خطيب بدلة *
استهل الأستاذ كمال سهرة “الإمتاع والمؤانسة” بالقول إنّ لديه حكاية مؤجلة عن الفتى ذي الأطوار الغريبة سلمون. الحكاية تبدأ من حصوله على موافقة والده ليعمل في مزرعة الأبقار التي افتتحها التاجر الإدلبي أبو عمشو أخيراً في بلدتهم.
تحركت أبصار الساهرين باتجاه كمال، وبالأخص العم أبو محمد المولع بسماع الحكايات .
قال أبو محمد: يا ريت دائماً تبدا السهرة تبعنا بالحكايات. تفضل أستاذ كمال.
كمال: لما راح سلمون لعند أبو عمشو منشان يشتغل في رعاية الأبقار، كان برفقته صديقه أحمدوني الذي كان يشترك معه في سرقة أقراص الشعيبيات.
ضحك كمال، فجأة، إذ يبدو أنه تذكر حادثة مضحكة، واستطرد بحديثه قائلاً:
– خطرت في بالي حكاية أحلى بكتير من الحكاية اللي كنت مفكر إحكيها . أشو رأيكم إحكيها؟
قالت أم الجود: من وقت ما صرنا نسهر معكم ولهلق، كلما بديتوا بقصة بتطلعوا بقصة تانية.
أبو محمد: صحيح كلام أم الجود. بس أنا ما عندي مشكلة إذا بيحكوا حكاية تانية. خلينا نسمع.
كمال: كان بياع الشعيبيات الحاج ناعس عم ينادي ع الشعيبيات وبيقول: “القَطْر أصلي والحشوة قشطة”. ومرة أحمدوني وسلمون سرقوا من عنده قرصين شعيبيات، وراحوا لورا سور المقبرة، وأكلوهم، وبعدما مسحوا إيديهم صار الواطي أحمدوني يشكك بالحشوة، وقال لسلمون: بظن الحشوة قريشة مو قشطة.
فنط سلمون وما حط، وقال: باطل. هادا الحاج ناعس واحد غشاش ولازم يتربى، تعال معي.
ومشي أحمدوني وسلمون هرولة باتجاه الحاج ناعس، وبلشوا يصرخوا عليه، ويقولوا:
– يا غشاش، يا سراق، يا حرامي، عم تبيع شعيبيات مغشوشة؟ بتقول محشية قشطة وإنته حاشيها قريشة. ومين بيعرف؟ ممكن يكون القَطر عَمَلي، مو قَطْر أصلي متلما عم تقول.
كانوا التنين عم يصرخوا بالتناوب، والحاج ناعس مندهش وعم يتطلع فيهم، وفي ناس تجمعوا حواليهم.. وبالأخير انتبه، وتذكر إنه هدول في مرة سابقة حاولوا يسرقوا من عنده شعيبيات، فقال: ولاك إنتوا كذابين، أصلاً إنتوا ما بتشتروا من عندي. واليوم بالذات أنا ما شفت خلقتكم.
نط أحمدوني وقال: كمان بتكذب؟ طيب يا ناس، تعالوا، ولمسوا إيديّ وإيدين هالإنسان الطيب سلمون، وشوفوا كيف إنهم مليانين دَبَق من قَطْر الشعيبيات.. وإذا ما بتصدقوا مستعدين نحلف أنا وسلموني ع القرآن الكريم على إني اشترينا من عنده..
تدخل سلموني وقال كمن تذكر شيئاً:
– نعم، اشترينا كل واحد قرص، سألناه بقديش القرص قال بربع ليرة، أنا عطيته ربع ليرة ناولني قرص، وقبلما آكل سألته عن الحشوة فحلف لي يمين إنها قشطة، مع أنه حاشيها قريشة.. ورفيقي أحمدوني اشترى قرص، ودفع له ليرة صاغ، وما بعرف إذا رَجَّع له تلات أرباع الليرة..
أحمدوني (لسلمون): وقف وقف. تذكرت شغلة. أنا دفعت له ليرة وما رجع لي الكمالة. (للحاج ناعس) هات ناولني تلات ارباع الليرة، تْحَكْوَكْ.
جنّ جنون الحاج ناعس، وقال: الله يمضي هالنهار على خير. كمان بتكذب؟
هون سلمون اعترض وقال: لا يا حاج ناعس. هاي ما حبيتها منك. يا ناس تطلعوا في وجه هالإنسان البريء أحمدوني، معقول يكون بيكذب؟
خلاصة الكلام كبرت القصة كتير، والحاج ناعس صار عنده رغبة يطلع منها بأقل الخسائر، منشان هيك قال مخاطباً الناس المتجمهرين:
– يا خيو أنا مستعد إحلف يمين إن هدول التنين (الفَدّان) ما إجوا لعندي اليوم ولا شفتهم..
فقس أحمدوني بأصابعه وقال: يمين؟ على قولة المتل (قالوا للحرامي احلف يمين قال لنفسه: أجاني الفَرَجْ). خيو، أنا عطيتك ليرة، واشتريت من عندك قرص شعيبيات مغشوش بالقريشة بربع، وإنته ما رجعت لي الكمالة. هات ناولني تلات إرباع الليرة أحسن ما أشتكي عليك. ولا تقول إنك رَجَّعت لي مصاري. هه. أنا جاهز للتفتيش، إذا هالناس الطيبين بيلاقوا معي قرش واحد بتكون رَجّعت لي.
هنا صار أحمدوني يحكي كما لو أنه رجل كبير، مُعْتَبَر، في لحظة اكتشافه أنه تعرض لاحتيال. وقال:
– لك يا خيو، بيقولوا من وين بيجي البلا؟ بتكون قاعد بحالك بذاتك، وماشي بجنب الحيط وعم تقول يا رب سترك، وبالصدفة بتشتهي على قرص شعيبيات. فيها شي يا جماعة إنه الإنسان يشتهي على قرص شعيبيات؟ عيب؟ حرام؟ أكيد مو عيب ولا حرام، بتجي بتشتري قرص شعيبيات قيمته ربع، بتشيل ليرة وبتعطيها للبياع الحاج ناعس، وهالليرة إنته من وين جايبها؟ أكيد لا هيي سرقة ولا هيي احتيال. من عرق جبينك طبعاً. بياخد الحاج ناعس الليرة منك، وبيعطيك قرص شعيبيات بالقريشة، وبياكل عليك تلات أرباع الليرة.
سلمون: يا حرام عليك يا حاج ناعس. ما لقيت غير هالإنسان البريء أحمدوني تتسلبط عليه؟
واحتدمت المشاجرة مجدداً، وصار الحاج ناعس يحلف للناس أن هذين الغلامين يفتريان عليه.. وهما يهددانه بالفضيحة، وبأنهما سيذيعان حكاية الاحتيال التي مارسها على المسكين أحمدوني في أربع قراني البلد.. وهكذا حتى قال الحاج ناعس:
– لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. حسبي الله ونعم الوكيل. تعال أنت وهوي قربوا لعندي، بدي أعطيكم تلات أرباع الليرة وإخلص منكم ومن بلاكم!
ومد إيده على القسم السفلي من العربانة التي يبيع عليها الشعيبيات، عمل حاله عم يطالع مصاري حتى يعطيهم، ولما صاروا قريبين منه طالع عصاية إلها في نهايتها دنكورة، وهجم عليهم وبلش فيهم ضرب.. وبصعوبة تمكن الناس من تخليصهم من الضرب، ولما وصل سلمون عالبيت كان حاطط إيده على جبينه، حتى يخبي الكدمة اللي نبقت بضربة العصاية.. ولما شافه أبو سلمون داخل، ورايح دغري باتجاه المغسلة نادى له، وقال له:
– تعال لهون ولاك سلمون. مين ضاربك على جبينك؟
ضحك سلمون وقال له: له يا ياب، أنا في حدا بكل هالبلد بيسترجي يضربني؟ أنا إبن أبو سلمون أنا.
فضحك أبو سلمون وقال له: طز بسلمون وأبو سلمون! احكي لي لشوف. مين ضاربك على جبينك؟
قال له سلمون: مو ضرب ياب. صارت معي قصة. اعطيني شي خمس دقايق شي أغسل وجهي وبحكي لك القصة.
ضحك الحاضرون في سهرة الإمتاع والمؤانسة. وقال أبو محمد:
– وأيش بقى هالقصة؟
كمال: وأنا كمان بدي خمس دقايق، وبكمل لكم الحكاية. إذا ممكن حدا يعمل لنا أبريق شاي. حاكم أبو الجود نشف ريقه من كتر السكوت والإصغاء.
* قاص وسيناريست وصحفي سوري
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.