الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عاش الحياءُ… عاش الخَجَل

سهيل كيوان *

إذا كنت تشعر بالحياء والخجل، فقُل الحمد لله أنّني ما زلت إنساناً سَويا. الشُّعور بالحياء، شعور إنساني متقدّم، وهو ما زال يربط الأمة العربية بعضها ببعض. لم يجمع الشُّعور بالألم العرب، كما جمعهم الحياء، فهم يقتلون بعضهم بعضاً في حروب أهلية، أو في صراعات مع جيرانهم العرب بين حين وآخر، حتى الشعور بالاعتزاز القومي في لعبة كرة قدم لم يعد يجمعهم، فالكراهية والتحريض فاق لدى البعض المشاعر الكُرَوية، التي تجمع النقائض، أمّا الشُّعور بالحياء والخجل، فهو الشُّعور الذي يتغلّب على كل نزعات التفرقة والكراهية والصراعات بكل أشكالها، الحياء والخجل في هذه الأيام يكتسح العرب جميعاً.

إنّه الخجل من هذا العجز رغم الكثرة العددية من تقديم أي عونٍ إنساني بصورة محترمة لمليونين من العرب المحاصَرين، الغذاء والدواء والاحتياجات اليومية لا تدخل إلا بالقطارة، يتضوّر الناس جوعاً حتى الموت بينما مئات الشاحنات من الأقطار العربية وشعوبها الكريمة، ومن جهات غير عربية، تقف منتظرة رغم أنف الأمّة، حتى يفسد أكثرها، الشاحنات تنتظر، بينما يقضي الأطفال العرب جوعاً على الجانب الآخر.

يتفنّن الاحتلال بإذلال العرب، يسمح بعبور شاحنة واحدة في كل ساعة، أو لا يسمح، وقد يغضبُ ويقصف المعبر والشاحنة، ويغلق حتى إشعار آخر، وقد ينتظر دخول الشّاحنات حتى يجتمع الناس من حولها ثم يقصفهم ليختلط الدّم بالطّحين. يُنكل الاحتلال بالطّرفين، بالمُرسِل وبالجائع الذي ينتظر. لا شكّ في أنّ أي مواطن عربي في أي قطر كان في الوطن العربي، أو خارجه بغض النظر عن جهته السياسية، وعن طبيعة الحكم في البلد الذي يعيش فيه، يجتاحه هذا الشُّعور بالحياء لرؤية طوابير من الأطفال يحملون الأواني ويتدافعون للوصول إلى ذلك الشّاب الذي يوزّع عليهم الحساء، الجوع كافر، الجوع يذلُّ الأسود والفُهود والأشبال. ما أعظم ذلك الطفل الذي صاح متألّما: لقد أذلّونا! لقد شعر الطفل بالإذلال، فكيف حال الرجال! وأيُّ حياء وخجل هذا الذي يجتاح الأمة! الشُّعور بالحياء عندما يبكي طفلٌ لأنّ الدّور لم يصله قبل نفاد الحساء أو الأرز، أو لأن طفلا آخر سرَق منه إناءه. الشعور بالحياء والخجل، عندما تضطر الأمهات أن يخبزن علف الحيوانات لأبنائهن، وأن يقول طفل بأنّه مصاب بوجع البطن وبالإسهال لتناوله علف الحيوانات، أن يبكي طفلٌ لأنّه لم يأكل منذ يومين، وحتى علف الحيوانات لم يجده. العار.. العار، عندما يبحث الأطفال في القمامة عن حبات تمرٍ جافّة، أو يجمعون طحيناً مخلوطاً بالتُّراب، كي تغربله أمهاتهم بالمنخل لاستخراجه من بين الحصى والتراب، ولكن الرمال ستبقى فيه. صحيح أن دولة الاحتلال هي المسؤول الأول الذي يتخذ من المدنيين هدفاً عسكرياً للانتقام، ودفع الناس إلى اليأس والهجرة، وصحيح أن أمريكا تتحمّل المسؤولية بالتساوي مع الاحتلال، ودول غربية أخرى، ولكن هذا لا يحول دون أن يشعر الإنسان العربي بالحياء والخجل، وحتى العار من أصحاب القرار فيها. من حق كل واحد من الحكام العرب أن يمارس سياسته التي يريدها، وحسابه هذا لدى شعبه فقط، وليس لدى أيِّ شعب آخر، ولكن عندما يكون المدنيون وخصوصاً الأطفال هم المستهدفون بالقتل والتجويع بمنهجية معلنة، فإنه لا حقّ لأيِّ إنسان بأن يدير ظهره لا من العرب ولا من أي نظام في المجتمع البشري، وكل من يتواطأ أو يتردّد في أن يفعل شيئاً ما، كان بإمكانه أن يفعله لوقف المجاعة والمذبحة ولم يفعله، فهو شريكٌ فيها.

رئيس أمريكا فقد الحياء تماماً، فهو يعترف بمقتل ثلاثين ألفاً معظمهم من المدنيين والأطفال، ولكنّه لا يخجل من استخدام حق النقض لمنع قرارات بوقف إطلاق النار، ويتعهّد بمواصلة تقديم السّلاح للاحتلال، لا تفسير لهذا الموقف سوى موافقته الضمنية على نهج الإبادة والتهجير، والعداء المستحكم للفلسطينيين وحقوقهم، واحتقاره للعرب. لا لوم على الشّعوب العربية فهي ليست حرّة التّصرف، فأصغر رجل مخابرات بإمكانه أن يتطاول على أيّ عالم أو مدير جامعة، أو إمام مسجد، أو مُفكر أو شاعر أو كاتب أو فنّان، أو مواطن عادي أبدى موقفاً يتعارض وموقف النظام أو أدانه. لا نلوم الشعوب العربية لأنّها عندما انتفضت للتحرّر من الاستبداد في الربيع العربي تآمرت عليها الأنظمة والعالم بشرقه وغربه، كي تعيدها إلى بيت الطاعة، وإلا فالموت والتّنكيل والتّجويع. وما ثورة الشَّعب الفلسطيني إلا جزء من هذا الكلّ المقموع، الفرق هو أنّ الفلسطيني يُقتل ويقمع بأداة الاحتلال المباشرة، بينما العربي يقمع العربي بالسّوط العربي. تفسّر المساعدات من الجوّ على أنّها عملٌ أفضلُ من لا شيء، هذا صحيح في المنطق، فكل رزمة غذاء ممكن أن تنقذ أكثر من حياة واحدة، وهذا بلا شك أفضل من لا شيء.

الاحتلال يسمح لمن ينسّق معه تحت المظلة الأمريكية، بإدخال أو إلقاء الوجبات الغذائية من الجو، فيركض الطفل والرّجل الفلسطيني وراءها، وهكذا فالموقف الذي يراد منه دعم المحاصرين يأتي بصورة مُذلة ومثيرة للحياء والخجل.

إنها سياسة السُّلطة نفسها على الصعيد المحلي الضيّق، السُّلطة تسمح لرجالها ببعض الامتيازات المحدودة، وقد تطلق سراح شخص ما، أو تتهاون معه في مخالفة بسيطة خدمة لأحد رجالها، وكي تعزّز من قوّته ونفوذه. هذا يعني أنّ واسطة الأردن قويّة، ولكن ليس لدرجة إدخال شاحنات بصورة منظّمة ومحترمة في الطريق البرّي، ولكن يُسمح له من الجو، فهي استعراضية تبدو كعملٍ بطولي، حتى إن دولا عربية أخرى قرّرت تقليد الأردن كي تحظى بهذا المجد، بل إن أمريكا العظمى حذت حذو الأردن وقرّرت إلقاء المساعدات من الجو. كثيرون صاروا يتساءلون، ألم يكن الفقر والحصار أفضل مما آلت إليه الأمور! أليس الخضوع التام حتى أمام ممارسات المستوطنين أفضل من النتيجة التي نراها من تجويع ونبش للقبور واصطياد للناس الواردين على شاحنات المساعدات، وتناول أعلاف الحيوانات! طبعاً هذا أحد أهداف الحصار والتجويع!

الاحتلال لا يتجاوز في وقاحته حتى أولئك الذين يخدمونه بدءاً من الرأس الكبير، حتى جو بايدن رغم كل ما قدّم ويقدّم من دعم للاحتلال، لم يسلم من استهتار نتنياهو به وبتصريحاته، حتى لو كانت شكلية يتبعها دائماً بالتعهد بالسّلاح والدعم المطلق للاحتلال، ولم يتوان ممثل الاحتلال في محكمة العدل الدولية عن اتهام مصر بإعاقة دخول الشّاحنات عبر حاجز فيلادلفيا، ليظهر للعالم على حساب مصر «أم العرب» بأنّه أكثر إنسانية من حاكمها. هذا التصريح الإسرائيلي ليس مجرّد كلمات عابرة قيلت، هذا سوف يدخل سجلاّت محكمة لاهاي وسوف يراه باحثون في المستقبل ويعتمدونه كمرجعية، وسيكون من الصّعب جداً إثبات عكس ذلك، أو نفي هذا الادعاء ما دامت المساعدات الإنسانية تتوقف عند حاجز فيلادلفيا وتنتظر أياماً وأسابيع، وهناك من يقول بأنّ إحدى الشخصيات المتنفذة من شمال سيناء والمقرّبة من النظام تجبي الرسوم الباهظة على كل شاحنة مساعدات! دون أن يفعل النظام المصري أمرا حقيقياً يدحض هذه الادعاءات، سوى البيانات الغامضة المعتادة في لغة الرئيس المصري.

* كاتب فلسطيني

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.