الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

بين أبو ظبي وطهران.. ماذا قررت إسرائيل وإيران؟

العقيد عبد الجبار عكيدي *

اقتضت قواعد الاشتباك بين إسرائيل من جهة وبين إيران وأذرعها من جهة أخرى، طيلة الفترة الماضية انضباطاً على نحو معيّن لم يؤد إلى حرب مفتوحة بين الطرفين، على الرغم من الاستهدافات الجوية الإسرائيلية المتكررة لتموضعات أذرع إيران في سوريا، إلّا أنها كانت تظهر دائماً على أنها اعتراض أو احتجاج إسرائيلي على تجاوز الميليشيات الإيرانية ما هو مسموح به من جانب تل أبيب.

لكن واقع الحال يشير إلى أن ضراوة الضربات الجوية الإسرائيلية في الفترة الأخيرة بدأت تنذر بأن المواجهة بين الجانبين يمكن أن تتطور إلى أشكال أخرى، هذا على الأقل ما تؤكّده الهجمات الإسرائيلية خلال الأسبوع الماضي على مواقع في حلب، أدت إلى مقتل أكثر من خمسة وثلاثين شخصاً، ثم الضربة الجوية الثانية خلال الأسبوع ذاته، والتي استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق يوم الاثنين في الأول من نيسان الجاري، لتؤكّد أن الضربات الإسرائيلية لم تعد مجرّد تحذير أو إنذار لأذرع إيران بعدم تجاوز الخطوط الحمراء، بل باتت استهدافاً نوعياً يطول رموزاً سيادية، ما يعني أن التصعيد الإسرائيلي في هذه المواجهة بات يحمل أكثر من تساؤل، إذاً ما الذي يدفع بحكومة الكيان الصهيوني إلى رفع وتيرة المواجهة؟

يمكن بداية الوقوف عند أمرين اثنين:

1- يشير الأول إلى عدم فصل ما يجري على الساحة السورية من مواجهات بين إسرائيل وأذرع إيران عمّا يجري في غزة، بل يمكن التأكيد على أن فشل حكومة نتنياهو في إحراز أي منجز عسكري حقيقي منذ بدء عملية طوفان الأقصى وحتى الآن، عدا التدمير شبه الكامل لمعالم غزة، ومجازر الإبادة الجماعية للفلسطينيين، وهذا بالمفهوم العسكري لا يُعتبر نصراً عسكرياً، أمر يجعل نتنياهو في موقف حرجٍ أمام الرأي العام الإسرائيلي وأمام خصومه السياسيين أيضاً، فضلاً عن عدم قدرته على إعادة الأسرى الإسرائيليين من حوزة حماس، وهو ما بدأ يؤجج الشارع الشعبي الإسرائيلي ضدّه، ولا نستبعد بالطبع قضايا الفساد التي تلاحق نتنياهو منذ ما قبل عملية طوفان الأقصى، الأمر الذي لم يعد يتيح للحكومة الإسرائيلية المزيد من المناورة سوى الهروب إلى الأمام وترحيل أزمة نتنياهو إلى خارج الحدود، والسعي إلى تحقيق منجز عسكري عبر عمليات نوعية كاستهداف القنصلية الإيرانية في دمشق مؤخراً.

2- ويحيل الأمر الآخر إلى الاستعصاء الدبلوماسي في عملية وقف العدوان على غزة، إذ إن مجمل أساليب التوحّش التي يمارسها الكيان الصهيوني لم تجبر حركة حماس على الرضوخ لشروط نتنياهو، الذي يريد أن ينتزع من حماس استسلاماً يستثمره في حل معضلاته السياسية والأزمات التي تواجهها حكومته، الأمر الذي دفع به إلى ممارسة المزيد من الضغط على إيران – عبر استهداف معالمها أو رموزها السيادية – في مسعى لجعلها تضغط على الحركة نحو إبداء المزيد من المرونة أو الاستجابة للوساطات وفقاً للشروط الإسرائيلية.

الواضح أن نتنياهو مصر على توسيع دائرة الحرب والخروج بها عن نطاق قطاع غزة أياً كانت الأسباب، وأنه بتوجيه هذه الضربة القوية لقادة إيرانيين مهمين ودلالات مكان استهدافهم، قد حظي بدعم واضح من مجلس الحرب، مع وجود قاعدة جماهيرية عندها هذا التوجه، والقناعة الكبيرة أن الضربة الموجعة التي وجهتها حماس لإسرائيل في السابع من أكتوبر لم تكن تعبر بها عن نفسها فقط، بل هي مؤشر على توسع وتنامي قوة محور إيران في المنطقة، وأنه لولا التحرك الإسرائيلي المتضخم والوحشي بعد طوفان الأقصى، واستخدام فائض القوة العسكرية وارتكاب كل تلك المجازر، لكان احتمال تحرك القوى التابعة لإيران أكبر، فإسرائيل أصبحت تعتبر أنه لا يكفي فقط تقويض قوة حماس بل يجب اضعاف المحور بالكامل.

هذه الاستراتيجية الإسرائيلية مناسبة لكل خصوم محور إيران في المنطقة، من العرب وغيرهم، أيضاً هي مناسبة لروسيا التي تتمنى اتساع رقعة التوتر في المنطقة أكثر من أجل انشغال الغرب في هذه الدائرة عما يجري في أوكرانيا.

إذاً هناك أكثر من طرف لديه هذه الرغبة بتوسيع دائرة المعركة، باستثناء الإيرانيين والأميركيين، فما يجري يعاكس استراتيجية واشنطن حيث انتهجت إدارة الرئيس جو بايدن سياسة إطفاء كل الحرائق في المنطقة منذ مجيئها قبل أربع سنوات، من أجل التفرغ لملفات جيواستراتيجية أهم بالنسبة لها، ولكن إسرائيل وإيران أساء كل منهما تقدير إمكانيات الطرف الآخر وردة فعله، ما دفع الأمور لتخرج عن السيطرة بهذا الشكل.

فإيران التي كانت تعتقد أن واشنطن وتل أبيب تخشيان مواجهتها، بل وتعتبرانها حاجة ضرورية لهما، وفي نفس الوقت إسرائيل أساءت تقدير قوة محور إيران عندما تفاجأت بضربة حماس في السابع من أكتوبر، لتكتشف أن هذه القوة أصبحت كبيرة، فأدركت أنه يجب ضربها ليس فقط في غزة، وإنما في سوريا ولبنان والعراق، وإن اضطر الأمر في طهران.

إسرائيل التي لم تكن منزعجة من احتلال إيران شبه الكامل للعراق ولبنان واليمن، كما غضت النظر طيلة السنوات الماضية عن احتلال ميليشياتها لسوريا، باعتبارها تدخل ضمن نطاق المواجهة الشيعية السنية في المنطقة، وعامل زعزعة لاستقرار الدول العربية التي لجأ بعضها للتطبيع مع الكيان الصهيوني لحماية نفسها من تمادي تلك الميليشيات، أصبحت (أي إسرائيل) على ما يبدو تخشى أن يخلق انتشار هذا العدد الكبير من القواعد العسكرية الإيرانية في سوريا فارقاً في ميزان القوة الذي تحرص إسرائيل -مدعومة من الغرب- على تفوقها فيه على كل دول المنطقة، أياً كان وضع تلك الدول.

إيران من جانبها أدركت تماماً جدية إسرائيل بضرب مصالحها في المنطقة فما أقدمت على أي تحرك، وبدأت بتقديم التنازلات ونفي علاقتها بعملية طوفان الأقصى، كما لم ترد على أي من الضربات الكثيرة التي تلقتها من إسرائيل، رغم أنها ردت على الضربات الأميركية، لكنها لم تجرؤ على فعل ذلك مع الإسرائيليين، لأنها تقرأ بشكل جيد اختلاف الموقف الإسرائيلي والموقف الأميركي بخصوص التصعيد، فموقف تل أبيب متوتر وغاضب ومتحفز للضرب على نطاق أوسع وتحاول جاهدة استفزاز إيران.

يعزز ذلك ما تسرب من معلومات عن زيارة وفد من حزب الله لدولة الإمارات مؤخراً، حيث تلقى رسالة إسرائيلية تطالب بنزع سلاحه وتسليمه للجيش اللبناني، بينما وافق الحزب على الانسحاب من الخط الأزرق، وهو ما لم تقبل به تل أبيب، ما يعني مؤشراً واضحاً على نوايا إسرائيلية بالتصعيد، تقابلها تنازلات إيرانية تؤكد اطلاعهم على خطورة العاصفة التي تتهددهم، ولذلك فغالباً ما سيسعى محور طهران للانحناء لها بدل مواجهتها، ولعل هذا ما أبلغته القيادة الإيرانية لوفد حماس الذي زار طهران الأسبوع الماضي!

* كاتب وباحث عسكري سوري

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.