد أدى السماح بزراعة الخشخاش إلى كسب التأييد والدعم بين المزارعين الفقراء – وهو عامل رئيسي في نجاحهم العسكري، حيث أن الملجأ الذي قدمه لهم هؤلاء المزارعون ساعد الجماعة على الاقتراب من مراكز المقاطعات على مدى السنوات الست الماضية. في السلطة، ستواجه طالبان ضغوطاً خارجية كبيرة – ربما بما في ذلك من جيران أقوياء مثل الصين وإيران – للتغلب على هذه الضغوط (كما فعلت لفترة وجيزة تحت الضغط الدولي في عام 2000). وبالنظر إلى الأهمية السياسية والاقتصادية للخشخاش، فمن المرجح أن يكون لأي نقد دولي في هذا الخصوص تأثيراً هامشياً بالنسبة لطالبان.

ثالثاً؛ النجاح العسكري السريع يعني أيضاً أن طالبان ستخسر التمويل الدولي الذي كان من المُحتمل أن يستمر في التدفق – إلى حد ما على الأقل – فيما لو وصلت إلى السلطة من خلال تسوية سياسية. الآن، لا يبدو استمرار هذا التمويل ممكناً سياسياً بالنسبة لمعظم المانحين. وهذا يجعل طالبان أكثر اعتماداً على زراعة الخشخاش والتمويل من الصين.

رابعاً؛ قبيل انسحاب القوات الأميركية وخلال ذلك، عملت القيادة السياسية لطالبان على تقوية علاقاتها مع العالم الخارجي. فقد زارت وفود الحركة باكستان وإيران وروسيا والصين، ولم تبد أي دولة من هذه الدول الأربع أي معارضة جادَّة لاستيلاء طالبان على السلطة. إن الرغبة في القبول الإقليمي هي أحد الأسباب التي تجعل طالبان تُبذلُ جهداً كبيراً لتصوير نفسها على أنها مُحترفة ومُعتدلة ومُحايدة. لكن من غير المرجح أن تستمر طالبان في تلقي الدعم المستمر من القوى الإقليمية الأربع، بالنظر إلى طبيعة ديناميات المنافسة الإقليمية. فإذا كان التاريخ دليلاً، ففي مرحلة ما سيرى واحد أو أكثر من جيران أفغانستان سبباً لمعارضة نظام طالبان وحتى دعم قوات المعارضة التي تقاتل لتقويضه.

حرب عصابات:

قد تتحول هذه المعارضة في النهاية إلى تحدٍ كبير، مهما طال ظهور احتمالاتها في الوقت الحالي. ومن غير المرجح أن تمر سيطرة طالبان على أفغانستان دون منازع. وبالفعل، يزعم كل من أحمد مسعود (نجل المقاوم الشهير أحمد شاه مسعود) وعمر الله صالح (نائب الرئيس أشرف غاني) أنهما يعيدان إحياء حركة المقاومة في وادي بانشير. وبالنظر إلى أحداث الأشهر الثلاثة الماضية، هناك سبب يدعو للتشاؤم بشأن توقعاتهما. كانت هذه القوات في وضع أفضل بكثير للقتال قبل بضعة أشهر. في ذلك الوقت، تساءل العديد من المراقبين (بمن فيهم أنا) عمَّا إذا كان القادة في الشمال سيحشدون قواتهم ويدافعون عن مقاطعاتهم. لطالما أكد هؤلاء القادة للمسؤولين الأميركيين أنهم يخزنون الأسلحة ومستعدون “للذهاب إلى الجبال” لخوض حرب عصابات أخرى إذا لزم الأمر. لكن مع استثناءات قليلة (محمد عطا، عبد الرشيد دوستم، إسماعيل خان)، كان ردّ فعل هؤلاء القادة وقواتهم ضعيفاً. كان قادة الميليشيات الشمالية على خلاف مع أشرف غاني، وبالتالي ترددوا عندما تعلق الأمر بالدفاع عنه. وبنفس القدر من الأهمية، أصبح لدى العديد منهم الآن منازل مريحة خارج البلاد وأنصار اختبروا معنى الاستمتاع بالحياة الحضرية – فقد أصبحوا، بحسب توصيف صحافي من كابول، “برجوازيين”. (وأنا أكتب هذا التقرير، ورد أن أحمد مسعود يجري محادثات مع طالبان).

في أفغانستان، غالباً ما تنطوي الطريقة التقليدية للحرب على عدم مواجهة العدو وجهاً لوجه، بل خوض حرب عصابات على الأرض. وجد البريطانيون والسوفييت والأميركيون – وكذلك طالبان خلال فترة ولايتهم الأخيرة في السلطة – أنفسهم على الطرف المتلقي لمثل هذا العمل الفدائي.

هل تمت المهمة؟

على مدى السنوات الأربعين الماضية، لم يتمكن أي حاكم من تحقيق الاستقرار في أفغانستان. كانت هناك فترات بدا فيها الشعب الأفغاني مُنهكاً بسبب الحرب، وبدا فيها أن العنف قد انتهى: الانسحاب السوفييتي في عام 1989، وصول طالبان للحكم أول مرة في العام 1996، والغزو الأميركي في العام 2001. لكن، في كل مرة، كان العنف يعود من جديد وبوتيرة أشد، بسبب الانقسامات الداخلية، والتضاريس الوعرة، وندرة الموارد، والجيران المزعجين. ولا تزال هذه العقبات هي ذاتها قائمة حتى اليوم، وتحول دون استقرار الحكم. وحتى لو بدت حركة طالبان في وضع جيد لفرض النظام، فإنها لا تزال تواجه تحديات هيكلية حقيقية.

في الوقت الراهن، صحيح أن لدى طالبان خطة “أنجزت مهمتها”. ولكن هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن 40 عاماً من الحرب الأهلية والصَدَمَات المتتالية في أفغانستان قد لا تنتهي. وبطريقة أو بأخرى، من المُرجح أن تجد طالبان أن حكم أفغانستان أصعب بكثير من احتلالها.

(1) ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“ على الرابط:

https://www.foreignaffairs.com/articles/afghanistan/2021-08-23/how-will-taliban-rule
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كاتبة صحفية ومترجمة لبنانية

المصدر: 180 بوست

التعليقات مغلقة.