الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كيف امتلك بيدرسن الجرأة لإدانة قصف القنصلية الإيرانية؟

عمر كوش *

كان مستغرباً أن تصدر إدانة لاستهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، من طرف مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الخاص إلى سوريا، غير بيدرسن، وتحذيره من أن ذلك “يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة على سوريا والمنطقة”.

وجه الغرابة هو أن بيدرسن لم يقم بإدانة أي جريمة من الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد بحق المدنيين السوريين منذ أن جرى تعيينه في نهاية 2018. والغريب أكثر أن يدعو، دون تحديد الجهة، إلى ضرورة “احترام مبدأ حرمة المباني الدبلوماسية والقنصلية وموظفيها في جميع الأحوال وفقاً للقانون الدولي”، ولم يطالب أبداً نظام الأسد باحترام حرمة المباني السكنية وصورة حماية المدنيين في النزاعات والحروب، مثلما تنص عليه مواثيق ومبادئ الأمم المتحدة. كما أنه لم يسبق له أن ذكر شيئاً عن القانون الدولي والإنساني بخصوص الجرائم المرتكبة في سوريا، مع العلم أن مهمته تنحصر في تنفيذ قرارات الأمم المتحدة فيها، ولا علاقة له أبداً بالصراع الإقليمي والدولي خارجها، وبالتالي لا معنى لتحذيره من تصاعد العنف والمخاطر في المنطقة، في وقت لم يقم بفعل أي شيء يمكنه إيقاف العنف في سوريا طوال أكثر من خمس سنوات قضاها في مهمته ولم تجد نفعاً، بل راح يكرر في إحاطاته أمام مجلس الأمن الدولي التذكير بما آل إليه الوضع الاقتصادي الكارثي والمُزري في سوريا، بالاحتياجات الإنسانية المتزايدة، وبأن أكثر من 16.7 مليون سوري بحاجة إلى المساعدة الإنسانية.

طبعاً لم يمتلك بيدرسن الجرأة التي تمكنه من مجرد الإشارة إلى أن إسرائيل هي من قصفت مبنى القنصلية الإيرانية، مثلما لم يملك الجرأة طوال السنوات الماضية، لتحميل النظام المسؤولية عن تعطيل سير مهمته نفسها، حيث عقدت لجنته الدستورية ثماني جولات صفرية المحصول، ولم تنجز أي اتفاق أو توافق على بند دستوري واحد، وذلك بسبب تسويف النظام وتمنّعه عن الدخول بأي مفاوضات جديّة للبحث عن حل سياسي للصراع في سوريا. إضافة إلى أن بيدرسن، ورغم أن صرف أكثر من عام على محاولاته وزياراته ولقاءاته، لم يحصل على مجرد موافقة، ولو شفهية، من طرف نظام الأسد على حضور اجتماعات الجولة التاسعة للجنته الدستورية، الذي دعا لانعقادها في جنيف نهاية شهر نيسان/ مايو الجاري، وذلك بحجة لا علاقة له بسوريا والصراع الدائر فيها وعليها، إنما تعود إلى مؤازرة نظام الأسد للرفض الروسي عقد اجتماعات اللجنة في جنيف، على خلفية موقف الحكومة السويسرية من الغزو الروسي لأوكرانيا.

إذاً، من أين جاءت بيدرسن الجرأة المفاجئة حتى يقوم بإدانة استهداف القنصلية الإيرانية، ويطالب باحترام القانون الدولي؟ هل أراد مغازلة نظام الملالي الإيراني القابض على صدور الإيرانيين، كي يثمّن موقفه، ويقابله بممارسة ضغوط على نظام الأسد، كي يلين موقفه، ويقرر المشاركة في اجتماعات لجنة بيدرسن الدستورية؟ ربما عوّل بيدرسن على بيع هذا الموقف لنظام الملالي بالنظر إلى معرفته مدى تأثير ساسته وملاليه على نظام الأسد، الذي ما يزال يسيطر على بعض المناطق في سوريا، بفضل إسناد عسكري إيراني بالدرجة الأولى وروسي بالدرجة الثانية.

يمتلك هذا التقدير وجاهة، لأن نهج بيدرسن قام منذ بداية مهمته على استعداده الكبير للمقايضة وبيع المواقف، مقابل تسيير شؤون مهمته حتى ولو بشكل إجرائي فقط. ولعل القبول الذي تحظى به مهمته لدى الروس والإيرانيين ونظام الأسد، مرده إلى أنه تجنب على مدى سنوات بحث القضية الجوهرية، التي حددها بيان جنيف عام 2012 والقرار الأممي 2254، والمجسدة في تشكيل هيئة حكم انتقالي، غير طائفي، تملك صلاحيات تنفيذية كاملة، وبدلاً من ذلك راح يتمسك باللجنة الدستورية، التي هي بالأساس اجتراح روسي من أجل ضرب مسار جنيف التفاوضي وفق القرارات الأممية.

الناظر في مسيرة بيدرسن التي أمضى فيها أكثر من خمس سنوات كمبعوث أممي خاص إلى سوريا، يلاحظ أن ما يعنيه بالمقام الأول هو استمرار مهمته، حتى ولو بقيت محصلتها معدومة النتائج، الأمر الذي انعكس في تصرفه كموظف، همّه الأساس يتركز على ما يناله من مقابل مادي على مهمته، لذا لجأ إلى مهادنة جميع الأطراف منذ البداية، وخاصة الروس والإيرانيين ونظام الأسد، فيما لم يكترث كثيراً بالمعارضة السورية بمختلف هيئاتها، لكونه يعي تماماً أنها تابعة، ولا تملك قرارها السوري المستقل، وكانت جاهزة على الدوام  للمشاركة في كل الاجتماعات والجولات، ولا تشترط شيئاً، وذلك بعد أن تحولت إلى ورقة رخيصة بيد اللاعبين الإقليميين والدوليين، ولم تقم بفعل أي شيْء يخدم قضية السوريين، التي لا تعنيه في حقيقة الأمر.

غير أن ما ساعد بيدرسن على تسويفاته هو مواقف القوى الدولية الفاعلية، وخاصة الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، التي لم يعد يعنيها كثيراً منذ سنوات التوصل إلى حلّ سياسي للقضية السورية بموجب القرارات الأممية، ولجأت إلى اللامبالاة حيال ما يجري في سوريا، وبالتالي، فإن بيدرسن استند في كل ذلك إلى التوجهات الدولية، ولم يعد يكترث إذا كانت توجهاته تخالف قرارات الأمم المتحدة الذي بنيت مهمته على أساسها، وراح يقبل إملاءات الساسة الروس والإيرانيين ومراوغتهم، التي لم تفضي سوى إلى إفشال مساعي الحل السياسي الأممية.

لا يخفى على أحد، ومن بينهم بيدرسن، أن إيران تستخدم المقار الدبلوماسية من قنصليات وسفارات، لأغراض عسكرية، وخاصة تلك الواقعة في مدن وعواصم البلدان العربية، وبات الحرس الثوري هو من يديرها وليست الخارجية الإيرانية، لكن بيدرسن أراد ركوب الموجة، خاصة أن قصف القنصلية الإيرانية في دمشق يشكل فرصة مناسبة له كي يثبت للساسة الإيرانيين (ومن ورائهم الساسة الروس) تعاطفه معهم، ووقوفه في صفهم، علهم أن يقابلوه بمكافأة على هذا الموقف، تترجم عبر دعم سعيه لعقد جولة تاسعة لاجتماعات اللجنة الدستورية، والقبول بمكان بديل عن جنيف لعقدها.

* كاتب وصحفي سوري

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.