الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

بين العروبة وأعدائها

د- عبد الناصر سكرية

يختلط في أذهان الكثيرين وكتاباتهم فهم العروبة كهوية ثقافية تاريخية حضارية لكل أبناء الوطن العربي الكبير؛ مع المواقف السياسية المتضاربة لكثيرين من أبناء العروبة ذاتها. فيشتمون العروبة والعرب ويتبرؤون منهم حينما يغضبون من موقف هذا النظام أو ذاك أو منهم جميعاً. ولقد حفلت الشهور الأخيرة بكلام كثير من هذا النوع نتيجة الوضع المأساوي جداً لشعبنا العربي في فلسطين والعدوان المجرم الذي تشنه دولة العدو الصهيوني على غزة بحرب إبادة وتدمير شامل لكل الحياة ومقوماتها والبشر وأسباب بقائهم. مع ما يترافق معه من خذلان عربي وتخلٍ تام يتركهم وحيدين أمام تلك الحرب الوحشية. وهذا ما يُغضب كل غيور على بلاده وأمته فيبادر الى التهجم على العرب دون أي تحديد للجهة وللموضوع، محملاً العروبة مسؤولية التقصير والتخاذل والتواطؤ والضعف. الأمر الذي استدعى ويستدعي تدخلاً لتوضيح الأمر وحسم الموقف دفاعاً عن الهوية المنكوبة وتحديد المسؤولية العملية فيما آلت إليه أوضاع العرب المتردية وحال الضعف العام الذي يجعلهم مطية لقوى أخرى تستنزف طاقاتهم وتسخر مواقعهم ومواردهم على حساب مصالح بلادهم وشعبها.

يتوزع الهجوم على العروبة على فئتين أساسيتين من أبناء العرب، فئتين لا تستويان لا في منطلقات الهجوم ولا في غاياته.

الفئة الأولى تضم أولئك المخلصين لأمتهم المتألمين لحالها فيثور غضبهم في كل مناسبة أو عند كل حدث يؤذي مصالح العرب وينتهك مصيرهم الواحد أو ينتقص من حقوقهم وكرامتهم.. فيهاجمون العروبة عن حسن نية وبغير قصد خبيث، دافعهم التعبير عن غضبهم وألمهم دون أن يقصدوا الإساءة للعروبة إذ يشتمون العرب وهم يقصدون أولئك الذين يملكون المقدرة على الفعل فيقصرون ويتقاعسون، ولا يقصدون عموم الشعب العربي بكافة أحواله وتنوعات فئاته.

مثل هؤلاء يحتاجون منا إلى لفت نظر وترشيد لضرورة التمييز بين الإنسان المقهور المكبل بأصفاد الخوف والتسلط والاستبداد والحاجة والفقر والظلم وما سوى كل هذا من قهر الحياة وظروف المعيشة واضطراب أسباب الأمان والطمأنينة والاستقرار الذي يوفر ضمانات لحق التعبير والتصرف والمواقف; وبين من يملكون فعاليات القوة والقهر ويتخذون من المواقف ما لا يرضي الإنسان الحر أو يعبر عن آماله وتطلعاته أو ما يثور في وجدانه من مشاعر غضب وألم مما يجري من أحداث وأخطار؛ مما يدفعه إلى التعبير السلبي الغاضب عن تمنيات ومشاعر إيجابية تتمنى العزة والكرامة والموقف الحر الأصيل.

الفئة الثانية تضم أولئك العارفين بخلفية ما يقولون والمتعمدين شتيمة العرب والتهجم على العروبة وتحميلها مسؤولية الخراب والضعف ومسؤولية كل موقف سيء أو تصرف غير مقبول في الطالعة والنازلة يتخذونها مبررا للهجوم على العروبة. هؤلاء يخلطون عن عمد بين من يعرفونهم مسؤولين عن الأحداث فينسبونها الى العروبة تنفيسا لأحقادهم الخاصة عليها نظرا لارتباط مصالحهم وولاءاتهم الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية بجهات أخرى محلية أو خارجية لا تتخذ موقفاً إيجابياً مناصراً للعروبة بل تعاديها وتعمل لتشويهها وتخريب روابطها وأواصرها من منطلقات متعددة.

والذين ينتمون إلى هذه الفئة من أبناء العرب أنفسهم، تختلف دوافعهم في معاداة العروبة والهجوم الدائم عليها في كل صغيرة وكبيرة؛ تبعاً لمصالحهم وارتباطاتهم المشبوهة.

فمن الشعوبيين الذين ينتمون ثقافياً لولاءات أخرى خارجية تُغلفها دعاوى دينية طائفية أو مذهبية؛ وهم يرون العروبة رابطة تجمع أبناء العرب وتصهرهم في مصير واحد بما يجعل منهم قوة عظمى تضع حداً لأطماع أمم أخرى فيهم؛ وهو ما لا يتناسب مع أهدافهم الخبيثة ويقف عثرة في طريق ولاءاتهم وما توفره لهم من أدوار وظيفية ومصالح متنوعة.

إلى أولئك المنتفعين اقتصادياً من علاقات مع دول وبلاد أخرى تعادي العرب أو تخشى تضامنهم ووحدتهم، فيلجؤون إلى الهجوم على العروبة والتنصل منها إثباتاً لحسن نواياهم تجاه أرباب مصالحهم ورُعاتها. وهم في الغالب لا يتبنون خطاً فكرياً أو نهجاً ثقافياً معادياً للعروبة بل يسلكون في حياتهم قيماً ومفاهيم اجتماعية تتماشى مع قيم أربابهم وأنماط علائقهم.

وفوق هؤلاء، أولئك الذين ينتمون إلى نظام سايكس- بيكو الإقليمي. الذين نشأوا في كنف القوى المستعمرة ورعايتها المباشرة. فهي قد أعدتهم إعداداً مديداً وأمدتهم بكل أسباب القوة والسلطان ومكنتهم من صلاحيات القرار والتصرف والقانون بحيث باتوا يتحكمون بكل تفاصيل الحياة في البلاد ويمنحون ويمنعون بما يلائم مصالح وأهواء المستعمرين ذواتهم حتى باتوا أشبه بوكلاء لهم ينوبون عنهم في دور وظيفي يتمحور على تقطيع أوصال العرب وتعميق الشروخ بينهم وتفصيل الحدود في جغرافيتهم واتخاذ تاريخ مغاير لكل منهم، وإشغالهم بقضايا كثيرة فرعية ومتشعبة تصرفهم عن أية قضية مشتركة مصيرية.

هؤلاء قد لا يُجاهرون بعدائهم للعروبة. وبالعكس فمنهم من يتبجح ظاهراً بالتمسك بها والحرص عليها فيما يشترك مع الباقين من نظرائه في الطعن بها سلوكياً وعملياً، وتمزيقها فكراً وثقافة وترابطاً مصلحياً وموضوعياً يقود إلى ترسيخ المصير الواحد.

يشترك جميع هؤلاء في محاربة العروبة عملياً وإن لم يهاجموها كلامياً. فهم يُفرغونها من المضمون الإيجابي الجامع المترابط كهوية مشتركة ذات قيم تضامنية واجبة، ويضعون العراقيل في طريقها، يحاصرون ويضطهدون دعاتها ويمنعوهم من أية فعالية مؤثرة ويسنّون ما يكفي من التشريعات والقوانين التي تمنع الناس عنها وتحرضهم على التنكر لها والتخلي عنها.

وبالخلاصة فإن جميع المنتمين إلى الفئة الثانية العارفين بما يفعلون عن مصلحة وتبعية وارتهان؛ هم من أبناء العرب، هويتهم عربية ولغتهم العربية ومكان إقامتهم ودائرة فعلهم القهري في بلاد العرب. وهم يقفون، بقصد أم بغيره، بعلم ووعي أو بدونهما، في صف أعداء العروبة كحتمية الانتماء وضرورات المصير الواحد التي تربطهم بأسيادهم ورعاتهم الخارجيين. فلم يعد جائزاً الحديث عن العرب بالإجمال أو الإطلاق. بل أصبح مثل هذا الحديث تخريباً وتشويشاً على كل حديث صادق في العروبة ومقتضياتها التوحيدية التحررية المصيرية. حيث لا يتساوى العرب، أبناء البلاد العربية، في الالتزام بمقتضيات الانتماء والهوية كما لا يتساوون في الموقف المصلحي من هذا الانتماء. كما لا يتساوون في الموقف الأخلاقي منه. وبالتالي فإن وجود هذه الفئة من العرب أنفسهم- مصلحةً ومصيراً ودعوة ثقافية اجتماعية- بات مرهوناً بتشتت العرب وضعفهم وخضوعهم. على نقيض الغالبية الساحقة من الشعب العربي التي تتفاعل وجدانياً مع انتمائها القومي العروبي وتؤيد كل توجه توحيدي وتدرك بالخبرة والتجربة الواقعية والوعي والمصلحة، أهمية وضرورة التكاتف العربي التوحيدي ترجمة للمصير العربي الواحد.

ليس كل عربي عروبي الانتماء والوعي أو عروبي المنطلقات والغايات.

أما أعداء العرب والعروبة من غير أبناء جلدتهم فهم كثيرون فيحتاجون حديثا آخر..

المصدر: موقع كل العرب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.