الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أحوال الانتقام الإيراني ومتاهاته..

علي سفر *

للانتقام أحوال، أولها أنه يجب ألا ينسى، وإذ حدث ونسي، فإن هذا يكشف عن عدم وجود نية للقيام به!

وثانيها أنه يجب أن يبقى حاضراً على الألسنة، ويدرب في قلوب الخصوم الرعب، ويبقيهم في مآزق الانتظار، والقلق من كل تحركات المنتقم.

وثالثها يتعلق بضرورة ألا يتأخر كثيراً، وإلا فإن همة الترقب المحفوف بالتشجيع ستفتر، وسيصبح وقعه إن حصل، وكأنه لم يحصل!

طبقاً لهذا فإن المقولة الإنجليزية عن أن “الانتقام وجبة تؤكل باردة” لا يظهر أنها صالحة لكل زمان ومكان. ففي البلاد التي يتميز سكانها بدمهم الحار، ستختلف التقديرات حول درجات البرودة والسخونة، ما سيؤدي إلى الجدال حول تقييم الرد.

كل ما سبق، يُحمل على صدق المنتقم، في رغبته بالنيل من غريمه. ولكن إذا تبدى للجمهور عدم جديته في هذا الشأن، وتفضيله نقل المسؤولية عن القضية إلى الأتباع، فإن صورته سوف تتزعزع، وصولاً إلى سقوط المهابة، ونهاية الاحترام.

رجالات الولي الفقيه، لا تبدو مهجوسة بالانتقام من إسرائيل على قصفها المتكرر لقواعد الحرس الثوري في سوريا، وخاصة تلك التي أدت إلى مقتل قادته.

وتتفرد حادثة قصف القنصلية في دمشق قبل أكثر من أسبوع عن الحوادث السابقة، في أنها تنال من رمزية الوجود الإيراني ذاته، حيث وضعته الطائرات القاصفة وسط العدسة المركزة. وغيرت بذلك قواعد الاشتباك المتفق عليها ضمنياً بين الطرفين، فهذه أول مرة يتجاوز فيها الاستهداف الجماعات العاملة في محور الممانعة، ويتوجه لطهران بشكل واضح وجلي.

وقد كُتب وقيل الكثير منذ وقوع القصف، عن فكرة تغيير القواعد، لكن حتى تاريخ كتابة هذه السطور، لا يظهر أن الطرف “المعتدى عليه” ينوي الاستجابة للتغيير، والقيام بما يمليه عليه الظرف المستجد.

كما أن اللجوء إلى الأدوات المعتادة كاستخدام ورقة حزب الله اللبناني، أو جماعة الحوثي، أو الميليشيات الشيعية العراقية والأفغانية والباكستانية، في سياق تداعيات ما حصل، لا يبدو مفيداً، خاصة أن هذه الأدوات مشغولة ومشتبكة في أدوارها المرسومة، لخدمة مشروع الخامنئي ذاته.

تعقيدات المشهد الحالي، مع استمرار طهران في محاربة الآخرين عبر هذا الأسلوب، لا توحي بإمكانية أن تستجيب بالشكل الذي يرغب به أصحاب نزعات “الهوبرة”، فكل خطوة يجب أن تحسب بدقة في مواجهة جيش الكيان الصهيوني، الذي ما انفك يذكّر الأعداء، بأنه قادر على القتال على عدة جبهات في الوقت نفسه. كما أن نتنياهو يريد وبشدة، أن يذهب إلى حرب واسعة، يخربط فيها اصطفاف المعارضين ضده. وحين يصبح الهدف إيرانياً، فإن شهوة التدمير ترتفع أكثر فأكثر في رأسه، بعد أن ظل لسنوات طوال يهدد بتدمير المشروع النووي المعادي، والأسلحة التي ستولد في مفاعلاته!

أتباع الولي الفقيه وجمهوره المؤيد في الدول العربية وقد توسع خلال السنوات الماضية ليضم في صفوفه فئات قومجية ويسارية وإسلامية، هم وحدهم من يطرقون طبولاً كبيرة، توحي بأن الرد القادم سيكون مزلزلاً! مع أن المعطيات المدروسة لا توحي بتوفر وسائل الانتقام، فأي هجوم على أهداف إسرائيلية سيؤدي إلى توسيع الحرب، طالما أن حماية إسرائيل، رغم المجازر المرتكبة في غزة، صارت غاية مقدسة عند الأميركيين والأوروبيين وغيرهم، بعد أحداث السابع من تشرين الأول الماضي.

كما أن الإدارة الأميركية كررت على الأسماع أنها ليست متورطة بقصف القنصلية، ورغم أن محاولات المسؤولين الإيرانيين تحميل واشنطن طرفاً من المسؤولية، عبر القول بأن السلاح المستخدم (أي طائرة F35 وصواريخها) هو أميركي، فإن السبيل الوحيد المتاح للاستخدام، كدريئة يمكن استخدامه لذر الرماد في العيون، هو القيام بقصف محدود الأثر، على بعض القواعد الأميركية في العراق وسوريا، بالأسلوب ذاته الذي انتقمت به طهران لمقتل قاسم سليماني، مع احتمال أن توجه بعض الصواريخ نحو أهداف في كردستان العراق!

هذا السيناريو المحتمل، يأخذ في شكله العام طابع صفقات يمكن للمتحاربين أن يعقدوها فيما بينهم، من أجل الحفاظ على السلامة، وعلى الصورة والمهابة أمام الجمهور.

وإذا تم استبعاد الجوانب الأيديولوجية والشعاراتية لأي صراع، فإن إدارة هذا الأخير تنحو لأن تصبح نوعاً من “البزنس” الذي تراعي فيه المصالح الآنية والاستراتيجية. لهذا يمكن تصديق الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عندما تحدث عن صفقة تم ترتيبها بين بلده وبين الحرس الثوري، بعد مقتل سليماني، كي ينتقم الإيرانيون دون أن يؤذوا الجنود الأميركيين الرابضين في قواعدهم.

هل ستتآكل مسننات عجلة الرد الموعود مع مرور الوقت، في حال لم تعقد صفقة من أجله؟

نعم سيحدث هذا، وسيُحال إلى تعابير فانتازية يكررها أزلام محور الممانعة على الشاشات، مثل “الصمت الاستراتيجي” “والتربح من ضربات الخصوم” وغير ذلك من ترهات.

* كاتب وصحفي سوري

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.