الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «في الفكر السياسي»؛ (الجزء الأول).. الحلقة الأربعون والأخيرة من هذا الجزء

 (الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الأربعون والأخيرة من الجزء الأولقنابل في الفجر؛ بقلم الأستاذ “عبد الكريم زهور”

 

قنابل في الفجر(1)

    حين انفجرت القنابل في وزارة الدفاع في بغداد لم تدمر قلعة استبدادية وكراً للأفاعي، لم تعصف بحكم احتارت فيه الافهام، عجيب امتزج فيه الجنون بالمكر والجريمة، لم يساقط في جاحمها رماداً للزعيم الأوحد وحلفاؤه الذين جعلوا من العراق موقداً ألقوا فيه بالناس والثورة والأخلاق والعقل وكل القيم- لم تفعل كل ذلك، بل كانت أكثر من ذلك، كانت ثورة.

    لقد تقلب شعبنا في العراق على كل جنبات النضال، ومرت الحركة الثورية في أربع سنوات ونصف السنة خلال عديد التجارب الخاطئة والتجارب الناقصة وهي تدفع ثمن الخطأ والنقص دماً وسجناً وعذاباً وتشرداً قلقاً وهماً ثقيلاً في التفكير والتنظيم والتخفي تحت الأعين المتجسسة والزوغان من كلاب الحراسة، لقد مرت في كل مرحلة التجربة والخطأ لتستوي بعدها حركة ثورية ناضجة مالكة رشدها وعزمها كليهما.

    كانت صراعاً بين الزعامات الفردية فتهاوت، وكانت استجابة مرتجلة عجولاً لاستفزاز مقصود فغرقت في الدماء، وكانت محاولة للاغتيال مُحّكمة وجريئة فأخفقت وأسلمت لا عناصرها المنفذة وحدها بل معظم رفاقهم لظلمات السجون ومخالب التعذيب الفولاذية التي أوشكت أن تزهق روح الحركة الثورية- ومضت أخيراً في الطريق الثورية الوحيدة، الطريق الشعبية، طريق الكفاح اليومي ضد الحكم الفردي الاستبدادي الخائن لقضية العرب، قضية الوحدة والاشتراكية، بالتوضيح النظري والكشف السياسي في الصحافة والمنشورات السرية، وبالتظاهرات والاضرابات الشعبية وتحمُل الاضطهاد والوقوف أمامه في السجن والمحكمة ومقابل الموت وقفة الرجال الثوريين العُتاة، وبالاتصال الدائم أثناء ذلك بالقوى الجماهيرية الحية لاستمداد النسخ الثوري منها وتطوير مدها الثوري واصطفاء الطليعة القادرة على أن تكون القيادة المستبسلة التي لا تخيفها التضحيات مهما ثقلت.

    لقد أكدت تجربة الحركة الثورية في العراق مرة أخرى أن التضحيات مهما عظمت في الكيف والكم لا تستطيع أن توقف الحركة الثورية عن الامتداد، بل على العكس تُوسع دائرتها لتشمل طبقات وفئات وأفراداً كانت بعيدة عن التيار الثوري أو مترددة، ففي مقابل كل واحد يسقط في المعركة أو ييأس أو يضعف يقدم الاحتياطي الشعبي الهائل عشرة بل عشرات من الثوريين. ذلك إلى أن المعارك الفعلية، التضحيات المستمرة، هي المدرسة الوحيدة للقيادات والطليعة الثورية. فهي التي تعمق الوعي النظري حين تخرجه من إطاره النظري التجريدي البارد لتهبه الحياة، لتدب فيه أمواه الربيع، وتغنيه بالتفصيلات التي تجعله مرناً قابلاً للانطباق على الواقع وبالتالي للتأثير فيه. وفيها- في المعارك- تسقي الأعصاب والأمزجة الثورية، فتصلُب و تشتد وتدرع ضد الانتهاز والمساومة والارتجال والسعي وراء الكسب السريع والقبول بالإصلاح وخداع النفس والآخرين وخيانة الثورة.

    وفي الحقيقة، لقد وُلد حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق في جو قاسِ، في ظروف أعرق حكم رجعي وأبرعه وأقواه وأثبته أساساً في المشرق العربي. وواجهته المعارك وهو طري العود فلم يتراجع، وهكذا اشتد عوده في هذا المناخ الشديد. وفي ١٤ تموز لم يكن هذا الحزب قد تجاوز بعدد أعضائه المئات. وما كاد الجو يتكشف من حوله حتى فُرضت على الشعب العربي في العراق إحدى المعارك الأساسية في حياته، معركة الوحدة. وأريد للمعركة أن تكون عنيفة عنفاً خاصاً، عنفاً استثنائياً وصل إلى الاغتيال والقتل والسحل والتمثيل. وتحمُل البعث نصيبه من المعركة ومن التضحيات، وكان نصيباً وافراً. لقد صُممت المعركة لتجتث جذور القومية العربية، ولكنها كانت معركة ضد مسيرة التاريخ، فلم تنجح إلا باجتثاث المضمون الرجعي للقومية وسحق القوميين المتخلفين، أما القومية ذات المضمون الاشتراكي، والقوميون التقدميون، أما البعث فقد رُسخ واشتد وغطى أو أوشك أن يغطى بسمعته ونفوذه وقيادته جماهير الشعب العربي في العراق: وقد أورثته هذه التجربة، تجربة العنف والاستمرار، الصلابة الثورية لا في مواجهة الحوادث والخصوم فقط، بل في مواجهة نفسه، مواجهة أخطائه وقصوره، مواجهة الانتهازية والمساومة والانهزامية والمغامرة وتقديس الزعامة في صفوفه.

     هذا الحزب استطاع أن يقود معركة النضال ضد الحكم الفردي الاستبدادي المنحرف واستطاع بخاصة أن يقود آخر مرحلة فيها: الانقضاض على قلعة هذا الحكم الأخيرة وتدميرها وتدميره معها. فحقق الثورة في جانبها السلبي، جانب الهدم.

    فالهجوم الأخير لم يكن مغامرة دفع إليها أطماح ضابط أو مجموعة من الضباط أو نفاد صبر ضابط أو مجموعة من الضباط تجاه فساد الحكم أو استبداده أو خيانته- لم يكن انقلاباً عسكرياً، بل ثورة شعبية قد خُططت بدقة ونُفذت بشجاعة وقيدت قيادة جماعية بحذر وأحكام وحزم. لقد امتزج فيها الطرف العسكري في الطرف الشعبي، بل لم يكن فيها طرفان بل طرف واحد، إن في مستوى القيادة فالمجلس الوطني للثورة مزيج من العناصر المدنية والعسكرية، وإن في مستوى القاعدة فالقوات المُهاجمة كانت من الجيش والحرس القومي.

    وهكذا صعدت إلى الوجود ثورة شعبية ثانية بعد ثورة الجزائر وهي ثورة العراق والثورتان كلتاهما تواجهان الآن مسؤولية الحكم وتحويل البنية الاجتماعية على اختلاف ما بين المجتمعين العربيين في الجزائر والعراق في الظروف الاقتصادية والسياسية. أي إن مشكلة «استمرار الثورة» هي المشكلة الأساسية المطروحة الآن في الجزائر والعراق.

    ومشكلة استمرار الثورة يمكن تلخيصها في ثلاث مسائل: الوضوح النظري، الجهاز الثوري، قوة الروابط بين الجهاز الثوري والشعب.

    ونبادر لنقول: إن ثورتي الجزائر والعراق تمتلكان الجهاز الثوري الذي طهرته معارك النضال من العناصر الرخوة حين ذوبتها لتستبقي الثوريين الصرحاء الأشداء. فأخطار البيروقراطية التي تتلبس مباشرة الانقلابات العسكرية البحتة، لتكون بين الحكم الذي قد تحركه الرغبة الصادقة في التحويل الاشتراكي وبين الشعب طبقة عازلة تحول دون تبادل التفاعل بين الحكم والشعب، أي تزهق شيئاً فشيئاً الروح الثورية في الحكم- أخطار هذه البيروقراطية مستبعدة عن ثورتي الجزائر والعراق. ولكن هناك بيروقراطية أخرى قد تصبح مع الزمان كفيلة بقتل الروح الثورية كفالة البيروقراطية «الرسمية» هي البيروقراطية الحزبية. هذا النوع من البيروقراطية لا يمكن ان يقاوم إلا بالديمقراطية المركزية في الحزب ذاته، التي تتمثل بالقيادة الجماعية والنقد والنقد الذاتي وفتح سبل التفاعل الدائم بين القاعدة والقيادة. وقد بدا على ثورة الجزائر ويبدو الآن على ثورة العراق أنهما غير غافلتين عن أخطار البيروقراطية الحزبية. فميثاق الثورة الجزائرية بدأ بالنقد النظري لجبهة التحرير، كما أن تشكيل المكتب السياسي وتصريحات بعض القادة تدل دلالة واضحة على الاستمساك بالقيادة الجماعية. وثورة العراق الآن لا تدور حول زعامات شخصية، بل هناك قيادة جماعية لها تتمثل بالمجلس الوطني لقيادة الثورة.

    ولكن هناك ضمانة أساسية لا بد من رعايتها هي استمرار الاتصال بين القيادة والطليعة الثوريتين وبين الشعب، هي أن يتسرب الثوريون في الشعب بتواضع وتفتح ليغتذوا من الشعب ويُغذوه، ليكشفوا عن تطلعاته الغامضة وليردوها إليه واضحة، هي بالخلاصة أن يدب الثوريون في جسم الشعب دبيب الدم، حتى ما تنفذ إلى الشعب في نقطة إلا وجدت العنصر الثوري، الدم النوري.. وثورة الجزائر والعراق مؤهلتان لضمان هذه الضمانة، ففي قلب الشعب نشأتا ونمتا، وبالقوى الشعبية حاربتا العدو الاستعماري وحلفاءه الداخليين.

     أما المسألة الأولى والأخيرة في الثورة، مسألة الوضوح النظري، فكلتا الثورتين انطلقتا وما زالتا تنطلقان من مبدأ القومية العربية والاشتراكية، وتحتاجان الآن إلى إملاء هذين المبدأين بالتخطيط العملي التطبيقي. فبالنسبة للاشتراكية هناك تجارب اشتراكية إنسانية وتجارب عربية يجب دراستها جميعاً واستيحاؤها وتطويرها لتلائم الظروف المحلية. والهام دائماً الابتعاد عن الارتجال وعن التخوف في نفس الوقت، وفتح المجال للنقد الإيجابي الذي يقوّم الخطوات التطبيقية الخاطئة أو الناقصة أو المتسرعة، والثقة بروح المبادرة والإبداع عند جماهير الشعب.

    وأما القومية العربية فصورتها التطبيقية هي الوحدة العربية وتخطيط طريق تحقيقها. لقد حاولت الاشتراكية السورية منذ إعلان الثورة في العراق- وهي تشكك في الثورة- أن تكشف عن نسَبْ زائف بينها وبين الثورة، وحاولت ومعها الجهاز السياسي السوري أن تطرح شعار الوحدة مع العراق، وهي لا تقصدها بل تقصد إلى مقاومة شعار الوحدة مع مصر بشعار الوحدة مع العراق، وتقصد بخاصة إلى الإيقاع بين العراق ومصر وتفتيت الصفوف الوحدوية في سورية، لتمر هي سليمة من ثغرات التناقض.

     لقد فتحت ثورة العراق آفاقاً جديدة أمام مسألة الوحدة، فهي في طور جديد ويجب أن تعالج من زاوية جديدة. لقد ربطت الرجعية في المشرق العربي والاشتراكية السورية والاستعمار جميعاً الوحدة بشخص عبد الناصر ونظام حكمه، ثم صبتْ جام عداوتها للوحدة وذُعرها منها على عبد الناصر ونظامه لتَدفُن- أن استطاعت- الوحدة وعبد الناصر في نفس القبر، وتخلو بعدها للكيانات الخالدة السرمدية تضع يدها عليها لمصلحتها ومصلحة القوى الدولية. وحين فاجأتها ثورة اليمن أحاطتها مباشرة بجو الاستنكار أو التشكيك ثم وجهت عليها الهجوم العسكري لتسحقها، فلما أُكرهت ثورة اليمن على طلب المدد والمعونة من عبد الناصر أقامت عليها الحجة ودفعت في وجهها بالاتهام الصريح. وقد كان الموقف يكون كذلك بالنسبة لثورة العراق لولا وضوح هوية هذه الثورة مباشره وقوة اندفاعها وقيمة بغداد الخاصة في القضية العربية، ولولا أن الأجهزة السياسية في المشرق العربي الرجعية واليسارية المُرتدة اعتبرت بتجربتها ومواقفها من ثورتي الجزائر واليمن. ولذلك حولت موقفها سريعاً فاعترفت بثورة العراق وهي تأمل أن تقيم توازناً جديداً بين ثورة العراق وعبد الناصر لتحارب الجانبين والوحدة معهما.

عبد الكريم زهور

    لقد قضت ثورة العراق- بعد ثورة اليمن وتوطد حكم الثورة في الجزائر- على تلك الأسطورة التي اختلقها الجهاز السياسي في المشرق العربي، أسطورة ربط الوحدة بشخص عبد الناصر. إن الوحدة العربية أقدس وأخطر من أن تربط بشخص مهما بلغت عبقريته أو بنظام حكم مهما بلغت قوته. وقد انفتح الآن المجال واسعاً للقاء بين الثوريين: للقاء بين العراق ومصر والجزائر واليمن لقاءً عاقلاً يخطط للوحدة تخطيطاً واقعياً مستفيداً من كارثة الانفصال وينفذها بحزم الثوريين الذين لا يهابون. والشعب العربي من قبل ومن بعد هو الضامن لكل وحدة أو اتحاد من كل انحراف أو تزييف، ومهمة الثوريين العرب الوحيدة أن يثقوا بالشعب العربي، وأن يكونوا بالتضحيات المستمرة قادته في الثورات وضمانة الثورات، وأخطر ثورات العرب هي تحقيق الوحدة.

     والشعب العربي في سورية لن يلبث مدة طويلة غريباً بعيداً عن هذا اللقاء الثوري العربي، فقريباً ستكون سورية إلى جانب الجزائر والعراق ومصر واليمن.

 

عبد الكريم زهور

………….

هامش:

(1) لقد أُنجزت طباعة مواد هذا الكتاب قبل ثورة ٨ شباط الظافرة. ولأن هذه الثورة أعطت الحركة الثورية العربية قوة واتجاهاً جديدين، وجدنا أن الكتاب يبقى ناقصاً إذا افتقد ولو تعليقاً سريعاً على هذا الحدث العظيم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفهرس

تعریف

الجزائر في دمشق

 (1) المرحلة الاولى – مصدر الشرعية الوحيد . المجلس الوطني للثورة

 (۲) المرحلة الثانية – كل السلطات للمكتب السياسي

الستالينية والمسألة القومية

 مقدمة

١ – تعريف ستالين للأمة

۲ – واقع الشعوب الأوربية

ايضاحات حول مفهوم الأمة

 ۱ – موقف لينين من كتاب ستالين

٢ – كيف فرض ستالين تعريفه

الحركة القومية طبيعتها ومحتواها الطبقي

۱ – موقف ستالين

۲ – موقف لينين

الستالينية في حيز التطبيق

١ – سياسة ستالين

٢ – السياسة الستالينية في الخارج

٣- في آسيا

العلاقات بين الامم الاشتراكية

 ١ – المصلحة القومية والأمم الاشتراكية

٢ – الاتحاد السوفياتي

الستالينية والقومية العربية

۱ – موریس توريز أمة جزائرية ناشئة

۲ – خالد بكداش ۱۹۳۹أمة سورية ناشئة

٣ – خالد بكداش ١٩٥٥ امة عربية كاملة

خاتمة

الاشتراكية العربية واسطورة الخصائص

مقدمة

۱ – اسطورة الخصائص

۲ – ملامح نشوء التفكير الاشتراكي

حول تجربة حزب البعث

الصورة العامة للحزب

١ – شعارات بلا نظرية

۲- اشتراكية البورجوازية الصغيرة

٣- البيروقراطية ام الجماهير

٤ – التكتيك الاستيزاري والتكتيك الثوري

٥ – اللعبة البرلمانية والنضال الثوري

٦-  حرية بلا مضمون اجتماعي

قنابل في الفجر

                                             *   *   *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

انتهى الجزء الأول من كتاب “في الفكر السياسي”.

ويتبع.. الحلقة الأولى من الجزء الثاني بعنوان: المقدمة؛ بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.