الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «في الفكر السياسي»؛ (الجزء الثاني).. الحلقة الأولى

 (الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الأولى من الجزء الثانيبعنوان “الثورة الاشتراكية والديمقراطية الشعبية” بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”

في الفكر السياسي  2

دراسة تحليلية لنظام عبدالناصر: ياسين الحافظ       ص 7

مسائل في النضال الاشتراكي: جمال أتاسي         ص ٩٩

تداعي النظام البرلماني: الياس مرقص                  ص 151

 العالم الثالث والثورة الدائمة: جيل مارتينيه             ص 177

دار دمشق

للطباعة والنشر

دار دمشق

 للطباعة والنشر والتوزيع

   اديب تنبكجي

        دمشق – شارع بورسعيد هاتف ١١٦٦٩

طبعة أولى    2/3/1963

     جميع الحقوق محفوظة

                                                                     *     *      *

الثورة الاشتراكية والديمقراطية الشعبية

   لقد بلغت الثورة العربية مرحلة جديدة من النمو والتقدم، تضع على عاتق الفكر الثوري الاشتراكي في الوطن العربي أعباء جديدة.

   وإن مهنة الفكر العربي الثوري الاشتراكي هي دراسة التجارب النضالية القائمة في الواقع العربي وفي العالم من جميع جوانبها، لتذليل العقبات التي تعترض سبل التقدم التاريخي.

    وهذا الكتاب يشمل دراسة للمفكر الاشتراكي الفرنسي جيل مارتينه عن الثورة الاشتراكية في البلدان المتخلفة، وثلاثة أبحاث تتناول مشكلة الديمقراطية.

    إن الحقيقة الأولى التي تثبتها تجربة الوطن العربي هي وحدة النضال القومي الديمقراطي والنضال الاشتراكي.

   فالنظام الرأسمالي عاجز عن تحقيق المهمة الأساسية المطروحة على عاتق البلدان المتخلفة: وهي التصنيع الجدي والنمو الاقتصادي السريع.

   إن الهوة الفاصلة بين الشرق المتخلف والغرب المتقدم تزداد عمقاً واتساعاً يوماً بعد يوم. إذ أن معدلات نمو الإنتاج في الدول الاشتراكية وفي الدول الرأسمالية الغربية هي أكبر وبشكل ملحوظ من معدلات نمو الإنتاج في بلدان العالم الثالث.

   وهذا يعني أن تقدم البلدان المتقدمة يزداد. وتخلف البلدان المتخلفة يزداد.

   إن البلدان المتخلفة تفتقر جذرياً إلى أسس فنية واقتصادية مناسبة، كما أن دخلها القومي ضعيف، والتراكم الرأسمالي (الشرط الأول للتصنيع) غير كاف.

   ويعود ضعف التراكم الحالي وعجزه عن تلبية حاجات التصنيع السريع إلى فرار قسم من فضل القيمة إلى الدول الإمبريالية، واتجاه قسم كبير من رؤوس الأموال التابعة للطغمة المالية المحلية نحو الربا والربح التجاري والريع العقاري (والرأسمالية العربية على وجه التحديد، هي بالدرجة الأولى، رأسمالية تجارية وعقارية ومرابية). وانتشار الرشوة والفساد، وإنفاق قسم كبير من فضل القيمة في مباذل الأمراء والمتعطلين بالوراثة.

   إن هذه الحالة الناجمة عن التخلف التاريخي المتزايد للبلدان المتخلفة وعن العقبات التي يقيمها البنيان الرأسمالي- الإقطاعي- القبلي هي الأساس الموضوعي لنمو وتطور الحركة القومية الثورية وتحولها إلى حركة اشتراكية، في عصر تداعي النظام الإمبريالي العالمي وتعاظم قوى الاشتراكية في العالم.

   والقومية العربية الثورية هي حركة اشتراكية. إنها طريق العرب نحو الاشتراكية.
والاشتراكية بالنسبة للوطن العربي، وللبلدان المتخلفة بشكل عام، ليست قضية عدالة التوزيع وحسب، إنما هي تنبع موضوعياً من الحاجة الماسة إلى تنمية الإنتاج والخلاص من الفقر والتخلف.

                                                      *         *         *

   هذا ما أثبتته تجربة مصر.

   لقد كانت قوانين التأميم الصادرة في تموز ١٩٦١ عملية ثورية جذرية انتزعت من أيدي الطبقة الرأسمالية ۸۰٪ من وسائل الإنتاج الصناعي وأدخلتها في حيز ملكية الدولة. وأن عمق الطعنة المسددة للنظام الرأسمالي يقاس بحقد وغضب الطبقة الرأسمالية إزاء هذا الإجراء.

   إلا أن الإنعطاف الحاسم الذي أصاب الأساس الاقتصادي للمجتمع (البناء الأدنى) يبقى معرضاً للانتكاس ما لم يعززه تحول مناسب فى البناء الفوقي (وخاصة السياسي) للمجتمع.

   وقد أوجد هذا الانعطاف حالة جديدة تتميز بالتناقض بين البناء الأدنى الاقتصادي والبناء الأعلى السياسي.

   وبديهي أن الأساس الاقتصادي الجديد يدفع في طريق تكوين بناء فوقي جديد. وأن التناقض الجذري بين الأساس والبناء الفوقي لا يمكن أن يدوم إلى ما لا نهاية في ظل الصراع القائم على الصعيدين المصري والعربي.

   إن المأثرة التاريخية الكبرى للوحدة بين سورية ومصر لم تكن القضاء على حلف بغداد وحسب، بل هي فتح ثغرة ضخمة في علاقات الإنتاج الرأسمالية، وبذلك بدأ النضال المباشر في سبيل الاشتراكية.

   وكان ذلك ضربة موضوعية أصابت الايديولوجية (التعاونية) ونظرية (لا يسار ولا يمين) وجميع أوهام الاشتراكية (اللاطبقية).. وجاءت ردة الانفصال ضربة جديدة دفنت هذه الأوهام إلى الأبد، وأنهت تجربة الاتحاد القومي، وبدأت محاولة لبناء تجربة جديدة أرقى هي تجربة الاتحاد الاشتراكي العربي..

   ولقد قامت الثورة الجزائرية على أساس تعبئة أوسع الجماهير الشعبية في نضال مسلح استمر ثماني سنوات. وكانت هذه التعبئة الدائمة ضمانة انتصار الثورة على الاستعمار وحمايتها من الانحراف في الاتجاه الانتهازي الذي هو أداة الاستعمار الجديد.

   واستطاعت الثورة في العراق أن تقضي على الطاغية وعلى قوى الحزب الشيوعي المتحالفة معه، بفضل تجنيد أوسع الجماهير الشعبية وتنظيمها وتوحيد صفوفها حول شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية.

   وإن ديمقراطية الثورة- أي طابعها الشعبي الجماهيري- هي مصدر ديمقراطية الحكم النوري المنبثق عنها.

   وهذا يعني أنه لا يجوز للثوري أن (يخترع) أشكال الحكم وأن يضع حلولاً مثالية مجردة لقضية الديمقراطية، بل عليه أن ينطلق من الظروف الواقعية لكل ثورة، ظروف نشوئها وتطورها.

   إن الثورة الاشتراكية تفرض الإيمان العميق الذي لا حد له بدور الجماهير ووعيها ومبادرتها وقدرتها الخلاقة.

   فالاشتراكية ليست مجرد مكاسب تعطى للشعب بل هي في الأساس انعطاف في العلاقات الاجتماعية يقوض صورة المجتمع القديم، وينقل الجماهير الشعبية إلى سدة الحكم.

   وهذا معناه أن الثورة الاشتراكية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالديمقراطية.

   وهذه الديمقراطية الثورية ليست ديمقراطية شكلية يتسع إطارها لنشاط كل القوى والاتجاهات إنما هي تتأسس على قاعدة الاتجاه الثوري القومي الاشتراكي، وترتبط بتصفية التكتلات الطبقية الرجعية والقوى المعادية للثورة.

   إلا أن حجب الحرية عن أعداء الثورة يجب أن لا يتحول إلى تضييق على مبادرة الجماهير فالجماهير هي الضمانة الأولى والأخيرة لسلامة الاتجاه الثوري والسلاح الفعال لعملية البناء الاشتراكي وهي الأداة التي لا غنى عنها لاستمرار نمو المـد الثوري العربي.

   لقد كانت الديمقراطية البرلمانية التقليدية جزءاً من البناء الفوقي للمجتمع البرجوازي.

   أما الديمقراطية المنشودة فيجب أن تكون جزءاً من البناء الفوقي للمجتمع الاشتراكي. وهذا يعني أنها ستكون أرقى بكثير من الديمقراطية البرجوازية، ستكون ديمقراطية حقيقية تمارسها الجماهير بشكل مباشر، وتتمثل في المجالس الشعبية على جميع المستويات وفي سائر الهيئات والمنظمات الممثلة لإرادة الجماهير.

 جمال الأتاسي                  2/3/1963

………………

يتبع.. الحلقة الثانية بعنوان: (دراسة تحليلية لنظام عبد الناصر).. بقلم الأستاذ “ياسين الحافظ”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.