الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

لسنا هواة تظاهر وحسب، بل تفعيل الحل السياسي

د. جمال الشوفي *

من المؤكد أن الاستمرار لقرابة الثمانية أشهر من التظاهر اليومي ليس نزهة أبدًا، ولا مزاودات وطنية ولا ضربًا من الجنون.

أعترف أنه أمر متعب ومضني حد الانهاك عنوانه الثبات رغم كل الصعوبات. وأعترف ان المد الشعبي تراجع نسبيًا خاصة في أشهر الشتاء والوضع المادي المنهك للجميع ومشاغل الحياة اليومية. وأعترف أننا لا نأخذ مضادات للمطر والشمس، بل نُصر على استمرار ساحات الكرامة بالتظاهر. لماذا؟ لأننا ندرك عميقًا:

أهمية ارتباط التظاهر السلمي والحراك المجتمعي بالمعادلة السياسية. فوزن أي فعل سياسي صفر ما لم يكن محمولًا على حراك مجتمعي يرفعه، وأهم نقاط قوة التظاهر السلمي أنه رافعة لأي عمل سياسي ممكن اليوم ومستقبلًا، وليس العكس صحيح دومًا. وهذه محط جدل آخر. والواضح والجلي أننا في تظاهرنا السلمي نعاكس مجرى الانحدار والتشظي العام ونعيد للسياسة حضورها الفعلي بعد تصحرها وجفافها الأعوام السابقة.

استمرار الاحتجاج السلمي اليومي يحقق مساحة واسعة للحرية والتعبير عن الموقف الوطني السوري والخروج من معادلات الصراع المنهكة التي أتت على السوريين في كل شؤون حياتهم بحكم احتدام الصراعات متعددة الأجندات من الـ 2013 للـ 2023.

التعتيم الإعلامي سواء بحكم المتغيرات الإقليمية في غزة وجنوب لبنان، تلك التي كان محركها حراك السويداء السلمي الشعبي الذي طالب بالحل السياسي وإيقاف مبادرة الجامعة العربية بإعادة تأهيل سلطة النظام، والموقف المعلن من الوجود الإيراني في سورية، وهذه التي بدأت التضحية بأذرعها الممتدة لتبقي على معادلات التفاوض الساكنة، ولم تنته المسألة بعد.

والتعتيم الاعلامي المتعمد سواء من النظام أو من القوى التي لا تريد أن ترى حراكًا شعبيًا خارج منظومتها، والقول الشائع “تأخرتم”! مدهشٌ هذا القول لما يحمل في مضامينه من تصنيفات طائفية تعني أن السويداء كأقلية تأخرت عن ركب الثورة! وينسى الجميع أننا سوريون عايشنا كل تقلبات الحالة السورية، تظاهرنا بداية وفشلنا كما كل السوريين في اسقاط النظام! استقبلنا مئات الآلاف من السوريين النازحين من بيوتهم بمنازلنا، ورفض أبنائنا بعشرات الآلاف الدخول معركة القتل والقتل المضاد.

طالما كتبت في الشؤون السياسية للمنطقة وتداخلاتها، ويمكنني استسهال الحلول النظرية، لكن ميزة المرابطين في ساحات الكرامة عودة بعث الروح والحياة في قلوب شبابها التواق للحرية والعيش الكريم، وبث نفحاتها على كل السوريين. إذ تعيد انتفاضة السويداء السلمية والمدنية مسار المسألة السورية من عقدة دولية في تقاسم النفوذ فيها، إلى نقطة تحولها المفترضة واستحقاقها الذي طال انتظاره بتطبيق القرار الأممي 2254 ومقدمته التغيير والانتقال السياسي، لدولة المواطنة والحق والقانون، وليست لاستبدال سلطة بأخرى. ورافعة هذا الاستحقاق هو التظاهر السلمي وتحمل كل معيقاته وسلبياته، من قبيل الشحن الشعوري، والتفرد بالآراء، والخذلان العام لعدم ملاقاة السوريين لمجريات الحدث الحالي.

حراك السويداء السلمي يعيد تعريف السياسة من برجها العالي التنظيري إلى السياسة كفعل تشاركي بين الشرائح الشعبية والأهلية الواسعة، أصحاب المصلحة الحقيقة في التغيير السياسي، مع النخب السياسية والفكرية، وكل منها يصلح درب الآخر دون استقواء أو استعلاء. السياسة كشأن عام هو هذه الحوارات اليومية المتنوعة سواء في الساحات أو المضافات، أو عبر اللقاءات المتعددة والمتنوعة على وسائل التواصل الاجتماعي الافتراضية مع كل السوريين، والآمال معلقة على استمرارنا رغم إنهاكنا وتعبنا…

نحن هنا منفتحون على كل السوريين، ننصت بحرص لكل جملة نقدية أو تحفيزية، لكل ما يمكن تحديده سلبًا أو ايجابًا. وبهذا السياق أدرك وندرك حجم مشاكلنا السورية وتعقد مساراتنا المحلية وخلافاتنا السياسية، كما وحجم تركة السوريين من اعتقالات وتهجير وتدمير. وحيث لا يمكننا المزاودة على جراح السوريين وغصاتهم، لكننا نحاول الإمكان وأضعف الايمان. ورؤيتنا الواضحة تتجلى في نقاط ثلاث:

البحث عن الاستحقاق الوطني، لا نستثني سوريًا سواء من المشاركة أو المساهمة، التضامن أو النقد. وهذا الاستحقاق يربط عضويًا بين السياسة والحراك المجتمعي.

استعادة الروح الجمعية والقيمة المعنوية للسوري في أي بقعة من العالم، واستعادة ما فرقته بيننا سياسات المرض الأيديولوجي والنفعية المفرطة بالمصالح الضيقة والمتاجرة بالوطن والارزاق والحدود والجغرافية والموانئ والمطار. أنه البحث عن الجدارة المفقودة.

العمل في الممكن وتفعيل الاستنقاع والاستعصاء السوري الذي أدخل السوريين جميعًا في سراديب العتمة منذ 2018 لليوم. سراديب مئات المنصات السياسية بلا حوامل مجتمعية بعد أن فقدت قوة التظاهر السلمي في الـ 2011/2012. وهُزمت عسكريًا ففقدت المعاوض التفاوضي مع الروس وحلفائها في الـ 2018. ومظاهرات السويداء تبحث عن الفاعلية في إعادة حضور الملف السوري، وهذا مرهون بالمكونات السياسية السورية في تعزيز حضور مظاهرات السويداء في المعادلة الوطنية والتغيير السياسي المروم.

لا شك، تحمل مظاهرات السويداء الكثير من الأخطاء التي مارسناها كسوريين، سواء بمحاولات فرض الشرعيات الثورية أو الاجندات السياسية الضيقة أو الخلاف والتباين بالآراء والطرق، كما الخذلان والخيبات، وهي محط نقد وتصويب دائم حد الانهاك. وحيث أنه لا توجد نظرية مكتملة للفعل الثوري، بقدر وجود مؤشرات للنجاح والفشل، فإننا نرحب بالنقد الذي يشير للأخطاء ونحن ندركها جيدًا، ونمتن لتصحيح المسارات مع أننا ندرك الهدف. ولكنني، ولكننا نؤكد بكل لحظة أن مسارنا واضح مهما تعثرت وتأخرت النتائج الملموسة. اذ تؤكد السويداء ثبات هويتها الوطنية وقبولها التنوع السوري العام، وعمق جذورها الوطنية، وسعيها لاستحقاق الدولة الوطنية التي يتساوى فيها كل السوريين حقوقًا وحريات لا يفرقهم عرق ولا دين ولا جنس.

وندرك جيدًا أن أسئلة الحاضر أسئلة قلق دائمة. فأمام متغيرات المسألة السورية واستعصاء حلها، تبرز على السطح المشاريع الخارجية السياسية الجزئية والتفكيكية للمسألة السورية. ما يدعونا كسوريين جميعًا للانفتاح والحوار الجاد وتعزيز نقاط الثقة والوجدان لا تثبيط الهمم والقول: وماذا بعد مظاهراتكم؟

حقيقة لم يعد يدهشني شيء، فمن يأكل العصي لا كمن يعدها. فهذا القول إما يبحث عن نفعية ضيقة، أو تبريرية فاضحة، أو تهكم ما! أما الحديث عن فعل سياسي واضح المعالم في السويداء فهو ليس ببعيد عنا أبدًا وقادرون عليه كل لحظة، لكننا نحاول أن تكون حوامله ساحات التظاهر، والأيادي السورية الممتدة للسويداء، وعنوانه القيمي دولة لكل السوريين، فهل هذا عيبنا إن أخرنا منتجنا السياسي العام لأننا حريصون وبمسؤولية على هذا الاستحقاق بثلاثيته الرافعة للوطنية السورية بعمومها لا بخصوصية السويداء او الحسكة أو ادلب او طرطوس ….

تزداد أسئلة قلق الحاضر والواقع الراهن، ومع هذا نكابر على جروحنا، ونغالب ارهاقنا وتعبنا، ونعالج أخطاؤنا بصبر وخبرة، وقد ننجح وقد نفشل، ولا نطلب سوى قول: الله يعطيكم العافية، هل يمكن أن نقدم لكم شربة ماء تبرد على قلوبكم؟ أو كلمة حسنة ترطب حناجركم المجروحة غصة وغصات؟

كم سنكون سعداء وفرحين اذا شاركنا الهم السوري عمومه بأن معادلة السويداء اليوم، هي معادلة قابلة لأن تكون نقطة التحول الممكنة والقوة المثلى وبيضة القبان في ميزان المعادلة السورية. ويمكنها أن تحرك ملفها المستنقع في أدراج الأمم المتحدة، وتعيد تشكيل خطوات المبادرة العربية للحل السوري باستحقاق التغيير السياسي لا إعادة تأهيل النظام… وهذا ما ندركه ونعالجه ونداري هواجسنا بحكمة وصبر وبالإصرار على التظاهر السلمي والاستمرار فيه ونبذ مشاريع الوهم وقصر النظر السياسي.. وقادم الأيام تتطلب المزيد من الحكمة والتعقل والانفتاح….

الله أشفق…

* كاتب وباحث أكاديمي، السويداء/ سورية

المصدر: غلوبال غستيس  Global Justice

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.