الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

«النفاق الأمريكي».. ومدى جدية قرارات مجلس الأمن !

بعد أربع محاولات لإصداره قراراً يتعلق بوقف الإبادة في غزة نجح مجلس الامن في المحاولة الخامسة والتي صاغتها الدول العشر غير دائمة العضوية في تبني قرار رقم 2728 يُطالب فيه بوقف فوري، مؤقت، لإطلاق النار خلال شهر رمضان بعد 176 يوماً كاملة بلياليها، انقضت على حرب “إسرائيل” ضد الفلسطينيين في غزة، بكل أهوالها، وما نجم عنها من مآسٍ غير مسبوقة، ضمّنها أكثر من 135 ألفاً من الضحايا الفلسطينيين، قتلى وجرحى وأسرى، ومفقودين تحت ركام دمار حوالي 70 في المئة من عمران غزة، قرار تحترمه جميع الأطراف! والإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن! فضلاً عن ضمان وصول المساعدات الإنسانية لتلبية احتياجات السكان الطبية وغيرها من الاحتياجات الإنسانية، وأن يمتثل الطرفان لالتزاماتهما بموجب القانون الدولي في ما يتعلق بجميع الأشخاص الذين يحتجزونهم، إضافة إلى الحاجة الملحة لتوسيع تدفق المساعدات الإنسانية للمدنيين وتعزيز حمايتهم في قطاع غزة بأكمله، ويُكرّر مطالبته برفع جميع الحواجز التي تحول دون تقديم المساعدة الإنسانية على نطاق واسع، بما يتماشى مع القانون الدولي الإنساني؛ دون أن يعرف أحد، أي أحد، كيف سيتم ذلك، باعتبار أن القرار لم يصّدر وفقاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

أي أن ذلك ليس وقفاً للحرب الهمجية التي تمارسها آلة القتل الإسرائيلية المدعومة غربياً وبشكل خاص من الولايات المتحدة، ولكنه فقط وقف لإطلاق النار، إن حصل، خلال شهر رمضان أي لمدة 8 أيام المتبقية منه فقط، ومقابل هذا الوقف إفراج فوري وغير مشروط عن الرهائن الصهاينة، بمعنى أنه لا يُسمح لكم أيها الفلسطينيون أن تبادلوا الرهائن بالأسرى الفلسطينيين!؛ والإدارة الأميركية، التي مررت القرار المذكور هذه المرة، فعلت ذلك بسبب الضغوط الناجمة عن تزايد الحراكات الشعبية المتعاطفة مع الفلسطينيين، في عواصم ومدن الدول الغربية، وفي الولايات المتحدة ذاتها، والتي تدين “إسرائيل” بوصفها تنفذ حرب إبادة جماعية ضدهم، إضافة إلى أن الإدارة الأميركية في موقفها الجديد تحاول التكيّف مع حلفائها من الدول الغربية، الذين نأوا بأنفسهم عن دعم حرب “إسرائيل” ضد الفلسطينيين، وهو ما تبين في التصويت على قرار لوقف إطلاق النار في الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون أول/ ديسمبر 2023، إذ صدر ذلك القرار بأغلبية 153 دولة (من أصل 193 دولة)، بمعارضة عشر دول فقط بينها الولايات المتحدة و”إسرائيل”، ودولتان اوروبيتان فقط هما النمسا وتشيكيا، في حين امتنعت بريطانيا وألمانيا وإيطاليا عن التصويت، وصوتت باقي الدول الغربية مع وقف إطلاق النار حينها بما فيها فرنسا وإسبانيا والسويد، إلى جانب أستراليا وكندا وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا مثلاً.

وحالياً في القرار الراهن، هذا هو كل ما استطاع فعله مجلس الامن المعني بالحفاظ على السلم والأمن الدوليين، ولكن، السؤال الذي يطرح نفسه: هل سيتمكن هذا القرار بعجره وبجره من إيقاف آلة القتل المُنفلتة من كل عقال؟ وبالتالي هذا القرار لا يجب أن يأخذنا إلى مُبالغات ولا إلى عَقدْ أوهام، حول الخلاف الأميركي- الإسرائيلي، ولا إلى الرهان على قرار مجلس الأمن الدولي، فبغض النظر عن الجفاء الشخصي بين بايدن ونتنياهو، فإن الإدارة الأميركية تقف مع “إسرائيل” في استمرار حربها في غزة، وتقديم الدعم لها بالأسلحة والذخيرة، وتغطيتها سياسياً ومالياً!، رغم كل حديثها عن تجنيب الفلسطينيين ويلات الحرب، وتقديم مساعدات إنسانية لهم، وضرورة إيجاد أفق في اليوم التالي يفضي لإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع!

إن تاريخية تعامل هذا الكيان الصهيوني مع قرارات الأمم المتحدة أو قرارات مجلس الأمن تعطي الجواب الواضح، ولا يحتاج هذا أن نتوغل في التاريخ كثيراً للعام 1947 وقرار التقسيم، ولا للعام 1967 والقرارين 242 و 338 عندما أعرب مجلس الأمن عن قلقه المتواصل بشأن الوضع الخطر في الشرق الأوسط، وأكد حينها عدم القبول بالاستيلاء على أراضٍ بواسطة الحرب، ودعا و بشكل واضح إلى سحب القوات الاسرائيلية من الأراضي التي احتلتها، ولا نحتاج للعودة للعام 1993 حينما أعطت اتفاقيات أوسلو للفلسطينيين وطناً مجزأً تتخلله الحواجز والمستوطنات، وتربط أجزاءه المبعثرة معابر وحواجز تفتيش تسيطر عليها قوات الإحتلال، ومع ذلك لم يُنفّذ منها إلا النذر اليسير، بل على العكس من ذلك أعاد الكيان الصهيوني احتلال ما كان تحت سيادة السلطة الفلسطينية، فقوات الاحتلال تداهم الضفة الغربية بشكل شبه يومي على مرأى ومسمع العالم أجمع.

لكننا سنعود إلى التاريخ القريب وقرار محكمة العدل الدولية الذي صدر منذ شهرين متضمناً إلزام “إسرائيل” باتخاذ تدابير تحفّظية محددة لمنع ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، لكن دولة الإحتلال لم تلتزم بقرار محكمة العدل الدولية، ولم تتخذ أي تدابير على العكس من ذلك زادت وتيرة الأعمال الوحشية، رأينا ذلك باقتحام مشفى الشفاء، آخرها للمرة الرابعة منذ أيام، وإعدامات المرضى والمدنيين داخله بالعشرات، وفي الكثير من الفيديوهات المسربة لاستهداف جيش الاحتلال الصهيوني للمدنيين الفلسطينيين العُزل عبر مُسيراتهِ الحربية، إضافة لاستمرار سلاح التجويع الذي يُعد جريمة حرب وفق القوانين الإنسانية الدولية.

لم يحترم هذا الكيان ومنذ تأسيسه القوانين الدولية أو حتى الاتفاقيات الموقعة من قبله، بل على العكس من ذلك كانت القرارات الدولية أو الاتفاقيات هي فرصة له لإعادة تموضعه وتوسعه الاستيطاني من جديد، فكيف لنا أن نستشرف أملاً جراء قراراتٍ جديدة لمجلس الأمن أو لمحكمة العدل الدولية؟ والتاريخ القريب والبعيد يُخبرنا، كيف تم التعامل مع القرارات السابقة، فلماذا يكون القرار الأخير مختلفاً عن سابقيه!

لعل من نتائج القرار- في حال تنفيذه- توفير فرصة لاستراحة المُحاربين، فإذا كان الجنود الصهاينة لديهم أماكن استراحة وتدابير لتبديل الوحدات التي أنّهكت في القتال، فإن مقاتلي المقاومة الفلسطينية بحاجة إلى استراحة ضرورية من أجل التقاط الأنفاس وإعادة تنظيم قواتها واتخاذ التدابير اللوجستية الواجبة، فلقد وضع القرار 2728 النزاع بين “إسرائيل” والفلسطينيين على مفترق طرق حاسم، فإما أن يعّبر الطرفان من خلال هذا القرار نحو التوصل إلى هدنة والتقدم مستقبلًا باتجاه تسوية الأمور العالقة، وإما الدخول في نفق الرفض والتعنت كما عودنا الكيان الصهيوني، الأمر الذي سيؤدي لاستمرار القتال، وقد يتطور ويتوسع باتجاه رفح، وبالتالي إدخال المنطقة في أتون نزاع دموي طويل؛ ربما تُشكل التجربة الفلسطينية مع قرارات مجلس الامن والقرارات الدولية بشكل عام درساً، في كيفية التعامل الغربي مع قضايانا، فعندما احتل صدام حسين الكويت في 2 أب/ أغسطس 1990 تحرك حينها العالم الديمقراطي ومجلس الأمن ليقوم بمهمته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين! فبعد أقل من 6 أشهر شنت 34 دولة الحرب على العراق لينسحب من الكويت تنفيذاً لقرار مجلس الأمن حول ذلك.

لكن هذا الإجراء هو إجراء انتقائي يتبع لحسابات السياسة ولا يتبع لحسابات الحقوق والسلم الأهلي، فما جرى على العراق لا يُسمح له أن يجري على الكيان الصهيوني ومجاميع عصاباته الإرهابية الإحلالية، ولم يُسمح أن يجري ضد بشار أسد ونظامه الإجرامي وميليشياته الإرهابية الطائفية، وهو الذي شرد ودمر واستخدم الأسلحة المُحرّمة دولياً ضد السوريين، وكأن هناك رسالة من آل الأسد إلى نتنياهو بشأن تدمير المدن العربية في فلسطين كما في سورية لإخضاع ساكنيها، وهو ما أشار له الأستاذ الجامعي “جان بيير فيليو” في مقالته بصحيفة “لوموند الفرنسية” من (أن “إسرائيل” تواصل بغزة، وعلى نطاق غير مسبوق، تدميراً ممنهجاً للمدن يمكن مقارنته بـ”الإرهاب الذي لا يرحم كما مارسه الدكتاتور السوري حافظ أسد في مدينة حماة عام 1982)، وأضاف: (إن دكتاتورية آل أسد، في عهد الأب حافظ عام 1982 ثم تحت حكم ابنه بشار منذ عام 2000، تعاملَ مع السوريين كجيش احتلال جاهز لارتكاب أسوأ الانتهاكات في حال وجود تهديد للوضع المُلائم لسيطرتها، مُذكراً بما فعلوه في مدينة حماة)، وبهذا المعنى كما يقول “جان بيير فيليو”: (يمكن بشكل مشروع عقد مقارنة بين الإرهاب الذي أطلقه نظام آل أسد ضد حماة في عام 1982، والإرهاب الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي في غزة) ثم: (ومع ذلك فإن الاختلافات بين حماميْ الدم واضحة، إذ لم يتم الكشف عن عمليات القتل في حماة للعالم الخارجي إلا بعد فترة طويلة من هجوم الإبادة الذي شنه نظام آل أسد دون بث أي صور، أما معاناة غزة فتحدث، بالتأكيد خلف أبواب مغلقة، ولكنها تُعاش منذ أكثر من 5 أشهر ونصف الشهر، مع طوفان من الصور الساحقة التي لا جدال بشأنها على الشبكات الاجتماعية، وقد أحدث استشهاد حماة ما تمناه حافظ أسد من صدمة دائمة للشعب السوري؛ وعندما وقع جزء من مدينتي حمص وحلب في أيدي فصائل الانتفاضة السورية بعد 2011 في عهد بشار أسد، لم يتم كسر المقاومة في حلب، رغم القصف العشوائي الذي لا تزال آثاره مثل الجروح الغائرة التي ترمز للانتقام الدكتاتوري، إلا بفضل تعزيزات القوات الجوية الروسية في ساحةٍ من الأنقاض؛ وتدمير أكثر من نصف غزة كما دُمرت حلب أمام أعين العالم أجمع هو تماثل بين مساعي الدكتاتور السوري الفاشي والمُحتل الإسرائيلي لإخضاع السكان المحرومين من كل أنواع الحماية المادية والرمزية بأشد أنواع القسوة)، وأشار “جان بيير فيليو” (إلى أن مثل هذا التدمير المنهجي لمراكز الحضارة لا يمكن ارتكابه إلا باسم “الحرب على الإرهاب” التي يُفترض أنها تبرر جميع الانتهاكات، ولذلك كان بشار أسد راضياً عن نفسه بفعل “الحرب على الإرهاب” التي تُلغي أي تمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية).

وهكذا تم تدمير أكثر من نصف غزة أمام أعين العالم أجمع، وهي أكثر المدن الفلسطينية اكتظاظاً بالسكان وهي مليئة بالتاريخ والذاكرة، في تماثل حدَ التطابق بين مساعي الدكتاتور السوري المُجرم في مخيم اليرموك وباقي المدن السورية، ومساعي المُحتل الإسرائيلي لإخضاع السكان المحرومين من كل أنواع الحماية المادية والرمزية بأشد أنواع القسوة، ولازال هذا المجرم الكيماوي طليقاً ويُهدد دول المنطقة بشحنات الكبتاجون القاتلة مدعوماً من الاحتلال الإيراني والاحتلال الروسي، دون أي محاسبة جدية وحقيقية من المجتمع الدولي بزعامة أمريكا، مِثلهُ مثلَ الكيان الصهيوني النازي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.