الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

«جوستين» وغيلين: دليل دو ساد وأيبستين لاستباحة النساء!

حسام الدين محمد *

سجنت السلطات الفرنسية الماركيز دانتون الفونس دو ساد في عام 1763، بتهمة ارتكاب «إفراط شديد» في ماخور. بفضل الأصول الأرستقراطية لعائلته، لم يطلق سراح دو ساد خلال أسابيع فحسب، بل صار في العام التالي عضوا في برلمان مقاطعة بورغوندي. متسلحا بهذا المنصب، سيذهب دوساد لباريس، حيث سيكتسب «شهرة واسعة» كجلاد نساء.

تلخص واقعة حدثت في عام 1786 شخصية، ومن ثم أدب دو ساد: خطف امرأة وقيّدها وجلدها وجرّحها بسكين ثم سكب شموعا سائلة على جروحها. كلما كانت المرأة تصرخ وتتوجع كان الماركيز يستثار أكثر فأكثر: كانت المتعة لدى دو ساد ترتبط بالوجع والتعذيب. خلال أطوار سجنه المتعاقبة بدأ دو ساد يقدم تجاربه وأفكاره حول المجتمع والدين والسلطة والجنس، في أعمال أدبية جعلته كاتبا مقروءا وعلما على الساديّة. تمكنت المرأة المروّعة من الهرب عارية، حيث سلّمها من أنقذوها للشرطة. عوقب دو ساد مجددا بالسجن أسابيع مع غرامة صغيرة ليتابع الماركيز خطّة حياته وأدبه: نفذ في مرسيليا 1772 «حفلة جلد» بمومسات كدن يتسممن بعقاقير أعطاهن إياها. حكم هذه المرة بالإعدام ليفرّ هاربا مع الأخت الصغرى لزوجته. بعد عودته لفرنسا ستهرب صبيتان من قصره فيتهم بجرائم اغتصاب. يهرب دو ساد مجددا ثم يتهم ويسجن ويطلق سراحه للمرة الخامسة، ليحكم مجددا وينقل للباستيل حتى عام 1789 لينال حريته بعد الثورة الفرنسية. الطريف، تاريخيا، أن السجن الأخير للماركيز جرى بسبب انتقاده نابليون (الذي سيمنع نشر روايته «جوستين») وسيموت نتيجة ذلك في مصحة عقلية عام 1814.

مديح الرذائل وترذيل الفضائل!

تصور رواية «جوستين» مصائر شقيقتين من عائلة غنية أفلست، ومات أبواهما لتتمسك جوستين، الطفلة الصغرى، بالفضيلة، ما يعرضها لأشكال رهيبة من التعذيب والشقاء، فيما تتجه أختها جولييت إلى الرذيلة والتمتع بالملذات الجسدية، لترتقي عاليا في السلم الاجتماعي. تتكرر رسالة أن «الفضيلة لا تجدي نفعا» عبر عشرات الحوادث التي تحصل مع جوستين، مع كل صنوف رجال ونساء المجتمع: ساسة ورأسماليين ورهبان ولصوص ونبيلات وسيدات محتالات.

يختتم دو ساد كتابه بملاحظة يقول فيها إن كاتب الرواية «عجوز أنيس أنيق يحيا في كنف عائلة سعيدة، ينفر من معظم ما تفعله شخصيات هذه الرواية، ولا يتماثل معهم قط في سلوكياتهم وأقوالهم» ويمكن اعتبار هذا التوضيح نوعا من السخرية السوداء، لأن هذا التوضيح يتناقض بشكل فاضح مع كل ما يمسّ دو ساد بصلة.

لا يقصّر دو ساد في توصيف أشكال الانحطاط الرهيب للشخصيات، التي تقوم في القصة بتعذيب جوستين والتنكيل بها واستغلالها، لكنه يعطي بعض هذه الشخصيات قدرة على المحاججة الفلسفية لمدح الرذائل وترذيل الأخلاق والفضائل. تقول إحدى الشخصيات: «في عالم فاسد كليا مثل عالمنا، فالرذيلة هي الحل الوحيد. ومن لا يسقط في براثنها مع الباقين، فلن تعود له فرصة، سيدوس عليه الجميع» و«ما يعتقد أنه شر وجريمة هنا في فرنسا، قد يعتبر جديرا بالثناء وفضيلة في مكان آخر» و«الفساد مسعى عام عند البشر، ومن لا يفسد مع الفاسدين يكون نقيضا لهذا المسعى العام» و«لو تعرفت على عادات الأمم وأخلاقها، فستتفقين معي على أن الندم هو الثمرة الوحيدة للجهل والتحيز».

يصور أحد فصول الرواية طائفة تدير محفلاً «مدعوما بتمويل ضخم» ويوظف «الرهبان» فيه 12 امرأة مؤتمنات على جلب أعداد منتظمة من الفتيات الجدد. يمكن استخدام هذه الحبكة الفرعية لربط قصة دو ساد جيفري أيبستين، الملياردير الذي اتهم بجرائم اغتصاب ودعارة وتحرّش لمئات الفتيات أغلبهن قاصرات. جمع أيبستين في قصته خلاصات لأشكال الانحطاط والإجرام، التي خاضها دو ساد وكتب صورا عنها في رواياته، كما كان مثالا مثل دوساد، في الحظوة التي تحيط بالطبقات العليا التي تجمع بين الفساد الماليّ والسياسي، وكما سمحت ارستقراطية الماركيز له بالتخلص من آثار جرائمه عدة مرات كذلك تمثل حكاية الملياردير الأمريكي نموذجا فظيعا في القدرة على التهرب مرارا من العقاب.

إنهن لا شيء.. مجرد حثالة:

نقل دو ساد ثنائية جوستين وجولييت، الشقيقتان الفاضلة والفاجرة في الرواية من علاقته بالشقيقتين بيلاجيه، زوجته، وآن، عشيقته، فيما دارت الثنائية لدى أيبستين بين غيلين ماكسويل، عشيقته، وشريكته التي حكم عليها بتهم الإجرام الجنسي، من جهة، ومئات الفتيات القاصرات اللاتي تشاركا على استغلالهن جنسيا، من جهة أخرى. يغني انضمام غيلين حكاية أيبستين ويرفعها إلى «مستوى أعلى» مع إدماج شبكة امبراطوريته المالية في شبكة علاقاتها السياسية، التي تتصل بالملوك والرؤساء وأصحاب المؤسسات الإعلامية، ثم يجعلها، مع وصولها إلى مآلاتها الكارثية، حصيلة فضائحية هائلة، لعائلتين يهوديتين، كانتا تتمتعان بنفوذ سياسي ومالي هائل، لكنهما تقعان على سيف هذا النفوذ الحادّ نفسه، فيموت ماكسويل الأب بزعم انتحار، مع شبهات بعلاقة الموت بالمخابرات الخارجية الإسرائيلية (موساد) ويموت أيبستين أيضا بزعم انتحار، مع شبهات كبيرة أيضا، يدعمها تكليف أخيه محققا خاصا للتفتيش في حيثيات موته، ليخلص إلى أنه قتل ولم ينتحر!

تكشف الوثائقيات التي صدرت عن أيبستين وماكسويل الأعطاب الفردية والعائلية للشخصية، كما تفضح، وهذا الأهم، طرق اشتغال أفراد النخب السياسية والمالية وأنماط تفكيرها. حاول دو ساد تقديم فلسفة تحاجج في صحة أعماله، وقد حاولت غيلين ماكسويل بدورها نشر سيرتها في كتاب. تعطي أحاديث ماكسويل مع «الكاتبة الشبح» التي كلفتها بتأليف الكتاب لمحة عن «فلسفة» أيبستين وماكسويل. تسأل الكاتبة غيلين عن أولئك الفتيات اللاتي تقوم باستدراجهن إلى أحضان عشيقها فتقول لها: إنهن لا شيء.. مجرّد حثالة. إذا أضفنا فضائح المنتج السينمائي هاري واينستين إلى قصتي أيبستين وماكسول (الابنة والأب) سنلمح أيضا عنصرا سياسيا فاضحا آخر وهو العلاقة مع إسرائيل، فواينستين، الذي سبق له أن أنتج فيلما ينتقد الدولة العبرية، استعان بموظفي موساد سابقين لمطاردة خصومه وتقصي أسرارهم، ومحامي أيبستين، ألان ديرويتش، المتهم بدوره بممارسة الجنس مع قاصرات من شبكة أيبستين، كان مرشحا رئيسيا لإسرائيل للدفاع عنها في محكمة العدل الدولية (وواضح أن أثر اشتداد فضائح أيبستين ومحاميه جعل تل أبيب تعدل عن الاختيار) ويضاف إلى ذلك علاقة ماكسويل الأب المعروفة بالموساد، تحتاج هذه العلاقة بين أنماط الفساد السياسي والمالي والجنسي للنخب اليهودية في الغرب وإسرائيل إلى تفحص أكثر. (هناك دراسة جيدة في موقع كاونتر بانش عن ديرويتش وإسرائيل).

ما يميز دو ساد، في النهاية، هو أنه أصبح كاتبا فأعطى لحياته معنى أعمق، وساهمت أعماله الأدبية في شرح الشرط الإنساني الشديد التعقيد، وأخرجت المسألة من كونها حكايات مهووس جنسي من الطبقة الحاكمة، إلى جعلها نافذة على مشهد تاريخي رهيب للانحلال الاجتماعي والفساد السياسي الذي أدى لصعود الثورة الفرنسية ولتحوّل دو ساد إلى ظاهرة عالمية.

* كاتب سوري من أسرة «القدس العربي»

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.