الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كيف تسوّغ التحليلات العسكرية الإسرائيلية إجماعها على الإخفاق في تحقيق أهداف الحرب ضد غزة؟

أنطوان شلحت *

تدّخل الحرب الإسرائيلية التدميرية والإباديّة على قطاع غزة في 8 نيسان/ أبريل 2024، شهرها السابع. وقد جرى شنّها في إثر الهجوم المباغت لحركة حماس على مواقع عسكرية في منطقة الحدود مع قطاع غزة، وعلى ما يعرف باسم “بلدات غلاف غزة”، يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

وبطبيعة الحال استلزم انقضاء نصف عام على الحرب انشغال العديد من المحللين السياسيين والعسكريين وكتاب مقالات الرأي في إسرائيل بإجمال الفترة المنقضية وما استجدّ على سير الحرب ومعاركها، ناهيك عن محاولة الوقوف أمام حصيلتها، وهو ما سنركّز عليه من خلال إيراد وجهات نظر المحللين الإسرائيليين المتخصصين في الشؤون العسكرية.

بصرف النظر عن الكثير من التفاصيل الدقيقة، على الرغم من أهميتها، لوحظ في ما بدر عن المحللين العسكريين اليوم وأمس تحديداً أن هناك إجماعاً على حدوث إخفاق إسرائيلي شبه مطبق في تحقيق الأهداف التي وضعت لهذه الحرب وفي مقدمها القضاء على قدرات حركة حماس وسلطتها، وإطلاق كل المخطوفين الإسرائيليين المحتجزين في قطاع غزة.

وإن ما يمكن استخلاصه من وجهات النظر هذه، هما نتيجتان: الأولى، الفشل في تحقيق أهداف الحرب حتى الآن؛ الثانية، أن هذه الأهداف غير قابلة للتحقيق أيضاً في الأفق المنظور.

وإذا ما أردنا أن ننمذج على هذا الإجماع الإسرائيلي يكفي أن نستعرض ما كتبه يوآف ليمور، المحلل العسكري لصحيفة “يسرائيل هيوم” الناطقة بلسان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو واليمين الإسرائيلي الجديد أمس (7/4/2024).

من أبرز ما يؤكده ليمور أنه بعد مُضي نصف عام على اندلاع الحرب التي شنتها ضد قطاع غزة ينبغي على إسرائيل أن تفكّر بمسار آخر، ذلك أن جميع الأهداف التي وضعتها نصب عينيها في بداية الحرب لا تزال بعيدة عن التحقّق.

وبحسب ليمور، وضعت إسرائيل للحرب على غزة هدفين مركزيين: تدمير سلطة حماس، وإعادة المخطوفين. ويمكن القول إن قيام وحدات كوماندوز إسرائيلية، يوم السبت الفائت، باستعادة جثة أحد المخطوفين من القطاع يُعتبر أكبر دليل على الفشل المدوي في ما يتعلق بالهدف الثاني للحرب. وتمثلت الحجة الإسرائيلية الرئيسة التي وقفت وراء إرجاء إطلاق المخطوفين في أن ثمة حاجة إلى استكمال تحقيق الهدف المتعلّق بحسم حركة حماس. وهذا الهدف ما زال بعيد التحقيق برأيه، وتدعي إسرائيل، بمؤسستيها السياسية والعسكرية، أن إنجاز هذا الهدف منوط باجتياح مدينة رفح في جنوب قطاع غزة ومن أجل القيام بمثل هذا الاجتياح لا بد من إخلاء النازحين في مناطق الجنوب.

ضمن التطرّق إلى الحصيلة المتراكمة للحملة العسكرية، ينوّه أغلب المحللين العسكريين بأن الحكومة الإسرائيلية أخفقت أيضاً في إدارة ما يوصف بأنه الجانب السياسي- الاستراتيجي من الحرب. فقد شنّت إسرائيل حربها غير المسبوقة وكانت تحظى، بكيفية ما، بتأييد عدد من الدول الكبرى لهدفها الرئيس وهو القضاء على سلطة حماس، مثلما انعكس الأمر في المواقف التي أعلنتها الولايات المتحدة وعدة دول أوروبية مركزية، غير أنه بعد انقضاء نصف عام تعاني إسرائيل من شبه عزلة على مستوى المواقف الدولية، فضلاً عن كونها عرضة أكثر من أي وقت مضى إلى موجة مقاطعات وعقوبات وإجراءات قضائية ضد قادتها وكبار ضباطها، من المتوقع أن تزداد. ويُرجع عدد كبير من هؤلاء المحللين سبب هذه المستجدات على الصعيد العالمي إلى قيام الحكومة الإسرائيلية ورئيسها بـ”تحدّي” إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ولا سيما من ناحية عدم الاستعداد لمناقشة موضوع اليوم التالي للحرب في القطاع، ولجوء عدد من الوزراء وأعضاء الكنيست إلى إطلاق تصريحات تؤيد تهجير سكان قطاع غزة وإعادة الاستيطان الإسرائيلي فيه، بخلاف المواقف التي تعلنها الحكومة والوعود التي قطعتها على نفسها أمام الأسرة الدولية.

ولا شك في أن يوآف ليمور، الذي اقتبسناه أعلاه، هو نموذج واحد من نماذج كثيرة لمحللين عسكريين إسرائيليين يتبنون الاستنتاجات نفسها، فضلاً عن نماذج أكبر بكثير من المحللين السياسيين، الذين يشيرون إلى أنه بعد مرور نصف عام على بدء الحرب ما زال الميزان الإسرائيلي في مواجهة حماس غير مُرضٍ، مثلما كتب المحلل العسكري لصحيفة “هآرتس” عاموس هرئيل (5/4/2024) مشدّداً على أنه لا توجد فعلاً وسيلة لتغيير هذه النتيجة، ومن الواضح للجميع، باستثناء بعض الأتباع من الحمقى (ويقصد أولئك المستلبين بشكل كامل إلى ما تروّج له الحكومة ورئيسها)، أن لا قيمة للوعود التي يطلقها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بالنصر المطلق كل يوم أو يومين. ويُعرب هرئيل عن اعتقاده بأن سقف التوقعات الإسرائيلية كان مرتفعاً جداً حيال تدمير حُكم حماس وتفكيك قدراتها العسكرية، طبعاً ضمن إطار زمني صارم لا يتجاوز عدة أشهر.

وتبرز داخل هذه الاستنتاجات تلك الصادرة عن قادة عسكريين سابقين برز في مقدمتهم هذه الأيام الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية (“أمان”) والرئيس الحالي لـ”معهد أبحاث الأمن القومي” في جامعة تل أبيب “تامير هايمان” الذي رأى أن إسرائيل موجودة الآن في أحد أسوأ المفترقات التي مرّت بها، فهي عالقة في حرب لم تنجح في حسمها حتى الآن، وتواجه كل التصدعات والاستقطابات الاجتماعية العميقة التي تختبئ وراء غبار المعارك. وفي قراءة هايمان، بالإضافة إلى المشكلات المرتبطة بالحرب في غزة تواجه إسرائيل معضلة في الجبهة الشمالية (مع لبنان)، وفي هذه الجبهة التي تشكل تحدياً كبيراً في هذه المرحلة هناك مشكلتان: الأولى أن حجم تعطيل الحياة اليومية الذي تخلقه الآن أكبر كثيراً من حجم تعطيل الحياة في الجبهة الجنوبية (مع قطاع غزة)، والثانية أنه ليس واضحاً متى ستعود الحياة في الشمال إلى طبيعتها. كذلك في الجبهة الدولية هناك مشكلتان أساسيتان: خسارة الشرعية لجوهر وجود إسرائيل، من جهة وتدهور العلاقات مع الولايات المتحدة وتحوُّل إسرائيل إلى موضوع حزبي – داخلي سياسي أميركي، من جهة أخرى (N12، موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 4/4/2024).

وحتى لا يخامر البعض الظنّ بأن الإخفاق الذي يقول به المحللون العسكريون الإسرائيليون منحصر في ما استحصلوه حتى الوقت الحالي، يؤكد عاموس هرئيل أن الحرب محكوم عليها أن تدوم فترة طويلة، ومع ذلك فمن الصعب تصديق أن في الإمكان التفكيك الكامل لحركة حماس حتى في المستقبل.

طبعاً ليست هذه هي كل الحكاية في ما يخصّ الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والتي من المتوقع أن تستمر وإن تغيّرت أساليبها. لكننا آثرنا أن نورد بعض ما صدر عن محللي الشؤون العسكرية الذين ينحصر اهتمامهم في الجانب الأمنيّ الصرف، نظراً إلى حقيقة أن الاستنتاجات المتعلقة بهذا الجانب هي المجال الأمثل الذي بواسطته يمكن البرهنة على فشل إسرائيل في فرض الاستلاب لسرديتها التي لا تنفك تتبنى مصطلحات جوفاء ليس أبسطها “النصر المطلق”.

* كاتب وباحث فلسطيني

المصدر: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.