
محمد المنشاوي *
تمثل السودان منطقة رمادية فى تصنيف الدول طبقا لعلاقتها مع الولايات المتحدة، فلا هي دولة حليفة ذات أهمية استراتيجية كما الحال مع المملكة العربية السعودية أو مصر، ولا هي دولة يجمعها عداء مع واشنطن مثل سوريا أو إيران.
وخلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر الماضي، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن إن أمام العالم خيارين؛ إما التحلي بالقيم الديمقراطية التي يتبناها الغرب، أو تجاهلها لصالح الحكومات الاستبدادية، مؤكدا أن بلاده تتجه نحو حقبة جديدة من الدبلوماسية الدؤوبة لدعم قضايا الحريات وحقوق الإنسان حول العالم.
وقبل ذلك وخلافاً لنهج سلفه دونالد ترامب، أكد بايدن- فى حملته الانتخابية وفى خطاب تنصيبه قبل 10 أشهر- أن ملفات حقوق الإنسان ودعم عملية الانتقال الديمقراطي حول العالم ستصبح محور السياسة الخارجية لإدارته.
وبعد تغيير الجيش السوداني لترتيبات العملية السياسية فى بلاده واعتقاله لقادة الحكومة المدنية الانتقالية، وبدء العمل بقانون الطوارئ، لم يتحدث الرئيس الأمريكي جو بايدن ولا وزير خارجيته تونى بلينكن ولا مستشاره للأمن القومي جيك سوليفان على الهواء حول ما حدث، ولم يوجه الرئيس حديثاً للأمة الأمريكية أو للشعب السوداني.
واستغرق الأمر 5 أيام كاملة كي يخرج بيان رئاسي من البيت الأبيض يدعو فيه بايدن إلى إعادة الحكومة بقيادة المدنيين فى السودان. وقال بايدن فى بيانه: «يجب السماح للشعب السوداني بالاحتجاج السلمى وإعادة الحكومة الانتقالية بقيادة مدنية»، داعياً الجيش إلى إطلاق سراح جميع المعتقلين وإعادة مؤسسات الحكومة الانتقالية السودانية. وأكد بايدن أن «أحداث الأيام الأخيرة هي نكسة خطيرة، لكن الولايات المتحدة ستواصل الوقوف إلى جانب شعب السودان ونضاله السلمى لدفع أهداف ثورة السودان».
ويشير تعامل إدارة بايدن مع المستجدات فى السودان إلى تراجع ومحدودية أهمية السودان فى سلم أولويات المصالح الأمريكية فى المنطق، إلا أن السودان كذلك يوفر فرصة جيدة لإدارة بايدن لإظهار دعمها للتحول الديمقراطي فى الوقت ذاته.
فالسودان بعيد كل البعد عن الأولوية الجيوستراتيجية لواشنطن، ولا يعنى إخفاق عملية الانتقال الديمقراطي هناك الكثير لمصالحها المهمة، ومن هنا يمكن لبايدن فرض عقوبات قاسية، وحظر دخول لقادته العسكريين للأراضي الأمريكية ووقف المساعدات للسودان فى كل أشكالها، وعرقلة ومنع تعامل صندوق النقد والبنك الدوليين مع الخرطوم.
- ••
والسودان لواشنطن ليس كمصر وليس كالمملكة العربية السعودية من حيث الأهمية الاستراتيجية الخادمة لمصالح الولايات المتحدة الواسعة. والسودان لا تجمعه علاقات عسكرية قوية بالبنتاجون، ولا يشترى أسلحة أمريكية بمليارات الدولارات سنوياً، ولا يوجد تبادل تجارى ذات شأن بين السودان والولايات المتحدة، ولا ترتبط النخبة العسكرية أو المدنية السودانية بواشنطن. ولا تتمتع الجالية السودانية داخل الولايات المتحدة بثقل انتخابي أو وزن اقتصادي ومالي كبير ليكترث بها صانعو القرار فى واشطن. ولا يعرف عن النظم السودانية المتعاقبة الاستعانة بشركات اللوبي والعلاقات العامة للتواصل والتأثير على صانعي القرار فى واشنطن كغيرها من الدول غير الديمقراطية التي لا تتردد فى إنفاق ملايين الدولارات لتلميع صورتها داخل دوائر ومراكز القوة فى واشنطن.
ولم تفرض إدارة بايدن عقوبات جادة على دول حليفة منتهكة لحقوق الإنسان، لأن لذلك البديل تكلفة سياسية كبيرة. وتكتفى واشنطن الآن بتوجيه انتقادات والعتاب إلى حلفائها بسبب سجلات حقوق الإنسان وغياب الممارسات الديمقراطية. فبايدن وكبار مساعديه هم أبناء المدرسة الواقعية فى إدارة السياسة الخارجية الأمريكية التي تنتصر فى النهاية لمصالحها ولو على حساب قيمها ومبادئها.
وفى الوقت ذاته، تستطيع الإدارة الأمريكية الإقدام على عكس ذلك فى الحالة السودانية، ويمكنها أن تنتصر للقيم والمبادئ على حساب ما يجمعها من مصالح بسيطة مع الخرطوم. وسبق أن ناصبت واشنطن نظام عمر البشير العداء لأكثر من 3 عقود، فقد صنفت الولايات المتحدة السودان دولة راعية للإرهاب عام 1993، وفرضت الكثير من العقوبات التجارية والاقتصادية مرتين عامي 1997 و2006، وخفضت مستوى العلاقات الدبلوماسية، ورفض المسئولون الأمريكيون الاجتماع مع البشير لأكثر من عقد من الزمان، وعزلت واشنطن السودان فعليا عن العالم الغربي. ولن يكلف واشنطن الكثير العودةُ لنمط المقاطعة وفرض العقوبات كما فعلت لعقود مع النظام السوداني السابق.
- ••
لقد أخفقت الأجندة الديمقراطية للرئيس الأمريكي جو بايدن بشكل واضح خاصة فى منطقة الشرق الأوسط، ففي الوقت الذى تعهد فيه بايدن خلال حملته الانتخابية بالاختلاف عن سلفه الرئيس دونالد ترامب فى الاحتفاظ بعلاقات خاصة ومميزة مع دول تقمع شعوبها ولا تكترث بسجلات حقوق الإنسان؛ دفعت مصالح واشنطن بايدن وإدارته للحفاظ على خصوصية علاقاتها مع دول منتهكة لحقوق الإنسان ولا تتبع أي معايير ديمقراطية حديثة متعارف عليها.
وقبل استضافة بايدن يومي التاسع والعاشر من ديسمبر/ كانون الأول المقبل قمةً افتراضية من أجل الديمقراطية سيُدعى إليها رؤساء دول وحكومات ديمقراطية وأعضاء المجتمع المدني- على أمل أن يحسن صورة بلاده بعدما أظهر الرئيس السابق دونالد ترامب تجاهلاً كبيراً لقضايا حقوق الإنسان والحريات حول العالم- قد تمثل الحالة السودانية للرئيس الأمريكي وسيلة يستخدمها لتجديد ادعائه الانتصار للقيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان حول العالم.
* كاتب صحفي مصري متخصص في الشؤون الأمريكية
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.