الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

دومينو الشرق الأوسط: حروب المياه(3 من 3)

عبد الحسين شعبان *

هل حروب المياه قائمة وصامتة؟

يحتفل العالم سنوياً منذ العام 1993 بيوم المياه العالمي، حيث تم اختيار يوم 22 آذار/مارس سنوياً ليكون مناسبة لجذب الانتباه إلى أهمية المياه العذبة والدعوة إلى الإدارة المستدامة لموارد المياه في العالم.  

رابعاً: تركيا؛ مشروع الغاب.. للتحكم بمياه سوريا والعراق

حتى وقت قريب، كانت تركيا بحكم ممارساتها وسياساتها، إحدى القوى الإقليمية الكبرى سواءً بسياستها إزاء اليونان وقبرص وبلغاريا أو العالم العربي، حيث كانت تتطلّع لأن تلعب دوراً أكبر بحكم نفوذها العسكري وإمكانات حلف الناتو، فضلاً عن أنها تطمح في أن تكون قوة اقتصادية أكبر بانضمامها إلى السوق الأوروبية المشتركة.

تدرك تركيا أن بإمكانها أن تضطلع بدور لا تستطيع “إسرائيل” القيام به، فهذه الأخيرة هي في نظر الشعوب العربية قاطبة عدو قائم وعدوان مستمر، على الرغم من محاولات التطبيع والضغوط الدولية؛ وفي المقابل، تتمتّع تركيا بمزايا عديدة وشعبها مسلم وموقعها استراتيجي وقواها البشرية كبيرة، وإمكاناتها الاقتصادية هائلة، فضلاً عن ذلك، فإن لديها علاقات تاريخية مع العرب وحكمت البلدان العربية وغيرها أكثر من 4 قرون ونيّف من الزمان.

وتمتلك تركيا ترسانة ضخمة من السلاح، فهي بلد مترامي الأطراف، حيث منحها العامل الجغرافي سيطرة على آسيا الصغرى والمضايق، التي تشكل معاً حلقة الوصل بين دول البلقان ومنطقة الشرق الأوسط، كما منحها أهمية استراتيجية تعود إلى حدودها الشمالية الشرقية مع الاتحاد السوفييتي (سابقاً)[24]، لذلك يمكنها أن تلعب دوراً محورياً في الشرق الأوسط، لا تستطيع دولة غيرها أن تعوضه، وهذا الاعتقاد هو الذي حدّد بعض ملامح الاستراتيجية التركية في العقود الماضية، ولا سيّما بعد الحرب العراقية – الإيرانية.

إن مثل هذه السياسة وذلك الطموح في السابق والحاضر يفسر دور تركيا بالسلب أو الإيجاب، فهي تريد أن تلعب دوراً محورياً إقليمياً معادلاً أو حتى أكبر من دور إيران، وتسعى للحصول على نفوذ من خلال علاقتها بين العرب و”إسرائيل”، برغم ما تعرّضت له مؤخراً من إشكالات مع الأخيرة، كما تريد تأمين مصالحها القومية المتعاظمة والظهور بمظهر الدولة القائدة في المنطقة، خصوصاً بـ”إسلام معتدل”، وهو غير الإسلام الإيراني أو الإسلام الذي كان يدعو إليه أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة أو تنظيم داعش وأبو بكر البغدادي، وقد تم تقديم الإسلام التركي باعتباره الأكثر قبولاً وانسجاماً مع مصالح الغرب، ومثل هذا التقدير يكاد يكون عاماً لدى أوساط مختلفة ومتعارضة أحياناً وفيه قدر من الحقيقة، لكنه تعرّض للتصدّع بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت في 15 تموز (يوليو) العام 2016 وما أعقبها من إجراءات وملاحقات وصفت بأنها كانت عقوبات جماعية وتضمنت انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، حسب العديد من تقارير المنظمات الحقوقية الدولية، وخصوصاً بتعاظم دور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وطموحاته التوسعية، التي تم انتقادها أوروبيا.

ولعلّ سياسة تركيا المائية هي جزء من استراتيجيتها العامة التي تحاول أن تمدّ أذرعها، لا سيّما باستخدام نفوذها المائي، ويعتبر سد أتاتورك (الذي تم إنجازه) واحداً من 21 سدّاً تم انجازها في جنوب شرقي تركيا مع مطلع الألفية الثالثة، وبلغت كلفة المشروع 45 بليون دولار، وهو ما أدى إلى نقص هائل في مياه نهر الفرات يقدر بـ 14 بليون متر مكعب، علماً بأن النقص الحاصل من التبخّر يساوي 3 بليونات متر مكعب.

ومشكلة نهر الفرات قديمة نسبياً وتعود إلى بضعة عقود من الزمان عندما أزمعت تركيا على تنفيذ مشاريعها لري جنوب شرقي الأناضول، وقد ساهم الخلاف السوري- العراقي في عدم اتخاذ موقف موحد رادع لتركيا في حينها.[25]

تبلغ سعة سد أتاتورك 48 بليون متر مكعب في حين تبلغ سعة خزّان سدّ الفرات في سوريا 9.3 بليون متر مكعب؛ وتسعى تركيا لزيادة الطاقة الكهربائية إلى الضعف من خلال المشروع والقيام بدور سلّة الغذاء من الناحية الزراعية لتمويل الشرق الأوسط، وذلك من خلال مشروع الغاب Gap. وكان الرئيس التركي الراحل “تورغوت أوزال” قد قال في وقت مبكر “سيأتي يوم نبدّل فيه برميل مائنا ببرميل النفط”.[26]

باشرت تركيا منذ العام 1985 بتنفيذ مشروع الغاب Gap الضخم على نهري دجلة والفرات ويتألف من 13 قسماً، 6 منها على نهر دجلة و7 على نهر الفرات ويغطّي ست محافظات تركية، ومن الناحية الفعلية، فإن تركيا ومن خلال هذا المشروع العملاق يمكن أن تتحكم بالمياه وتستخدمها لفرض سياسات واقتصاديات على كل من سوريا والعراق، خصوصاً حين تصبح أيضاً “سلة غذاء” لتزويد الشرق الأوسط بما يحتاج من مزروعات وفواكه وذلك بالضد من معاهدة هلسنكي التي تنظّم حقوق الدول المتعلقة بالأنهار الدولية لعام 1973 ومؤتمر الأرجنتين حول الموارد المائية لعام 1977، تلك التي تنظّم طرق الاستفادة من الأنهار الدولية وفقاً لقواعد الحق والعدل والحاجة الضرورية، وبما لا يؤدي إلى إلحاق ضرر بالسكان والممتلكات والبيئة وغيرها من الاستخدامات غير المشروعة.

ومن مبرّرات تركيا أن حوضي الفرات ودجلة هما حوض واحد وتقترح جدولة الاحتياجات وإدخال نهر العاصي السوري في حسابات تقاسم المياه وغيرها من الذرائع التي تصرّ على كونها فنية ولا تحمل أي هدف سياسي ولا تضمر إلحاق الأذى بالجيران.

إن قطع المياه المتكرر من جانب تركيا والتي يتضرر منها كل من سوريا والعراق يوضح أبعاد المخطط الذي لم يكن في الواقع سوى “پروفة” دولية لقياس درجة رد الفعل العربي، علماً بأن تركيا ظلّت ترفض بحث الموضوع بصورة جدية مع سوريا والعراق حتى العام 1988، خصوصاً باستغلال ظروف الحرب العراقية – الإيرانية والخلافات السورية – العراقية، لكن امتناع البنك الدولي من تقديم المساعدة لتركيا لحين التوصل إلى اتفاق لاقتسام مياه النهر هو الذي جعلها توافق على وضعه على طاولة المفاوضات.

ويبلغ معدل التدفق السنوي لنهر الفرات 31.8 بليون متر مكعب وملء الخزان والسدود الأخرى يحتاج إلى قطع متواصل ربما لبضعة أسابيع أو أشهر وهو أمر يعطي فكرة عن حجم الضرر الذي سيقع على كل من سوريا والعراق والمخاطر والآفاق التي تنتظرهما.

فالفرات يروي ثلثي الأراضي المروية في سوريا ويوفر سد الفرات 70 % في المئة من حاجتها من الكهرباء ويولد طاقة بحدود 800 ألف ميغاواط سيتم تعطيلها عملياً، إضافة إلى إلحاق ضرر كبير بمشروع يوسف باشا الذي يؤمن ري 200 ألف هكتار ويولد طاقة بحدود 400 ألف ميغاواط.

أما العراق، فإنه الأكثر ضرراً، فالفرات يروي 1.3 مليون هكتار (13 مليون دونم) من الأراضي الزراعية الجيدة، وتشرب منه 7 محافظات هي: الأنبار وبابل وكربلاء والنجف والقادسية والمثنى وذي قار، إضافة إلى 30 قضاء و70 ناحية وأكثر من 4500 قرية، ويبلغ عدد السكان المستفيدين منه نحو 14 مليون إنسان، ومع أن سد حديثة (القادسية) ومشروع سد الورار ومشروع سد الهندية، تتغذّى من النهر وتختزن المياه للاستفادة منها عند الحاجة وفي حال نقص المياه، إلاّ أنها لا تستطيع أن تسدّ النقص الذي يتسبب به انقطاع المياه، فضلاً عن أن ذلك أدى إلى التأثير على بحيرة الحبّانية التي تتغذّى من الفرات لمرّات عديدة، فهو مرتبط بمشروع بحيرة “وان”، وقد وصف “سليمان ديميريل” رئيس الوزراء التركي الأسبق المشروع بأنه “الوطن الذهب للقرن المقبل”.

لقد استغلت تركيا الوضع المتدهور في العراق وسوريا، لا سيّما باحتلال داعش أجزاء منهما للمضي في مشاريعها المائية في حوضي دجلة والفرات، بل تمادت في تدخلاتها بالشأنين السوري والعراقي، بإرسال قواتها إلى داخل البلدين والبقاء فيهما، تارة بزعم التصدّي لداعش والإرهاب الدولي وأخرى لملاحقة المسلحين الأكراد من حزب PKK، وهي ما تزال ترفض الانسحاب من الأراضي العراقية حيث توجد لها قاعدة عسكرية بالقرب من أربيل، حتى بعد هزيمة داعش عسكرياً، ناهيك عن مسعى فرض منطقة عازلة على الحدود التركية – السورية، بدعم من واشنطن وبحجة مواجهة الإرهاب، ولا سيّما بعد إعلان الانسحاب الأمريكي من سوريا.

في السابق كانت كلّما تتعقّد العلاقات العربية – التركية تلتجئ تركيا للتلويح بالسيف النووي الأطلسي وبدور الشريك مع الدول الغربية (امبريالية الفرع) وبمصالحها في العالم العربي، وقد تبينت هذه الصورة عند انقلاب “كنعان إيڤرين” في أيلول/سبتمبر 1980 الذي رفع الطموحات إلى مرحلة التنفيذ، لكي تساهم تركيا بنفوذ أكبر في المنطقة، وخصوصاً في العالم العربي، وذلك من خلال ضغوطها على كل من سوريا والعراق فضلاً عن استمرار علاقتها مع “إسرائيل”.

ومن أهم الاتفاقيات الجديدة الموقعة بين “إسرائيل” وتركيا بعد حكم حزب العدالة والتنمية مشروع نهر “مناوجات” الذي يصب في البحر المتوسط شرق أنطاليا، حيث تم الاتفاق على قيام تركيا ببيع “إسرائيل” 50 مليون كم3 لمدة 20 عاماً بواسطة النقل البحري، وقد تم ذلك في العام 2004 وحتى بعد حادث أسطول الحرية العام 2010 لم يعلن عن إيقاف العمل بهذا الاتفاق.

خامساً: إيران وشط العرب: صاعق التفجيـر

إذا كانت المياه عصب الحياة ويستحيل العيش من دونها، فإنها في الوقت نفسه، وبسبب ندرة توفرها والحاجة إليها، أصبحت مصدراً للنزاعات والحروب، واستخدمت كأداة نفوذ وإملاء إرادات على مرّ التاريخ.

لم يخطئ الرئيس جلال الطالباني وهو السياسي العراقي المخضرم عندما قال إن “اتفاقية الجزائر” التي أبرمت في 6 آذار(مارس) العام 1975، “ملغاة”، لأن من وقّعها لم يكن إيران والعراق، بل الرئيس العراقي السابق صدام حسين وشاه إيران محمد رضا بهلوي اللذان رحلا إلى “دار الحق”، لكن الاتفاقية بقيت جاثمة في مكانها، وربما على الصدور تُستعاد وتُستذكر بين الفينة والأخرى، ولن تُنسى على الإطلاق.

لعلّ الطالباني نسي موقعه الرسمي، باعتباره رئيساً للعراق، حين ” ألغى” فجأة الاتفاقية في جوابه على سؤال لأحد الصحافيين في مؤتمر دوكان[27] مع مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان وطارق الهاشمي أمين عام سابق للحزب الإسلامي ونائب رئيس الجمهورية حينها، فلربّما كان تأثير العقل الباطن عليه قوياً حيث استعاد لغة المعارض السياسي المعتّق ونوستالجيا الرفض، أيام كان في رحاب دمشق وفي إطار التجمع الوطني العراقي، الذي اعتبر اتفاقية 6 آذار (مارس) “خيانية” و”باطلة” ودعا يومها إلى رفضها والعمل على إلغائها.

لكن الطالباني الذي أعلن بشكل عفوي وربما غير مقصود إلغاء الاتفاقية لم يكن يتوقّع ردّ الفعل الإيراني السريع والغاضب الذي جاء على لسان محمد علي حسيني المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية حين قال إن إبداء أي وجهة نظر حول إلغاء معاهدة الجزائر لعام 1975 “يفتقد إلى الأسس القانونية، لأنها تشكّل حجر الأساس للعلاقة بين البلدين”. أما رد فعل منوشهر متكي وزير الخارجية الإيراني حينها فجاء أشدّ صرامة  حين وجّه تحذيره ليس للعراق وحده، بل طال أيضاً الولايات المتحدة التي طالبها بعدم الدخول في هذه اللعبة من جديد، في إشارة إلى الحرب العراقية -الإيرانية، مشدّداً على أن اتفاقية الجزائر وثيقة رسمية مسجّلة لدى الأمم المتحدة وتتمتّع بالقوة القانونية اللازمة ولا مجال للإخلال بها[28].

وقد اضطر مكتب الرئيس جلال الطالباني في اليوم التالي لإطلاق تصريحه [29]إلى التراجع وتأكيده على الالتزام باتفاقية الجزائر واعتبارها نافذة، ولعلّ ذلك مفارقة تكاد تكون تاريخية بخصوص تلك الاتفاقية التي حملت رئيسي البلاد صدام حسين وجلال الطالباني رغم اختلاف توجهاتهما لنفيها وإعادة العمل بموجبها، وقد سبق لصدام حسين أن مزّق الاتفاقية من على شاشة التلفزيون، يوم 17 أيلول (سبتمبر)1980، وكان حينها يستعد للحرب التي أعلنها بعد خمسة أيام، ولعل مبرراته هي “تغيّر الأحكام بتغيّر الأحوال”، معتقداً أن سقوط الشاه فرصة مناسبة لإلغاء اتفاقية الجزائر واستعادة حقوق العراق التي تنازل عنها، وهو الأمر الذي برّره وإن بنبرة خافتة بعض الشيوعيين لاتفاقية الجزائر باعتبارها “صلح بريست ليستوفيسك” بين لينين والألمان عقب ثورة أكتوبر الاشتراكية (1917).

وقد شرح صدام حسين ذلك للسفيرة الأمريكية في العراق السيدة ابريل غلاسبي[30]  عشية غزو الكويت، وذلك حين قال لها: في العام 1974 التقيت مع ابن الملا مصطفى البارزاني في هذا المكان الذي تجلسين عليه، وكان اسمه إدريس.. قلت له سلّم على أبيك وانقل له أن صدام حسين يقول ما يلي: إذا حصل قتال عسكري سننتصر.. وقلت أتعرف لماذا؟ حدثته عن توازن القوى بالأرقام والمعطيات، مثلما تحدثت مع الإيرانيين في رسائلي إليهم أثناء الحرب.

ويواصل حديثه بالقول “لكل هذه الأسباب التي ذكرتها زائداً سبباً سياسياً هو أنكم تعتمدون على خلافاتنا مع إيران، وهي مستندة في خلافها مع العراق على أطماعها بالحصول على نصف شط العرب، فإذا كان الاختيار أن نحافظ على العراق كلّه ومعه شط العرب ونكون بخير فسوف (لن) نتنازل عن شط العرب، وإذا وُضعنا في زاوية، إما نصف شط العرب أو العراق (المقصود الحكم) فإننا سنعطي نصف شط العرب لنحافظ على العراق كما نتمنى”.

وأضاف صدام حسين لتبرير موقفه البراغماتي: “بعدها أعطينا نصف شط العرب ومات البارزاني ودفن خارج العراق وخسر معركته”، وعندما سنحت الظروف لإلغاء الاتفاقية حسب اعتقاده قال عنها: إنها ولدت ميتة وما علينا سوى دفنها والبحث عن معاهدة جديدة[31].

أستعيد هنا تلك الخلفية التاريخية  بشأن النزاع العراقي – الإيراني، لأن مشكلة اتفاقية 6 آذار (مارس) 1975 المعروفة باسم ” اتفاقية الجزائر” لم يتم طي صفحتها تماماً، فقد تجدد الحديث عنها خلال زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى العراق في 11 آذار (مارس) 2019 [32]، وخصوصاً في ما يتعلق بشط العرب.

وبعد أن استمرت الحرب ثماني سنوات وأكلت الأخضر واليابس، حيث حصدت أرواح مليون إنسان وبدّدت نحو 400 مليار دولار، كانت الذريعة الجديدة إحياء “الاتفاقية الميتة” بعد غزو الكويت، حيث تمت الموافقة على المطالب الإيرانية في رسالة صدام حسين إلى هاشمي رفسنجاني[33]. ووصف علي أكبر ولايتي وزير خارجية إيران الأسبق يومها العرض الذي تقدمت به الحكومة العراقية لتسوية النزاع والعودة إلى اتفاقية الجزائر بأنها “أكبر انتصار” تحقق لإيران منذ قيام الجمهورية الإسلامية.

إن تصريحات الرئيس جلال الطالباني أعادت إلى الأذهان الذكرى الأليمة للحرب العراقية – الإيرانية وما جلبت من ويلات على البلدين وعلى شعوب المنطقة بأكملها، وبالطبع فإن إيران التي وافقت مرغمة على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 598 القاضي بوقف الحرب، بعد أن تجرّع الإمام الخميني “كأس السمّ” العام 1988، جاءتها الفرصة الذهبية للتشبث باتفاقية الجزائر وإحيائها، بعد مغامرة غزو الكويت واضطرار العراق للموافقة عليها مجدّداً.

لماذا كان رد الفعل الإيراني غاضباً لدرجة التنديد بتصريحات الطالباني؟ باختصار، يأتي الجواب من حيثيات إتفاقية الجزائر التي تعني التنازل عن جزء من المياه الوطنية العراقية وعن الضفة اليسرى لشط العرب والموافقة على قبول السيادة الإيرانية عليها بموجب ما سمي بخط الثالويك Thalweg؛ وخط الثالويك حسب القانون الدولي هو خط وهمي يمثل الحد الفاصل في تخطيط الحدود النهرية (للأنهار الدولية وهذا ما لا ينطبق على شط العرب بالطبع) إبتداءً من أعمق نقطة في وسط مجرى النهر الرئيسي الصالح للملاحة عند أخفض منسوب وحتى البحر، وهدف الاتفاقية من جانب الحكومة العراقية هو القضاء على الحركة الكردية وتطبيع العلاقات مع إيران، حتى لو اقتضى ذلك تقديم تنازلات لها، كما ذكر الرئيس الأسبق صدام حسين في مقابلته للسفيرة الأمريكية غلاسبي، وهو ما تمت الإشارة إليه.[34]

بهذا المعنى يكون العراق قد تنازل مرة أخرى عن نصف شط العرب، أي بحدود 90 كيلومتراً وعن الجرف القاري والبحر الإقليمي العائد له فيما يتعلّق بالحدود النهرية، أما في الحدود البريّة فقد شمل التنازل 1000 كيلومتر في منطقة نوكان- ناوزنك العراقية في أراضي كردستان، على أمل استعادة 324 كيلومترا في منطقة زين القوس وسيف سعد والمرتفعات الاستراتيجية التي ظلّت إيران متمسكة بها، سواءً في عهد الشاه أو في عهد الخميني، وهي المناطق القريبة من قصر شيرين.

كان القضاء على الحركة الكردية المسلحة، أحد أهداف الاتفاقية [35]، الأمر الذي بقي راسخاً في ذهن جلال الطالباني حين فجّر أزمة دبلوماسية لم تكن محسوبة، ولعل الاتفاق الأمني كان من أخطر ما ورد في الاتفاقية حيث نص على: إعادة الثقة المتبادلة على طول الحدود المشتركة والالتزام بإجراء رقابة مشددة وفعالة ووقف التسللات ذات الطابع التخريبي. وكان ذلك يعني تبادل المعلومات الأمنية عن نشاطات المعارضة العراقية والإيرانية، كما كانت تعني اطلاق يد الشاه في الخليج والسكوت عن احتلال الجزر العربية الثلاث أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى.

هناك تحليلات عديدة قيلت بشأن تصريحات الطالباني “المفاجئة”، فقد يكون احتدام الخلاف بين الإقليم وحكومة المالكي حينها، ولا سيّما تعثّر المفاوضات بخصوص توقيع اتفاقيات النفط في كردستان وحول المادة 140 بشأن كركوك، كان وراء جواب الطالباني، خصوصاً بحضور الهاشمي، أو أنه أراد جسّ النبض قبيل إرسال وفد حكومي عراقي إلى طهران لإحياء اتفاقية الجزائر؟ وربما هناك سبب آخر يعود إلى الرغبة الأمريكية في الضغط على إيران واتهامها بالوقوف وراء القسم الأكبر من العنف والإرهاب في العراق؟ أو قد يكون تحت ضغط القصف التركي لجبال قنديل العراقية لملاحقة حزب العمال الكردستاني PKK؟

وأياً كان السبب فإن موضوع شط العرب وحقوق العراق يقتضيان إعادة النظر باتفاقية الجزائر باعتبارها اتفاقية جائرة ومجحفة ومذلّة وغير متكافئة وأبرمت في ظرف استثنائي وتحت ضغوط وإملاءات دولية، لم تكن خطة هنري كيسنجر بعيدة عنها وهو ما ورد في تقرير بايك [36]المقدم إلى الكونغرس الأمريكي، فمتى ستضع الأجندة العراقية ذلك في المفاوضات مع إيران؟

قد تنشأ مشاكل جديدة لحوض نهر الفرات بين سوريا والعراق، بسبب المنسوب الشحيح الذي ترخّص به تركيا للبلدين. أما بخصوص نهري كارون والكرخة ومستقبل شط العرب فهناك مشاكل قديمة وجديدة مع إيران بسبب استخداماتها غير المراعية للحقوق العراقية، وقد ارتفعت نسبة الملوحة في المياه العراقية ولاسيّما في البصرة وشهدت الوقائع إصابة أكثر من 100 ألف إنسان بأمراض سببها التلوّث في المياه، الأمر الذي فجّر حركة احتجاج واسعة.

خاتمة:

تطور العلوم والتكنولوجيا وتعاظم الحاجة إلى استخدام المياه، جعل الأخيرة محوراً للصراع الاجتماعي والسياسي الذي ازداد تأثيره تدريجياً على مستوى العالم كلّه، بسبب زيادة استخدام المياه فضلاً عن عدم ترشيده والاستفادة منه على نحو عقلاني، وشحّ بعض المنابع وجفافها، سواءً في الدول التي تملك المصادر الكافية من المياه أم الدول التي تريد زيادة مواردها منها وتأمين استمرارها[37].

وحسب البروفسور حيدر كمونة المختص بهندسة تخطيط المدن والعمارة، فإنه مع دخول العالم القرن الحادي والعشرين، بدأت تتضح معالم عجز عالمي كبير في الموارد المائية، حيث تقدّر كمية المياه الكلية في العالم نحو 1386 مليار متر مكعب، تؤلف المياه العذبة منها نحو 5 .2% فقط، موزعة توزيعاً متبايناً في أنحاء العالم، وتشكّل الدول العربية منها 0.58% فقط مصادر للمياه المتجددة.

ولعلّ هذا النقص في الموارد المائية المترافق بسوء نوعية المياه بسبب التلوّث والتأثيرات السلبية الأخرى، وطغيان المياه المالحة، خلق عجزاً مائياً كبيراً، ومع ارتفاع حجم النمو السكاني وشحّ الموارد وزيادة الاستخدام ازدادت الهوّة على نحو شاسع بين ما هو متوافر وما هو مطلوب، ولذلك آن الأوان للتفكير الجدي والجهد العربي المشترك لمواجهة المخاطر التي تهدد كل بلد عربي مثلما تهدد الأمن القومي العربي ككل.

فليست التحديّات الخارجية وحدها هي السبب في تفاقم مشكلة المياه في العالم العربي، وإن كانت هذه التحديات أساسية، لكن ثمة تحدّيات داخلية تتعلق بالسياسات والتوجهات والإجراءات والتدابير الاقتصادية والاجتماعية والقانونية وغيرها تلك التي تتعلّق بعدم الاستخدام الرشيد للمياه وعدم تنقية مشروعات الري الحديثة، كالخزانات والسدود، ناهيك عن زيادة عدد السكان المضطرد وشحّ مصادر المياه وارتفاع نسبة التصحّر والجفاف والتغيّرات المناخية التي تلعب دوراً في تفاقم هذه المشكلة، خصوصاً في ظلّ ضعف الشفافية والإدارة الرشيدة.

يضاف إلى ذلك معوّقات تتعلّق بالخبرة والكفاءة والمعوّقات البيئية والطبيعية والفنية والتمويلية، وهو ما يعالجه البروفسور كمونة في كتابه المشار إليه، بعمق ومعرفة واستشراف مستقبلي وإذا كان ثمة تحديات خارجية، سياسية وقانونية واقتصادية واجتماعية وعسكرية، تتعلق بالنيل وغيره من المياه العربية، فإن غياب إستراتيجية عربية أو على الأقل تعاون وتنسيق عربي للتصدي للسياسة التي لا تريد خيراً لشعوب البلدان العربية [38].

قد لا نكون مبالغين إذا قلنا أن معارك المياه قادمة لا محال إذا استمرّ الحال على ما هو عليه، بل هي معارك قائمة بالفعل وإن كانت صامتة في الوقت الحاضر وبدون بلاغات عسكرية، لكن الأصوات ستعلو وتيرتها واستعداداتها لتكون الحرب معلنة، بل إن قرع طبولها يُسمع من بعيد وقد تستخدم خلالها وسائل عسكرية وغير عسكرية، خشنة وناعمة، ولكنها ستكون أكثر إيلاماً من المعارك الأخرى، خصوصاً وهي معركة مركبة بكل معنى الكلمة، فالماء بعد النفط سيضيق الخناق على العالم العربي وسيدفع أجزاءً منه إلى المزيد من الجفاف والتصحّر وضنك العيش وصعوبة الحياة.

هوامش:

 [24] – تمتد الحدود التركية الجنوبية مع سوريا إلى نحو 877 كلم  ومع العراق إلى 331 كلم كما ترتبط بحدود مع إيران، إضافة إلى ذلك فإن المنطقة الشمالية الغربية من البلاد تعد موطئ قدم تركيا الوحيد في أوروبا حيث ترتبط بحدود مع بلغاريا ومع اليونان 269 كلم، إضافة إلى أن عدد نفوسها يتجاوز 82 مليون نسمة، كما تمتلك خبرة كبيرة في ميدان “القمع الداخلي والخارجي”.  وقد تجلّى الدور التركي بعد موجة ما سمّي بـ “الربيع العربي”، سواءً في ليبيا (دخولها على خط الصراع الأهلي وإرسال مرتزقة لدعم فريق السراج رئيس الحكومة ضد خصومه) أم سوريا (حيث كانت طرفاً أساسياً في الصراع الداخلي)، إضافة إلى مصر( دعم حركة الأخوان جهاراً نهاراً) وبالطبع فإن دورها في العراق ما يزال تقليدياً (الزعم بالدفاع عن تركمان العراق، إضافة إلى تجاوزاتها على الحدود الدولية، بل وإقامة قواعد عسكرية بزعم ملاحقة حزب العمال الكردستاني PKK)، وكانت في السابق تلعب مثل هذا الدور المزدوج، أي تأمين مصالحها الخاصة، إضافة إلى كونها جزءًا من الناتو وامتداداً له وقد وصفت هذا الدور في الثمانينات بـ “الإمبريالية الفرعية” ، وبقدر خصوصيته فإن له وجهاً أطلسياً، وهو ما يتجلّى خلال أزمات المنطقة فقد تحاقب نصب دروع صاروخية على الأراضي التركية مع انشغال العالم العربي بتداعيات الربيع العربي. قارن: شعبان ، عبد الحسين – أمريكا والإسلام ، دار صبرا، نيقوسيا – دمشق، 1987. قارن كذلك: شعبان ، عبد الحسين- العرب والجوار والعالم، محاضرة في مؤسسة الفكر العربي، دبي، 5-7/ كانون الأول/ديسمبر/2011.

[25] – قارن: حيدري، نبيل (الدكتور) تركيا- دراسة في السياسة الخارجية منذ العام 1945، مصدر سابق، ص 103.

[26] -انظر: شعبان، عبد الحسين – عاصفة على بلاد الشمس، مصدر سابق.

[27] – انعقد مؤتمر دوكان  في 24/12/2007 وصدر عنه مذكرة تفاهم بين الحزبين الكرديين (الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني) والحزب الإسلامي.

[28] –  قانونياً يمكن القول إن النظام القانوني لشط العرب يقوم على أساسين: الأول – سيادة العراق على شط العرب، وهذا هو الأصل، والثاني – بعض القيود التي أوردتها معاهدة الحدود على تلك السيادة (تاريخياً) وهذا هو الاستثناء. انظر: عبود، عباس عبود- أزمة شط العرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، آذار (مارس) 1973، ص 31 وما بعدها. انظر كذلك: القطيفي- عبد الحسين- محاضرة ألقاها في جمعية الحقوقيين العراقيين بتاريخ 8/5/1969، مجلة العلوم القانونية، جامعة بغداد، م1، عدد 2، ص 10 وما بعدها. قارن: اتفاقية فيينا حول قانون المعاهدات لعام 1969  Srnska,M. Vienna Convention on the Law of treaties, USL, Prague, 1971

[29] – قال رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني علاء الدين بروجردي تعقيباً على تصريح جلال الطالباني: “أتوقع أن ينفي الرئيس العراقي ما نُسب إليه بشأن إلغاء اتفاقية الجزائر… لأنه على معرفة بإيران وأنها اتفاقية معتمدة ورسمية ومسجلة لدى الأمم المتحدة ولا يمكن تغييرها”. أما المتحدث باسم الخارجية الإيرانية محمد علي الحسيني فقد قال: إن إلغاء هذه الاتفاقية يفتقد إلى الأسس القانونية، ويتوقّع من الرئيس العراقي الالتزام بتعهدات بلاده استناداً إلى الأعراف والقوانين الدولية، وكذلك مبدأ حسن الجوار، وهو ما نقلته وكالة الأنباء الكويتية “كونا” في 25/12/2007. وكان قد صدر عن مكتب الطالباني أن تصريحات الرئيس الطالباني لا ترقى إلى مستوى التنصّل من الاتفاقية، وأن اتفاقية الجزائر قائمة وليست ملغية، بل نافذة ولا يجوز لطرف واحد أن يلغي أو ينسف هذه الاتفاقية… وهو لم يقصد بتعليقه العابر والارتجالي إلغاء الاتفاقية القائمة وهو ما أوردته وكالة رويترز في 25/12/2007.

[30] -حصل اللقاء بين الرئيس صدام حسين والسفيرة الأميركية ابريل غلاسبي يوم 25 تموز (يوليو) 1990 وقد سرّبت حينها الأجهزة العراقية محضر هذا اللقاء.

[31] – كان الرئيس العراقي صدام حسين نفسه هو الذي وقّع على هذه الاتفاقية في الجزائر يوم 6 آذار (مارس) 1975 مع شاه إيران محمد بهلوي وقد وصفت الدعاية الرسمية قراره آنذاك بأنه: قرار حكيم وشجاع، وسيمهد لشهر عسل عراقي – إيراني.

[32] – تعتبر هذه أول زيارة رسمية للرئيس الإيراني حسن روحاني منذ توليه منصبه 2013، وقد غيّر وجهة زيارته على نحو مفاجئ، فبدلاً من لقاء الرئيس العراقي برهم صالح، توجه لزيارة مرقد الإمام موسى الكاظم ثم التقى الرئيس العراقي، كما التقى رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، وزار المرجع الشيعي المتنفذ السيد علي السيستاني في النجف، علماً بأن الأخير امتنع عن لقاء مسؤولين عراقيين منذ فترة، الأمر الذي أثار تعليقات عديدة ومتناقضة.

[33] – الرسالة مذيّلة بتاريخ 25 تشرين الأول (أكتوبر) 1990.

[34] -انظر : شعبان، عبد الحسين – عاصفة على بلاد الشمس، مصدر سابق، الفقرة الخاصة بـ ” ذيول الأزمة- اتفاقية 6 آذار (مارس) 1975″ ص 81-84.

[35] – قارن: تقرير لجنة بايك Pike المقدّم إلى الكونغرس، من منشورات الاتحاد الوطني الكردستاني، دمشق ، 1977. تأسست لجنة بايك من قبل الكونغرس الأمريكي برئاسة أوتيس بايك (عن ولاية نيويورك) للتحقيق في النشاط السري لأجهزة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) وعلاقتها بالحركة الكردية المسلحة بقيادة الملّا مصطفى البارزاني في كردستان العراق وشاه إيران، وكانت قد قدّمت تقريرها إلى الكونغرس بتاريخ 19 كانون الثاني (يناير) 1976، ولكن التقرير ظلّ سرياً بسبب اعتراض الرئيس فورد على نشره، لأن نشره  حسب ما ورد سيكون مدمّراً لمصالح عليا تحرص عليها حكومة الولايات المتحدة، ولكن التقرير تم تسريبه ونشر في إحدى الصحف وهو يروي قصة كيسنجر ووعوده للأكراد والمراسلات بينه وبين قيادة الحركة الكردية، ويخلص التقرير إلى مفارقة حقيقية حين يقول في خاتمته “إن هدف الولايات المتحدة بمساعدة الأكراد لم يكن تمكينهم من إحراز انتصار يمكن لهم بعده أن يحصلوا ولو على حق الاستقلال الذاتي”.

[36] – قارن: تقرير لجنة بايك، مصدر سابق.

[37] – انظر: كمّونة، حيدر- الرؤى المستقبلية لتحقيق الأمن المائي العربي، مصدر سابق.

[38] – انظر: كمونة، حيدر- المصدر السابق.

 ………………..

.. انتهى

ــــــــــــــــــــــــ

#حروب_المياه

* باحث أكاديمي ومفكر عراقي

المصدر: بوست 180

التعليقات مغلقة.